المرأة التي خانت فكرة الذكور عن الجمال
ظل الجسد الانثوي طويلا يلهمها جزءاً عظيماً من حيوية رغبتها في أن تتخذ موقفاً مضاداً من العقل المباشر. كانت المسافة التي تفصل بينها وبين العقل تتسع باستمرار. لم تكن لويز بورجوا، الفنانة الفرنسية الأميركية (1911- 2010) على وفاق، يوماً، مع اي تفسير عقلي مقنن لسلوك الجسد، في نفوره واستسلامه على حد سواء. لقد أدركت في سن مبكرة أن للأنوثة قوانينها الملغزة، برّيتها الوحشية الشاسعة التي لا يمكن التعرف الى مساحاتها من خلال أدوات قياس متاحة. أشبه برؤيا تعكف على غموضها باعتباره وليد عزلتها. هناك واقع يمكنه أن يكون متخيلاً، هو الحاضنة لبداهات تنبعث من الجسد لتؤسس لمعنى لا يتكرر. واقع يؤكد خصومته لكل معنى يمكن تفكيكه والسيطرة عليه، وصولا إلى القبض على أسراره التي تتشظى على نحو دائم.
بالنسبة اليها، فإن الأنوثة تخلق جسدا لمرة واحدة لا تتكرر، جسداً مكتفياً بذاته وهو يقول الحقيقة، لكنها حقيقة لا يمكن القياس عليها مثل ظاهرة بسبب استثنائيتها. فجسد ينطوي في ذاته على الحقيقة، هو أشبه بكتلة متماسكة تهبط من الفضاء فجأة من غير تمهيد مسبق. هكذا، فإن الانوثة التي تصنع لويز بورجوا لها مقتربات شكلية، لا يمكن تعريفها أو التعرف اليها خارج مزاج لحظة الخلق الفني التي تتشبه بفعل الجماع في ذروة حميميته وتشنجه. هذه الفنانة التي جرّبت كل الأنواع الفنية، تضعنا تماثيلها وجها لوجه أمام حيرة أن يكون لذروة اللقاء الجنسي شكل في عينه، ينتحل صفاته. شكل حسي يختصر فكرة منسية عن جسدين يمتزجان ليصلا أخيرا إلى خواء تعبيري، هو الأصل في كل ما يمكن التعبير عنه.
الجسد الانثوي الذي اخترعته لويز بورجوا، لا يذكّر بتعاسة أجساد جاكومتي، ولا بترف أجساد هنري مور. ذلك لأنه جسد لا يجد ذاته في الوصف الخارجي ولا في تميزه عن سواه - وهذا أمر يجعله في منأى عن المقارنة - بل في تعففه عن النظر إلى سواه وذوبانه في الفضاء من حوله وهامشيته وعدم اعترافه بقوة كل مركز. يمكن صناعة مناخ مختلف. مناخ في إمكانه أن يبدد أيّ فكرة متخيلة عن جسد اسطوري، كما هي الحال لدى النحّاتين الآخرين، وفي الأخص جاكومتي ومور، ومن سبقهما من نحّاتي عصر النهضة. بورجوا لا تفصل بين الجسد باعتباره حالة حسية، وما ينتج منه من قيم رمزية. يهمّها أن تلتقط الجمرة ساخنة. خيال أنوثتها لا يفارق كل حركة يقوم بها الجسد من أجل الانتصار لضعفه، الذي هو نوع من قوة الارادة الكامنة. خيال يمزج الانصهار في الآني الموقت بقوة الرغبة في الامتلاك الأبدي. الاستسلام لحمّى الاستمرار في القطيعة. عبادة تواصل ايمانها من لحظة استفهام. هناك دائما صرخة، لو أتيح لها من طريق النحت أن تحضر من غير شكل، لكانت تمهيدا لولادة كون جديد.
يشعر المرء وهو يقف في مواجهة نساء لويز بورجوا، كما لو أنه يقف على الحافة التي تفصل بين كونين: كون تهبه الأنوثة شكلاً، وكون آخر تفرّ به الأنوثة من أي شكل محتمل. من خلال هذا الاختبار المصيري، ترعى الفنانة شكلاً مغايراً للانوثة، لا يقيم في شكل محدد. خرافة تعبّر عنها الحكايات التي تستجيب قوة السحر: كما في الحكايات، الحورية التي نصفها امرأة ونصفها سمكة، الالهة التي تزهر خصوبتها في انتحال أحوال جنسية متخيلة. ما يميز بورجوا عن سواها أنها تخترع جسدا لن يكون مقصودا لذاته، بل لما يؤدّيه من فعل يذكّر بفكرته عن اسلوب في العيش لا يمكن استعادته. ما من مهارة في الوصف. تقنية بورجوا تبدو بدائية، وهذا ما ترغب الفنانة في تأصيله في الفن. فبسببها، صارت تلك الرغبة هاجسا لدى العديد من فنّاني ما بعد الحداثة. وفق ما تراه، ما من تاريخ للفن. يسرّها أن نعثر على رسمة منها على جدار خشن في كهف عاش فيه الإنسان القديم، أو تذكّرنا منحوتة منها بفن المعابد الهندية. لا زمن للجسد. لا زمن للجنس، الذي ما من جسد من دونه. يفرض الجسد شروط حضوره الاستثنائية في كل مرة يكون فيها مصدرا للالهام. كل جسد هو فكرة معاصرة، وهي فكرة عن لقاء عاطفي متوقع، غير أن الأنوثة تظل هي الميزان في كل تسوية محتملة.
ولأن لويز بورجوا لم تقترح شكلاً للأنثى بل اقترحت شكلا للأنوثة، فإن الجسد في اعمالها هو معبر ليس إلا. لن يخذله أي شكل يحضره أو يحضر من خلاله. هناك جوهر لا يمكن التغاضي عن وجوده: الأنوثة باعتبارها مصدر إلهام. وكما أرى، فإن بورجوا قد نجحت في خلق مفهوم جديد عن الجمال يفرّ من غواية الجسد إلى جوهر معاناته: أن يكون موجودا بقوة في لحظة غيابه، حيث ينقّيه الجنس من مواقع الشبه، فيغدو كياناً فريداً من نوعه.
2
التقطت لويز بورجوا شذرة من السوريالية (هي التي عاشت زمن ذلك التيار الفني والأدبي كاملا)، تلك التي تتعلق بالجنس لتصنع منها كوناً. لقد وضعها انشغالها الأنثوي العميق، الذي كان في الأساس انشغالا سورياليا، في موقع الظاهرة التي تستعين بذاتها على تلبية حاجاتها الغامضة. وهي ظاهرة تميل إلى تقديم خلاصات ملتهبة وجارحة. ذلك لان بورجوا استخرجت اجساد نسائها على هيئة تماثيل ورسوم من لحظة تجلٍّ جنسي متعدد البعد. عاشت الفنانة تدفق مياه تلك اللحظة الحرجة التي تجمع بين العابر والأبدي. امسكت بقوة بأعشابها الجارحة. تتماهى مع ما يتلاشى منها، ما يذهب بعيدا من خفّتها. كانت تودّ أن تصف، غير أن كل محاولة ممكنة للوصف تبدو أشبه بالخيانة في حالة من هذا النوع. فالجسد الذي يعيش توتر تلك اللحظة العاصفة، يتخلّى عن شكله ليستجيب كل تناقضاته التعبيرية. يضحك ويبكي. يسعد ويتألم. يهبط ويعلو. يقوى ويضعف. يولد ويموت. صور متشابكة كثيرة للحلم، وما من صورة في إمكانها أن تكون الصورة الأكثر تماسا بالحقيقة. حين اتخذت من العنكبوت مفردة تعبير وحيدة، في واحدة من أهم مراحلها الفنية، كانت بورجوا مخلصة لتلك الحيرة التي يعيشها الجسد وهو يتعدد في أشد حالاته تعرضا للمحو.
لا يتعلق الأمر دائما بالجسد لذاته، فبورجوا التفتت إلى ما يتفجر من حيوية الجسد وهو يفارق حالته الساكنة. في هذه الحالة تكون مواقع الاثارة الجنسية في جسد الأنثى هي مصدر كل تحوّل يشهده الشكل. نسيت الفنانة – بل اهملت عمداً - مواقع عديدة من الجسد في الوقت الذي تركز فيه على الثديين والمؤخرة. وهو تركيز يذكّرنا بالدمى السومرية، حيث كان يتم اختزال شكل الأنثى بطريقة ايحائية مباشرة. بدائية بورجوا اللينة، تسمح بالكثير من التأويل الشكلي. في عملها الفريد من نوعه، "سبعة في سرير"، تستعيد قوة الحدس الجنسي الذي تتميز به اللوحات الجدارية في المعابد الهندية. فصورة الجسد حلمياً، التي تظهر في العمل الفني، هي غير صورته المتخيلة واقعياً. ما من جمال يمكن التثبت منه هنا. هناك الفكرة التي تسبق كل مشهد حسي معروض للنظر. نرى سبعة أجساد، لكن بعشرة رؤوس. حسية فائضة تكاد لا تترفق بالجسد حين تعده بحفلة فاخرة، مادتها اللذة. نزهة في حقول ممغنطة قوامها الذهاب بالرغبة إلى أبعد ما يمكن أن تتحقق من وجوده حلميا، لكن من طريق الجسد.
المواد التي استعملتها لويز بورجوا في صناعة تماثيلها، تشي هي الأخرى بأنوثة تلك الأعمال. يقف القماش في مقدمة تلك المواد. من خلاله تحيلنا الفنانة على الأعمال اليدوية في القرى والأماكن البدائية. هناك حيث تقوم المرأة باختراع عالم يتزود من طريق يديها، سحر أنوثة ملغزة تقف في مواجهة عالم ذكوري هشّ يصنعه الرجال ليكون مناسبا للواقع، الذي يظل أسير عجزه عن البوح والاعتراف بسطحية حلوله. استعارت بورجوا يدي امرأة تنتزع سحر نظرتها من بين ثنايا الخيوط التي تتواشج في ما بينها لتصنع قماشة هي مرآة لما لا يُرى. هي السلالم التي ترتقيها الروح لتكون بادية للعيان. بصورة وبأخرى، فإن لويز بورجوا ذهبت من طريق الجسد إلى بداهة الخلق الأنثوي باعتبارها مرآة لما يحدث من وقائع. سيكون علينا يوماً ما، أن نعترف بما لم يعترف به السورياليون الأوائل: لويز بورجوا محقّة: جمال الجسد لا يتحقق إلا من خلال الخيانة المطلقة لصورته المتقنة. المرأة التي عاشت قرن الاحتمالات كلها، عبثت بالجسد فكانت أشدّ خصومه معرفة بأسراره.
فاروق يوسف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد