عبد اللطيف عبد الحميد يدخل المعتقل السياسي من الباب الخلفي
تكمن أهمية «خارج التغطية» للسوري عبد اللطيف عبد الحميد (الجائزة البرونزية في «مهرجان دمشق السينمائي») في مقاربته منطقة شائكة، لم ترصدها السينما السورية سابقاً وتتعلق بالمعتقل السياسي. صحيح أنّ المخرج تناول موضوعه مواربةً لأسباب رقابية ربما، لكن حيثيات الحدث تؤكد هذا المسعى عبر إشارات صريحة: مثلاً، سعي عامر (فايز قزق) لدى الأجهزة الأمنية إلى إطلاق سراح صديقه زهير (نضال سيجري) طوال عشر سنوات بلا جدوى والتوسط مراراً للحصول على إذن زيارة... لكن غياب الصديق في المعتقل هذه المدة أسّس لعلاقة حب ملتبسة وآثمة بين صديق عمره وزوجته (صبا مبارك).
زوايا هذا المثلث التقليدي في السينما، تأخذ هنا مجرى آخر، لا يصب في خانة الخيانة بقدر ما يكشف عن أحاسيس تنمو في الظل وتتراكم إلى أن تنفجر أخيراً، بعد زيارة الزوجة لزوجها في المعتقل. في هذا المشهد، تكتشف حجم المسافة التي تفصلها عن الزوج، وشكوكه تجاهها. وبدلاً من اللهفة، تجد نفسها في محاكمة ضمنية لها، تؤكدها نظرة عينيه ونبرة كلامه الحادة. المشهد الذي يجري بحضور شرطي حراسة، بدا قاسياً ومربكاً لامرأة لم يعد لديها ما تقوله لحبيبها القديم. هكذا يتحول الغياب إلى معنى آخر.. غياب الجسد وحضور الرغبة المكبوتة منذ سنوات، فتنتهي مرغمة في أحضان الصديق، بلقطة أقرب ما تكون للممارسة الحيوانية.
هل هي لحظة إثم أم فاتورة مؤجلة من الشهوة والرغبات؟ ذلك أن الصديق صرف عمره ومشاعره لزوجة الصديق بصمت وعذاب، تتناهبه الحيرة بين الإخلاص للصداقة وقوة مشاعره نحو هذه المرأة التي أنسته واجباته تجاه زوجته (فدوى سليمان)، ليتحوّل إلى غراب شؤم في العلاقة بين المرأتين، فكلاهما تحتاج له، وفي الوقت عينه، لم يستطع أن يرضيهما كما ينبغي.
الحكاية استثنائية، على أي حال، لكنّها تطال شريحة كبيرة من ضحايا الاعتقال السياسي في سوريا، خلال الثمانينيات والتسعينيات. إذ دُمّرت بسببه أجمل قصص الحب نتيجة هذا الغياب القسري.
ورغم أهمية مثل هذه الفكرة في بناء حكاية سينمائية متينة، فإنها لم تكن جوهرية لدى عبد اللطيف عبد الحميد الذي كتب السيناريو، حين سحبها إلى بساط آخر، يتمحور حول الخط الفاصل بين الخير والشّر والصراع بينهما. وهو ما أفقد الفكرة حيويتها في محاكمة حقبة سوداء وذهب إلى تفاصيل جانبية محكوماً بنزعته الكوميدية التي ميّزت أفلامه الأخرى.
هكذا صارت عبارة «خارج التغطية» جواباً على هروب عامر المستمر من مواجهة ثقل الفاتورة التي ينبغي له دفعها نحو الصديق الغائب من جهة، ونحو زوجته وزوجة الصديق، وإن تراجعت نزاهة ضميره نحو الصديق الغائب. فهو حين يعلم بخروجه من السجن قريباً، يفقد صوابه إلى درجة يكتب تقريراً للأمن بضرورة بقائه وراء القضبان «من اجل المصلحة العامة». ولعل في هذا التحوّل المباغت إشارة إلى أن الخراب الروحي، لم يعد يخص المعتقل وحده، بل من هو خارج السجن أيضاً، الأمر الذي يقود زوجته إلى طلب الطلاق.
ما يربك السرد في الشريط لجهة إحالاته الواقعية، اختيار زمن افتراضي، هو 1995 تاريخ اعتقال الصديق، فيما كانت هذه الفترة شهدت نهاية الاعتقالات الجماعية، لكن عبد الحميد اختارها ربما لتكون مقنعة بخصوص دخول خدمة الخلوي إلى البلاد أواخر التسعينيات. خصوصاً أن جهاز الخلوي كان عنصراً أساسياً في الفيلم، إذ كان عامر يحيى تحت وطأة الرنين المستمر لتحقيق طلبات الزوجة وزوجة الصديق. وعندما يفقد توازنه وقدرته على خدمتهما، يغلق جهازه ويصبح «خارج التغطية» واقعاً ومجازاً، فيهرب إلى ليل دمشق ليواجه قدره وحيداً وأعزل ومحطّماً. يفتتح شريط «خارج التغطية» بمشهد أرجوحة دائرية، تحلّق بالبطل وابنه، وينتهي بلقطة مشابهة يغيب عنها الأب، فتتبدد صرخة الابن في نداء طويل. الحياة كما يقترح الفيلم أرجوحة تعلّمنا التحليق والطيران، قبل أن نرتطم بسجن داخلي يكبّل مشاعرنا بوسائله العنيفة.
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إقرأ أيضاً:
عبد اللطيف عبد الحميد في فيلم خارج التغطية
المسكوت عنه «خارج التغطية»
المثلث الإيراني- التركي- السوري يفوز بجوائز مهرجان دمشق السينمائي
إضافة تعليق جديد