أنطولوجيتان للشعر السوري الراهن.. لحظة بين القاتل والقتيل
لا مرجعية ولا آباء للكتابة السورية الجديدة البازغة في سنوات الحرب، والتي تطالعنا اليوم بإصدارين في هذا السياق. الأول جاء من مدينة «بون» الالمانية بعنوان «بورتريه للموت - «قصائد تحت القصف» وهي تقدّم نفسها كـ «أنطولوجيا شعريّة من ساحة الموت»، نقلها إلى لغة «غوته» كل من سرجون كرم وسيباستيان هاينه، وراجعتها ودققتها كورنيليا تسيرات. هذه الأنطولوجيا المصغّرة ضمت تسعة شعراء سوريين من لقاء «ثلاثاء شعر» الذي يديره الشاعر والصحافي زيد قطريب بشكل أسبوعي منذ عام 2012؛ بينما صدر الكتاب الثاني عن «دار التكوين» (دمشق)، وجاء بعنوان «سرير تتقافز فوقه الأسماك» كجزء من فعاليات مهرجان جميعة «نحنا الثقافية» السنوي. الكتاب الذي جمع هو الآخر أصوات شعرائه الثمانية عشر وقدّم لها الروائي خليل صويلح وعرّفها على النحو الآتي: «نصوص بثمار بريّة تنطوي على ألم ذاتي محض، أفرزته الحرب وتوابعها ببركان قيد الانفجار، لننصت إذاً إلى هذه الأصوات وهي ترمم حطامها في هدنة طارئة مع الموت».
الإصداران الطازجان كان لهما قصب السبق - على ما يبدو - بتوليف أصوات جديدة نمت بعيداً عن بروتوكولات الخطة الرسمية لمؤسسات ثقافية ما فتئت تصدّر شعراء الموجة الرعناء الواحدة، لتتدخل قوى المجتمع الأهلي هذه المرة وتأخذ بيد أصوات جريئة وصادمة لجهة الشكل الفني الذي جاءت قصائده لتعلن قطيعتها عن أي انحياز لجيل من الأجيال التي كانت «أنطولوجيا الشعر السوري» (منشورات دمشق عاصمة للثقافة العربية - 2008) قد حققتها هي الأخرى كدليل شبه أخير لشعراء سوريين على اختلاف مراحلهم وتناقض حساسياتهم إزاء مفهوم الكتابة الجديدة، فالطلاق الذي أنجزته الحرب في عامها السادس بين النص والمتلقي لا يبدو أنه يخضع بأي حالٍ من الأحوال للزيجات السابقة، لا «هجمة الستينيات» كما يسميها شوقي بغدادي عن شعراء ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين، ولا «انعطافة السبعينيات» كما يطلق عليها منذر مصري في تصديره الشهير عن شعراء تلك المرحلة.
كتابة عشبية
في نصوصهم الجديدة نعثر على ميل واضح إلى هجرة «القدود» التي صاغها شعراء كثر عن أطروحة سوزان برنار حول مفهوم قصيدة النثر، إذ من الواضح أن شعراء الحرب السورية كتبوا نصوصهم على مستوى غرائزي صرف، فلا هم ملحق لحداثة شعرية تبدت ملامحها مع الماغوط وأدونيس وكمال خير بك ونزيه أبو عفش، ولا هم أيضاً امتداد طبيعي لتك التنويعات اللغوية المنشاة التي تزعمها شعراء ما قبل الحرب. هكذا يمكننا التمهل كثيراً قبل أن نسوق مصادرات نقدية على التجربة الطالعة لتوها من جحيم لم تشهد البلادُ له مثيلا في تاريخها الحديث والمعاصر، ولئن تماهت بعض النصوص مع انخطافاتها وعزلتها واحتلاماتها المبكرة، إلا أن ذلك لا يسمح ولا بشكل من الأشكال القياس عليها بقياس غير صرخاتها المفتوحة في وجه القتل والخراب العام، ورغبتها البريئة في تكسير النمطية التي خلّفتها اجترارات مطوّلة لقصيدة النثر السورية، تلك النمذجة المرهقة والبائسة عن أسئلة الشاعر مع السماء ولوعته واغترابه العولمي وتمثيله المتقن لدور الضحية وصوتها، صار في قصائد كل من أحمد ودعة ومناهل السهوي ومرح إسماعيل وخلود شرف وراما وهبة وأحمد سبيناتي ومعاذ زمريق وهنادي السهوي، وأحمد علاء الدين وأسامة الدياب وغياد حمودة وبسمة شيخو وآخرين، تفخيخاً للغة واستدراجاً أشبه بكتابة عشبية نمت مفرداتها المرتعشة كغضاريف ومستحاثات عن بشر كانوا قبل دخول القاتل إلى غرفة تنفيذ الإعدامات الجماعية.
حوارية ساقها هؤلاء عن لحظة مديدة بين عيني القاتل والقتيل، ووفق تبادل أدوار مضنٍ، لغة «فرحة» من كثرة اكتظاظ القتلى واحتشاد اللحم السوري في مفرمة وطنية واحدة، ففي قصائد الحرب هذه أصبحت اللغة بعيدةً عن وظائفها التواصلية والبلاغية في آنٍ معاً، مدهشة من كثرة انسيابها عن شعراء يسيرون في نومهم بكل سلاسة بين شوارع الموت وتذابح الأخوة، حيث تعبّر النصوص عن أبدية الشعر وموت اللغة القديمة بكل اكتشافاتها المنصرمة، ليكون «التفكير بالصور» سمة بنيوية لأسطرة اليومي الدامي، وابتعاث مونولوج جماعي واحد عن الدم المتدفق من أفواه الضحايا، حيث المدينة هي المكان الأوفر حظاً في توظيف غرضي الهجاء والرثاء في الجاهلية السورية الأكثر نقاءً من من أغراض «المديح الرسمي» و «النسيب الحداثي» و «الغزل النثري» و «الاعتذار الوجودي». نصوص كتبها الخوف، الخوف بكل ما في الكلمة من معنى من ضعف ووحشة ورعب من شيء اسمه إنسان. نصوص شاهد أصحابها حز أعناق أترابهم مع شعور كامل بفقدان الأمل بالنجاة.
سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد