الذئب والحمل يريدان الديمقراطية
الجمل ـ عبد الله علي: التحول نحو الديمقراطية هو الشعار الأساسي الذي يطرحه ما يسمى "ربيع الثورات العربية". لكنَّ قراءة الواقع العربي المعاصر بشكل دقيق تقتضي من القارئ له؛ أن يقرَّ بأن شعار الديمقراطية كانت رايته مرفوعة في سماء المنطقة قبل هذا الربيع بزمن طويل يقارب العقدين من الزمن وتحديداً منذ انهيار المنظومة الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
فمن المعلوم، أنه منذ ستينيات القرن الماضي ساد في معظم دول العالم الثالث ومنها سوريا، شعار الانتقال إلى الاشتراكية. وقد كان لتبني هذا الشعار تأثيرات كبيرة على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا، وهي تأثيرات تكاد تتطابق في جميع دول العالم الثالث التي عاشت محنة ذلك الشعار. والتأثير الأهم الذي نريد التنويه إليه هو أن طرح شعار الانتقال إلى الاشتركية كان يعني فيما يعنيه تغييب أي مطالبة بالديمقراطية. وتفسير ذلك أن شعار الديموقراطية قد ارتبط في التاريخ الحديث بما كان يعرف، في الخطاب الماركسي خاصة بـ "الثورة البورجوازية" بوصفها "ثورة على الإقطاع" وجسراً إلى الثورة الاشتراكية. ومن منظور الخطاب اليساري أو التقدمي عموماً كان ينظر إلى القرن العشرين على أنه قرن "الانتقال إلى الاشتراكية"، الشيء الذي يعني الانتقال من الديموقراطية السياسية البورجوازية إلى الديموقراطية الاجتماعية العمالية. وعندما قامت الثورة الروسية إثر الحرب العالمية الأولى، ونجحت إثر الحرب العالمية الثانية في تشكيل معسكر دولي حولها واستقطاب معظم الحركات الاشتراكية في العالم، صار الحديث عن "الديموقراطية" يعتبر عند هذا المعسكر انحرافاً يمثل ردة إيديولوجية وموقفاً سياسياً معادياً.
لكن بعد سقوط المعسكر الشيوعي منذ عقدين من الزمن، وما رافق هذا السقوط من انكشاف فاضح لفشل عملية الانتقال الاشتراكي في دول العالم الثالث التي كانت تدور في فلك ذلك المعسكر، كان من الطبيعي أن نرى شعار الديمقراطية يعاود الظهور من جديد في هذه الدول كي يملأ الفراغ الناجم عن سقوط راية الاشتراكية.
وإذا كان شعار الانتقال إلى الاشتراكية جرى رفعه تحت مظلة المعسكر الشيوعي، فإن شعار التحول إلى الديمقراطية تمَّ رفعه تحت مظلة المعسكر الرأسمالي الذي كان قد انفرد بقيادة العالم. ولاشكَّ أننا نذكر كيف استغلت الولايات المتحدة احتلال العراق للترويج لشعار التحول الديمقراطي ومطالبة دول العالم الثالث وخاصة دول الشرق الأوسط بضرورة الالتزام بهذا التحول والعمل على تحقيقه، وذلك بعد أن ضمنت هذا التحول في دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق. وأكثر من ذلك صار عدم تبني الحكومات لخيار الديمقراطية أو تلكؤها في تبنَّيه يعرضها للعزلة والعقوبات من قبل المجتمع الدولي الذي يمثل في حقيقته مجموعة الدول العظمى التي كانت تسمى بالإمبريالية العالمية.
*****
هذه القراءة التي قدمناها فيما سبق، تؤكد لنا من جهة أن شعار الديمقراطية هو مطلب إمبريالي أو رأسمالي أو أميركي معزز بدعم المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى لا يمكننا إغفال أن الديمقراطية في ظل ربيع الثورات الحالي أصبحت تمثل أيضاً مطلباً شعبياً وجماهيرياً شديد الإلحاح.
معنى ذلك أننا أمام حالة فريدة يسعى فيها كلٌّ من الذئب والحَمَل نحو نفس الهدف ونفس المطلب: الديمقراطية. ووفق تعبير المفكر العربي محمد عابد الجابري فإنه "عندما يجتمع الذئب والحمل على الدعوة لشيء ما فهناك شيء ما آخر" والمقصود أن أمريكا والغرب عموماً ينادون بالديمقراطية، ونحن في دول الشرق الأوسط ننادي أيضاً بالديمقراطية، فهل هذه الديمقراطية التي ننادي بها جميعاً هيَ هيَ، أم أن لكل طرف من الطرفين غاية وراء ما يدعو إليه؟
بعبارة أخرى: هل يمكن للمصالح التي تقف وراء تبني الدول الغربية لاستراتيجية الديمقراطية أن تتوافق مع المصلحة الشعبية التي تقف وراء تبني ربيع الثورات لمطلب الديمقراطية؟
لا نفكر هنا بمنطق "المؤامرة" ولكن علينا ألاّ ننسى أن لدينا تجربة تاريخية مع هذه الدول الغربية التي كانت في وقت ما دولاً تستعمر بلادنا. وتدلنا هذه التجربة على وجود فجوة كبيرة بين الشعارات التي تطرحها هذه الدول وبين السلوك الذي تتخذه بذريعة تحقيق تلك الشعارات. وتجربة "الانتداب" التي جرت بحجة نقل الدول المنْتَدَبة إلى طور التقدم والحداثة وانتهت باحتلال الأرض وسرقة الثروات وقمع الشعوب وابتزاز خيراتها، ما تزال خير مثال على الفجوة التي أشرنا إليها والتي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القوى الاستعمارية كانت أكبر عقبة تقف في وجه التقدم والتطور خلافاً لكل ما كان يقال عكس ذلك.
وهكذا لا يكون من الصعب علينا اليوم أن نرى مدى جسامة المأزق الذي نجد أنفسنا عالقين به، بعد أن تأكدنا بصورة يقينية أن ما يريده الذئب المتربِّص بنا هو نفسه ما نريده نحن! وأن نرى كذلك مدى خطورة الموقف الذي يدفعنا إلى السعي نحو نفس الغاية التي يسعى إليها عدونا، وبإمكاننا أن نتخيل ما يمكن أن يحصل عند التقاء الذئب والحمل في نقطة واحدة!
ليس علينا بالتأكيد أن نتهم أنفسنا بالخطأ أو الغباء بسبب هذا التوافق بين ما ندعو إليه وما يدعو إليه الغرب، فالديمقراطية مطلب حق. وليس علينا أن نتراجع عن السعي نحو مطلبنا والعمل على تحقيقه، لأن الديمقراطية لا غنى عنها في عالم اليوم. ولكن علينا بكل تأكيد أن لا نتغافل عن الخطر الذي يمثله الذئب وألا نبالغ في الآمال وفي الثقة بالنفس وألا نسمح لأنفسنا بالانحراف عن طريق الديمقراطية التي نريدها إلى طريق الديمقراطية التي ينتظرنا الذئب المتربص بنا على رأسها.
إضافة تعليق جديد