الإنسانوية القصوى ومفهوم الدازاين في فلسفة ألكسندر دوغِن

31-01-2023

الإنسانوية القصوى ومفهوم الدازاين في فلسفة ألكسندر دوغِن

فادي أبو ديب:

في البحث في أفكار وفلسفة الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغن مشقة خاصة لا يمكن أن تخفى عن القارئ المتمعّن أو الدارس الباحث؛ فكتاباته غزيرة جداً وكثير منها غير مترجم وتحتوي على الكثير من الأسماء والأفكار والتيارات التي تبدو أحياناً متعارضة مع بعضها البعض، ولا يمكن لها أن تنسجم بسهولة مع بعضها، إذا افترضنا أن ذلك ممكن في الأساس؛[1] فدعوته الأيديولوجية السياسية، على سبيل المثال، إلى روسيا ذات هوية خاصة، أرثوذكسية بشكل خاص، تبدو غير منسجمة مع فلسفته الهايدغرية.

 تحتاج كتابات ألكسندر دوغن إلى الكثير من الشروحات والتأويلات، والتي وإن كانت لا تنحو منحى فلاسفة ما بعد الحداثة في فهم هايدغر كداعية لإنهاء الميتافيزيقا، إلاَ أنها مع ذلك لا يمكن أن تنسجم مع الأرثوذكسية التي تقوم في جزء منها على الروحانية الساميّة (التي ازدراها هايدغر) و بشكل رئيسي على مفردات الأنطولوجيا الإغريقية القديمة. كما أنّ دعوته إلى التقليدية (والتقليدانية Traditionalism) تجد صعوبة في التواؤم مع اعتقاده ( الما بعد حداثي، رغم أنه يدعي أنه مناهض للحداثة وما بعدها ) أنّه لا يوجد مستقبل واحد وجسد متكامل للإنسانية ككل (النظرية السياسية الرابعة، ص 162)، وهو اعتقاد رئيسي في المسيحية الروسية التي تعتقد ككثير من الأديان والروحانيات التقليدية الأخرى أنّ الإنسانية كلها جسد واحد، حتى لو اختلفت جماعاتها وشعوبها وقبائلها ثقافياً وبقيت متمايزة.

 ويمكن توضيح عدم الانسجام هذا في تفكير دوغن بواسطة التطرق إلى ناحيتين من أفكاره: وهما فكرة الإنسانوية القصوى، ومفهوم الدازاين. 

كما يجب الالتفات إلى أنّ دوغن يدعو في بعض ما يكتب إلى وجوب تنقيح الفكر التقليداني ( الفكر الذي ينتسب إلى مدرسة رينيه غينون ويوليوس إيفولا وآخرين) ليخاطب تحديات الزمن المعاصر. ورغم ذلك يمكن القول إن عدم الانسجام لا يعني بالضرورة قطيعة كاملة بين المنظومتين موضع التساؤل، ولكن يعني أن الممر الذي يصل بين المنظومتين ليس كافياً لتأسيس تكامل بينهما، بل هو كالوصلة المختصرة التي تصل بين نفقين من أنفاق القطارات، يتجه كل منهما في نهاية المطاف إلى جهة مختلفة كليا عن الأخرى من حيث المضمون والموقع.

الإنسانوية القصوى والإنسانوية المُختَزَلة

في مقالته “الإنسانوية القصوى”[2] Maksimal’nyi Gumanizm التي كتبها حوالي مطلع هذا القرن يؤكّد دوغن أنّ “الإنسانوية” ، وهي مذهب النهضة الأوروبية التي وضعت الإنسان في مركز الكون “مقياساً لكل شيء” ، هي أمر لم يعرفه التراث البشري عموماً ضمن المجتمعات التقليدية؛ فالإنسان في تلك المجتمعات كان في نفس اللحظة أكثر وأقل من إنسان الإنسانوية، حيث نُظِر إليه على أنّه مكوّن من مجموعة من العناصر فوق البشرية (قبس إلهي، ذات إلهية، روح) والعناصر ما دون البشرية (حيوان، مادة، منتج اجتماعي)، وهو بذلك كمثل ” الإله بين الحيوانات والحيوان بين الآلهة”.

    ويؤكد دوغِن على أنّه يمكن تلمّس بدايات الحركة الإنسانوية الغربية في التراث الإبراهيمي، ولو أنها من الناحية التاريخية تظهر في الغرب تحديداً. وعلى عكس الإنسانوية القصوى التي سنعود إليها أدناه يشير مصطلح الإنسانوية المختزلة Minimal’nyi Gumanizm بالنسبة إلى دوغن إلى ذلك المذهب الذي يرى في الإنسان مقياساً لكل شيء، ويراه مجرّد إنسان، منزوعةً عنه قداسة الصورة الإلهية.

ومن اللافت أنّ الفيلسوف الروسي يرى في تديّن الشعوب السامية بداية لهذا النوع من الإنسانوية، وبشكل خاص في الشكل التقليدي الشرعيّ من اليهودية، رغم أنّ هذا الشكل يعتقد بما جاء في التوراة من أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. كما يعتقد دوغِن أنّ المسيحية والإسلام، كلّ منهما بطريقته الخاصة، ابتعدا عن هذا الشكل الساميّ البدئيّ واقتربا أكثر من الإنسانوية القصوى.  ومن اللافت أيضاً بصورة مماثلة أن دوغن، وبعكس الكثير من المفكرين الآخرين، يرى أنّ القرون الوسطى الأوروبية كانت تحمل بذار العدمية والدنيوية مقارنة بالمجتمعات التقليدية الأخرى في الصين والهند والعالم الإسلامي وبيزنطة، ولا تحمل تلك الصورة المثالية للعالم التقليدي التي يحنّ إليها بعض الغربيين الرومانسيين.  ولكنه مع ذلك لا ينسى أن يؤكّد بأنّ الكاثوليكية من الناحية العقائدية، ورغم كونها لا ترقى إلى مستوى الأرثوذكسية، أقرب إلى الإنسانوية القصوى منها إلى المذهب الإنساني الاختزاليّ.  وهو بذلك يقارنها على ما يبدو بأفكار عصر التنوير وما أتى بعده من ثورة صناعية وتقنية نزعت القداسة بشكل كامل عن الإنسان والعالم. هذا مع العلم أنّ دوغن، وبشكل مفاجئ أيضاً، يرى بأنّ النسخة الغربية من المسيحية هي الأقرب فعلياً إلى التديّن المشرقي الساميّ على عكس ما يعتقده عادة المشرقيون وأصحاب التوجهات الوطنية والقومية الذين يرون في الأرثوذكسية النسخة المسيحية الأقرب إلى الأصل المشرقي.  ودوغن هنا لا يمدح المسيحية الغربية لأنّ نظرته للتديّن السامي هي على شاكلة نظرة الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة الأوروبيين في القرن التاسع عشر وما قبله- نظرة سلبية ترى فيه صورة متخلّفة وبدائية تكبّل الإنسان في نموذج خلقيّ ستاتيكيّ لا يعترف بالصيرورة، وهو ما يعبّر عنه دوغِن بمصطلح “المذهب الخَلْقي” Creationsim.[3]

وأما الإنسانوية القصوى فهي ذلك المذهب التقليدي أو الفلسفة ذات القيم الخالدة التي ترى في الإنسان كوناً أصغر، والتي عرفتها مجتمعات بشرية قديمة كثيرة، كما توجد في النسخ التصوّفية والباطنية والغنوصية من الأديان الإبراهيمية نفسها— في القباَلة اليهودية مثلاً وليس حصراً.  ويؤكّد دوغِن على أنّ قمة هذا المذهب الإنساني يتجلّى في الدولة البيزنطية التي أسقطها العثمانيون عام 1453م.  ومن المثير هنا كيف أنّ دوغِن البعيد فلسفياً ولاهوتياً يرى بيزنطة بهذه الطريقة، في حين أنّ الفيلسوف واللاهوتي المسيحي المتصوّف فلاديمير سولوفيوف يرى في بيزنطة العكس تماماً؛ فهو يعتبر بأنّها سقطت لأنها لم تسلك وفق التعاليم المسيحية على الإطلاق بل وفق نزعة قومية أنانية فصلت نفسها عن العالم المسيحي الأوسع.  وسولوفيوف الذي كان يحمل ميولاً كاثوليكية على أية حال لم يكتف بالكلام الإنشائي بل قدم مبرراته لهذه النظرة، والتي تتمثّل بالبطش والقسوة والقمع الذي تعرض له المسيحيون المختلفون عقائدياً داخل الدولة البيزنطية، بالإضافة إلى طبيعة قانون العقوبات الذي كان سارياً في تلك الدولة، والذي ربما يذكّر القارئ المعاصر بما تفعله حركة طالبان أو ما يشبهها من ممارسات في دول دينية أخرى معاصرة.  وبالمختصر فإنّ قمة الإنسانوية التي يراها دوِغن في بيزنطة، بوصفها الدولة التي حافظت على قداسة الإنسان والقيم الإلهية يراها سولوفيوف مجرّد قشرة تخفي تحتها كل الوحشية والتعصب والإخلال بالقيم المسيحية، وهو الأمر الذي دفعه إلى اعتبار العثمانيين أكثر انسجاماً مع أنفسهم من الدولة البيزنطية.[4]

وعلى أية حال فمن الجدير بالملاحظة أنّ دوغِن الذي يصطف إلى جانب الإنسانوية القصوى والإنسان بوصفه كوناً أصغر وذا قدسية إلهية يعتبر الحديث عن الفردية ومذهب الشخصانية بدعة أوروبية غربية، على الرغم من أن اللاهوت الأرثوذكسي المعاصر، ولو بصورة غير رسمية، اهتم بشكل كبير بفكرة الشخصية الإنسانية.[5]
ورغم رفضه التوجه الغربي نحو الفردانية ومذهب الشخصية الإنسانية يقدم دوغِن مفهوم الدازاين بوصفه الفاعل الرئيسي في نظريته السياسية وفلسفته الروسية الجديدة.

 فالدازاين هو إذن الكائن التاريخي المرتبط بالزمن الأرضي، ليكون الفاعل الرئيسي في نظريته السياسية “الرابعة”.  وقبل الدخول في الحديث عن الدازاين سيكون جديراً بالذكر، فقط من أجل إبراز المفارقة، أنّ هايدغر لا يتعامل مع مفهوم الدازاين من أي منطلق مقدّس أو أبديّ، لا بالمعنى التقليدي الذي تراه فيه الفلسفات الغنوصية والصوفية ولا بأي معنى خاص به (أو هذا ما يمكن فهمه منه ضمن شروط قرائية معينة على الأقل)، فهو يؤكّد ” لن يكون ممكناً أن نثبت بشكل سليم وجود ’حقائق سرمدية‘ حتى يكون بالإمكان أن نُظهر بنجاح أن الدازاين كان وسيكون [موجوداً أو قائماً] خلال الأبدية بطولها. وما دام هذا البرهان ناقصاً، فإنّ العبارة تبقى مجرد تأكيد خياليّ لا يكتسب أي شرعية من خلال ’اعتقاد‘ الفلاسفة به.”[6]

الدازاين

كما بيّنا سابقاً، وفي المقالة الأولى المنشورة في العدد السادس من مجلة ” مثاقفات ” ، فإنّ دوغن مناهض لكل ما يمتّ بصلة  لمنتجات الحداثة والليبرالية من حيث فهمهما لماهية الإنسان وللفرد وشخصيته المستقلّة ، ولهذا فهو يقدّم مفهوم الدازاين الذي خرج به هايدغر ليكون بديلاً عن هذا الفرد.  ويصرّح الفيلسوف الروسي دوغن في كتابه “النظرية السياسية الرابعة” بأنّه “يجب أن نضع الدازاين كمركز وقطب للنظرية السياسية الرابعة” (ص 180).[7]  ورغم ذلك فهو لا يشرح بشكل واضح ما الذي يعنيه هذا صراحةً على مستوى التطبيق العملي.  ولكنه مع ذلك يشير أيضاً إلى الطبيعية “البينية” لهذا الكائن (ص 179).  ولعلّه من الممكن تلمّس معنى هذا من خلال تحليل بعض الأفكار التي يقدمها دوغِن في هذا الفصل من كتابه المذكور آنفا ؛ فالدازاين ليس محتوى نظرياً، وليس ماهية أو جوهراً ينتجه العقل الفلسفي على الطريقة الإغريقية القديمة ويعرّف الإنسان بشكل مجرَّد أو ضمن منظور دينيّ، بل هو الكينونة التي تحدد ماهيتها كما تفهم الوجودية الكينونة بوصفها سابقة على الماهية؛ إنها الكينونة التي تجد نفسها في العالم بوصفها وجوداً يتحرك من خلال ما يسميه الفيلسوف الروسي بالميتافيزيقا الفاعلة Active Metaphysics. 

بهذا المعنى يكون الدازاين هو الكائن الذي لا ينتظر التاريخ ولا ينتظر الخلاص ونهاية العالم، بل هو العامل في إتمامهما (قارن مع ص 183).  ويمكن هنا تلمّس جوانب معيّنة من فلسفة “المثالية السحرية” عند نوفاليس؛ فالفكرة تتحول إلى واقع والعكس صحيح، والجسد يستحيل روحاً والروح تستحيل جسداً (ص 182).

إنه يتحدث عن عالم ذي بعد عمودي، نحو الأعلى ونحو الأعماق، فيشرح:

“ما هو العالم الفائق للطبيعة؟  إنّه عالم لا يوجد فيه حاجز بين الفكر وتحقيقه.  إنه مبدأ يتبنّى النظرة السحرية للعالم بناء على الفكرة القائلة بأن الفكر هو الشيء الوحيد الذي يعبر العوالم، وأنّ كل شيء نعبر به ليس أكثر من فكر.  ما هو نوع  هذا  الفكر ؟  إنّه الفكر المحض.  إنّ حامل النظرية السياسية الرابعة والممارسة السياسية الرابعة [ولعله يقصد الدازاين] يعيش في عالم فائق للطبيعة.  ما هو ’النشاط الذهني‘ Menactivity؟  إنّه جوهر متحوِّل، تحوّل الروح إلى جسد والجسد إلى الروح، وهذه هي الإشكالية الرئيسية في الهرمسية.” (ص 182).  من الواضح أيضاً هنا أن دوغِن يكتب لنخبة من القرّاء، فاستعمال المصطلحات الصعبة وتوليد الكثير منها ودلالاته المتكررة إلى الأسماء والمذاهب والحركات تفترض قارئاً عميق الثقافة ومجتهداً في البحث، وقد أشار إلى هذا في غير موضع.  كما أنّه من غير الواضح ما هو المكافئ العملي والسياسي لهذه الهرمسية والعقلية السحرية.

وفي تعريف الدازاين يشرح دوغِن بأنّه “الحقيقة النهائية للكينونة التي تسبق أي نوع من التبرير، ومن دون تفسير ملائم، موضوعةً في صحراء العدمية.”[8]   وهذا التعريف هو صياغة أخرى لمبدأ الوجودية الأشهر وهو أنّ الكينونة تسبق الماهية؛  فالدازاين هو الكائن قبل تعريفه بوصفه كذا أو كذا – إنه معرَّف بعدة سمات وجودانية (بحسب ترجمة فتحي المسكيني)، ولكنها سمات تحدّد تموضعه في العالم، إن صح التعبير باستخدام مفردة “العالم”، ولكنه غير محدد الماهية أو الجوهر.  ويشترط دوغِن- بحسب فهمه لفلسفة هايدغر- لظهور الدازاين أن تنهار الفلسفة، في عملية أشبه ما تكون بالصيرورة القَدَرية التي كان يجب أن تتمّ؛ فلكي يظهر الدازاين على مسرح التاريخ كان على الفلسفة أن تبدأ (عند الإغريق) ثم ” تزدهر وتصل ذروتها- قبل انحدارها واكتمالها المأساوي.”[9] والمقصود باكتمالها هذا وصولها إلى نقطة العدمية التي تؤشّر إليها فلسفة نيتشه.  فالدازاين إذن ليس ماهيةً أو جوهراً، أي أنه بحسب دوغِن ليس “أنا”، وليس ذاتاً ولا موضوعاً أو فكرة أو حياة أو الكينونة أو اللاكينونة أو الله أو غير ذلك من التعريفات أو المفاهيم الفلسفية أو اللاهوتية المتداولة والمتعارف عليها.[10]  ويتابع محذّراً من أنه في الأنطولوجيا الجديدة، أو بالأحرى الأنطولوجيا الأساسية Fundamental Ontology، وهي الفلسفة التي يجب أن تُبنى على الكينونة بفهمها الجديد الذي يغادر الفهم الإغريقي لها كمجرّد جوهر تشترك به الكائنات، في هذه الأنطولوجيا لا يجب علينا أن نقع في خطأ اقتراح “سلطات إضافية…خارج الدازاين، أو فوقه، أو حوله، أو تحته، أو حتى في داخله.”[11]  ثم يتابع مضيفاً بأنّ “الأنطولوجيا الأساسية هي فلسفة ’المستقبليين‘ التي لم يتم تكوينها بعد، أولئك الذين سيُظهِرون أنفسهم (بنفس الطريقة التي سوف تُظهِر بها الكينونة الحق- الأليثيا [أي الانكشاف]، كما تظهر العلامات المائية على صفيحة ورقية.”[12]  لذلك يمكن القول إنّ الماهية الوحيدة للدازاين هي أنّه موجود(في العالم).  وبحسب هايدغر فإنّ المصطلح “وجود” existence يشير إلى أنّ “الدازاين كائن

” is “، بوصفه إمكانية-كينونة فاهمة [ أي تمتلك الفهم ] مهتمة في كينونتها [ أي في طبيعة وجودها ] بكينونتها [أي بطبيعة وجودها].”[13] وهذا يعني أنّ الدازاين هو إمكانية تتميز بأنها في جوهرها – إن صح التعبير- مهتمة بتحديد هذا الجوهر. وهذه الإمكانية مفتوحة، أي أنها دائماً في صيغة “الخاصية المستمرة في حالة عدم الاكتمال”.[14]  ويشير هايدغر إلى أنّ هذه الحالة المفتوحة، غير المنتهية، هي ما يحقق للدازاين كينونته، إلى درجة أنّ إزالتها تعني عَدْم الكينونة.[15]

دوغن ينقل الدازاين إلى الشعب والإثنية

ولكن دوغِن يتجاوز هذا المفهوم للدازاين ليتحدث أيضاً عن الدازاين الخاصّ بالثقافة؛ وهكذا يصير لكل مجموعة يشرية أو أمة دازاينها الخاص (النظرية السياسية الرابعة، ص 197).  وسواء أكانت فلسفة هايدغر تسمح بهذه القفزة المفاهيمية أم لا ففي ضوء التوجهات القومية والوطنية عند دوغن، وفي ضوء رفضه لمفهوم الفرد والشخصية الفردية، يمكن القول بثقة إنّ دوغِن ينقل الدازاين إلى الشعب (“نارود”) وإلى الإثنية المكوّنة للجماعة القومية أو الثقافية، أي إلى المجموع البشري.  وهو بهذا، ولو من غير قصد، ينقل الدازاين الهايدغري إلى ما أسماه هايدغر بالـ”هم”، وهي ترجمة تقريبية للمصطلح الألماني Das Man.  وتصبح كل المحددات الوجودانية للدازاين ملحقة بالجمهور، الذي يصير هنا ممتلكاً وعياً وإرادة وعقلاً، بالمعاني العمومية لهذه المصطلحات، ومهتماً في كينونته بكينونته، من دون الانتباه إلى ارتباط الجمهور بشكل رئيسي باللاوعي والفوضى والذهنية القطيعية. ولعلّه يمكن فهم هذه النقلة من خلال تأكيد دوغِن في بعض المواضع على دور الفوضى [الخلاقة؟] (المرجع السابق، ص 181) والجنون (ص 189).

 وفي نفس الوقت يقرّ دوغِن بأن العنصر الفاعل في نظريته هو “الذَّكَر غير البالغ”، مستحضراً بذلك، وبشكل يعيدنا إلى المفاهيم اللاواعية، نموذج الشباب الأبدي Puer Aeternus، وهو مفهوم نفسانيّ نجده يتكرر في كتابات كارل غوستاف يونغ وتلاميذه ويشير في منحاه السلبي إلى نمط من الوجود غير الناضج يتميّز بنزقه وكراهيته للعالم الواقعي وانعزاله ضمن عالم أحلام اليقظة (درست المحللة السويسرية ماري-لويس فون فرانتس رواية “الأمير الصغير” كتجسّد واضح لهذا المفهوم).  فهل هذا النمط من الكينونة هو الذي يريده دوغِن كفاعل في نظريته السياسية الرابعة يبني العالم الجديد بعد هدم الليبرالية؟  وهل يتسق هذا التصوّر بالفعل مع مفهوم الدازاين؟  ألا يتجاوز هذا التصوّر أبسط الحقائق الواقعية التي تظهر بأنّ مراكز الوعي والإرادة والقرار تستقرّ في الإنسان الشخص أولاً وهو ضمن بيئته الاجتماعية؟ ثم، هل يتساءل الشعب بوصفه كياناً جَمعياً عن كينونته بالفعل؟  هل يسعى، بوصفه جماعةً، إلى التحوّل والصيرورة؟  هذه كلها إسقاطات لمَلَكات وممارسات فردية تمارسها الخَطابة الوطنية والقومية على الكيان الجَمعيّ، وغالباً ما تثبت سذاجتها حين تتأكد بأنّ الكيان الجَمعي لا يكترث بالحقائق الأنطولوجية بل بالحياة اليومية والوقائع الأونطيقية (بالمصطلح الهايدغري).  ولهذا يعبّر اللاهوتي الألماني-الأمريكي بول تيليش عن محورية الشخصية الإنسانية الفردية فيقول إنّ “الشخص فقط، ضمن خبرتنا، هو ذات كاملة النموّ، يواجه عالماً وفي نفس الوقت ينتمي إليه…الشخص فقط يمتلك الصفة الفردية بشكل كامل، ولهذا السبب تحديداً يكون قادراً على المشاركة بلا حدود في عالمه.  والشخص فقط هو من يملك قوة غير محدودة للتعالي عن الذات، ولهذا السبب تحديداً يمتلك البنية المكتملة، بنية العقلانية.  الشخص فقط يمتلك الحرية، بكل مميزاتها، ولهذا السبب بالتحديد يمتلك هو فقط قَدَراً…وفقط في كائن كهذا يمكن للكينونة الجديدة أن تظهر.”[16] 
وعلى أية حال لا يمكن الحديث عن دازاين للأمة أو المجموعة الإثنية إلا بتغيير مفهوم الدازاين بشكل جذري، أو بتطبيقه سياسياً بشكل عاطفي وشعبويّ، وهو الأمر الذي قام به هايدغر نفسه خلال فلسفته في المرحلة التي تبِعت مرحلة تأليفه لكتاب “الكينونة والزمان”.[17]  ومع ذلك فإنّ دوغِن لا يبرّر ضرورة هذه النقلة بين التصوّرين السابقين، بل يقدّمها كأمر بديهيّ: “كلّ فرد وكل ثقافة تمتلك دازاينها الخاص.” (ونلاحظ هنا اعتراف دوغِن لفظياً بكينونة مستقلة للفرد، أو هكذا يبدو الأمر على الأقل!).  ولعلّ علاقة الدازاين بمفهوم الشعب تستحق لوحدها مقالاً مفصَّلاً يمكن  تقديمها في وقت لاحق.

روسيا أرثوذكسية؟

ومن ناحية أخرى، يجب التساؤل عن إمكانية تخيَل فلسفة روسية من أجل روسيا أرثوذكسية من دون المرور باللاهوت الأرثوذوكسي الروسي، ومن دون التأسيس على الأرثوذكسية نفسها بالعموم وعلى التيار السائد فيها، وهو تيار يقوم على التقليد الكنسي والآبائي، أو على الأقل التحاور بشكل جدّيّ وعميق معها ومع اهتمامها المرتكز على هذا التقليد.  فهل روسيا بحاجة حقاً إلى بداية غربية هايدغرية لفلسفتها؟ (هذا ليس سؤالاً بلاغياً). 

وإذا كانت الإجابة أنه يجب بالفعل الابتداء بالفلسفة من حيث انتهت إلى العدمية (في الغرب)، أفلا يعني هذا أن دوغن ما يزال يعتقد بنوع ما من المركزية الأوروبية ؟  فمن جهة المسيحية الروسية التقليدية (ولا أعني مدارس اللاهوت الأكاديمي) فهي مستمرّة في حياتها من دون أي تفاعل بنّاء أو محاولات توفيقية مع الفلسفة الغربية، وهي لا تعتقد بالحاجة إليها لا في صعودها ولا في انحدارها، فلماذا يعتقد دوغن أنه مجبر على الابتداء من مكان ما من الغرب ليؤسس لحركة معرفية جديدة في الشرق الأوروبي، وفي روسيا تحديداً ؟  أليست الأرثوذكسية ’فلسفة‘ روسيا، والتي بطبيعة الحال لا تشبه الفلسفة الغربية ولا تعني ما تعنيه تلك في أساساتها؟[18]
وإذا كانت الإجابة هي أنّ روسيا تحتاج إلى فلسفة وليس إلى لاهوت، أليس هذا الفصل في حد ذاته تسليماً مجانياً بافتراضات وتقسيمات الأكاديميا الغربية في فصلها بين التخصّصات بهذه الطريقة وتسليماً بأنّ روسيا يجب أن تقوم على “فلسفة” بالمعنى الحديث والأكاديمي للمصطلح، وليس على تراث ديني عمره ألف عام وروحي عمره أكثر من ذلك.

إنّ روسيا الأرثوذكسية تعني روسيا المسيحية. والمسيحية، الشرقية بشكل خاص، تقوم على العقيدة وعلى الاختبار الروحي الرهباني. وهذا ينطبق أيضاً بمعنى ما على الأقل على الكاثوليكية الغربية.  والاختلاف بين العالمين المسيحيين الشرقي والغربي لا ينفي اعتقاد المسيحية ببنية هرمية للوجود والكائنات يكون الله في أعلاها وداخلها (بمعنى ما من المعاني)، فهذه هي المسيحية التقليدية، سواء أعجبتنا أم لا.

أما فلسفة دوغن فتختلف جذرياً عن هذا التصور؛ فهو باتباعه هايدغر يقول إنه يريد أن ينسَف أساسات الفلسفة الغربية، أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل، لكي يبدأ من جديد، من مكان غير اللوغوس (المنطق الإغريقي). لماذا؟ لأن اللوغوس هو أيضاً بداية العقل والفلسفة العقلانية والكينونة  Being القديمة، كما فهمها الإغريق، والتي انتهت إلى الليبرالية ومن ثم إلى العدمية.

وفي فلسفة دوغن تتكرر مفردات مثل الفوضى والجنون والسحر والغنوص وغير ذلك، والجندر بوصفه مركباً اجتماعياً لا يتطابق حصراً  مع الجنس البيولوجي (في الفصل 13 من نظريته السياسية الرابعة، وهي نظرة ما بعد حداثية محضة— أين التقليدية في هذا؟ )، لا بل يدعي أن الليبرالية حتى الأمس القريب حافظت في العموم على النظرة التقليدية للأدوار الجندرية، وهي النظرة التي حملتها المسيحية منذ بدايتها، أي بمعنى آخر، هي النظرة التي تتوافق إلى حد كبير على الأقل مع المسيحية الأرثوذكسية “التقليدية” الموجودة في روسيا.

يقول دوغن: “يجب علينا أن نؤجل أفكاراً من قبيل البعد الروحي والبعد الإلهي، ونتحرك نحو الفوضى ونحو مفاهيم أخرى عمودية وذات توجه عميق.” يريد دوغن تفجير المفاهيم كلها من أجل فتح الأفق لمفاهيم وإمكانات جديدة: “الجنون هو جزء من العدة الحربية الجندرية في النظرية السياسية الرابعة.”  كل هذا مفهوم في حال لم يكن دوغن يدعو إلى روسيا أرثوذكسية؛ فعلى خطى هايدغر، يدعو دوغن إلى نسف الأنطولوجيا القديمة، وكل مفاهيم الجوهر والطبيعة والكينونة كما فهمها اليونان والمسيحيون في الـــ ٢٥٠٠ عام الأخيرة.

من الناحية الفلسفية المحضة، يمكن بالطبع مناقشة  كل هذه المسائل، ولا يمكن دحضها ببساطة بوصفها لا توافق الروحانية أو المسيحية أو أي منظومة فكرية أو روحية أخرى.  ولكن تساؤلنا هنا هو عن سبب الإصرار على طرح فكرة روسيا الأرثوذكسية أو التقليدية من جهة ومن ثم الدعوة إلى فلسفة جديدة تقوم على أساس فلسفة هايدغر من جهة أخرى، بدل محاولة إنشاء فلسفة على أساس المسيحية. أي أنّ التساؤل هو عن مدى التماسك في فكر دوغن نفسه الذي لا يبدو أنّه يدعو، في الواقع، إلى أي أرثوذكسية أو ثقافة تقليدية بقدر ما يدعو إلى عقيدة تأليه الشعب أو المجموعة الإثنية الخاصة به، وهي دعوة ذات صبغة تختلط فيها ما قبل الحداثة مع بعد الحداثة رغم زعمه أنه ضد ما بعد الحداثة. وهذه الدعوة تؤدي في غالب الأحيان إلى نوع من تأليه نظام السلطة واعتباره مقدّساً لأنه يمثّل روح هذه المجموعة الإثنية التي انبثق عنها كما يدّعي عادة. لا بل إن فكر دوغن التوفيقي الذي لا يؤمن بالإنسانية كجسد واحد هو تجسد جليّ لكل ما تعنيه ما بعد الحداثة من معانٍ: نسف الأنطولوجيا (المسيحية في هذه الحالة)، نسف السرديات الكبرى (التاريخ الواحد للإنسانية)، والإمعان في سياسات الهوية وتأليه الخصوصيات الثقافية والشعبوية (التي ستنتهي أخيراً إلى تأليه نظام الحكم نفسه).

هذا لا يمكن أن يكون مسيحية “تقليدية”. ومع ذلك فنحن ندرك أنّ دعوة دوغِن التقليدية ليست مجرّد رغبة في العودة إلى شكل تاريخي جامد من التقليدية أو التقليدانية، فهو يدعو إلى تطوير النظرة للتقليدية للعالم (كما في بداية مقالته عن الإنسانوية القصوى). ولكن هذا التطوير، والحال هذه، يبدو وكأنه مجرد لفظ يشير إلى وجوب أن تعتنق روسيا نوعاً من الفلسفة المبتكرة التي تأتيها من فوق، مبنية على طريقة هايدغر، بشكل لا يختلف كثيراً في النهاية عن الحداثة التي أدخلها بطرس الأكبر وكاترين الثانية عنوةً إلى المجتمع الروسي.  ربما يختلف المضمون، ولكن المنهجية هي ذاتها. وعلى أية حال، يبدو أنّه من غير الممكن تقديم نظرة أو توليفة منسجمة تجمع أفكار دوغِن بطريقة يتسق فيها بعضها مع البعض الأخر، وذلك بسبب الطبيعة الشَّذَرية والعاطفية لكثير من نصوصه ومؤلفاته وتأثره بعدد كبير من الأفكار والشخصيات التي يطرحها في بعض الأحيان دفعة واحدة بطريقة تستدعي السؤال والتساؤل وتتطلب المزيد من الشرح والتطوير.  ولهذا فليس الهدف من هذه المقالة تقديم فهم شامل لكامل أفكار دوغِن، فهذه مهمة تحتاج إلى مئات الصفحات، ولكنه تقديم بعض الخطوط العريضة في من  فِكره والإشارة إلى المفارقات الكبيرة والتناقضات المحتملة ضمن فلسفته، وهي مفارقات وتناقضات تقترب من تجاوز الحد الطبيعي أو المتوقع، إلى درجة أنها تسمح لنا بالحديث عن دوغِن الفيلسوف ودوغِن الداعية القومي كشخصيتين يفرقهما أكثر بكثير مما يجمعهما.

[1] See Michael Millerman, Inside “Putin’s Brain”: The Political Philosophy of Alexander Dugin (Michael Millerman, 2022 ]Kindle[), 59.

[2] A. G. Dugin, “Maksimal’nyi Gumanizm,” (2000) Arktogeia: Filosofskii Portal, http://arcto.ru/article/220.

[3] يرفض دوغن في المحصلة الربط النهائي بين الإبراهيمية والإنسانوية المختزلة بسبب كثرة الاستثناءات الموجودة ضمن الأديان الإبراهيمية والتي تتوجه نحو الإنسانوية القصوى.

[4] V. S. Solov’ev, Sobranie Sochinenii Vladimira Sergeevicha Solov’eva. Tom 7 (New York: Bamboo Books, 2012), 286-9.  

[5]  جزيل الشكر للدكتور مايكل ميلرمان مترجم كتاب دوغن “النظرية السياسية الرابعة” على تزويدي بمسودة الترجمة غير المنتهية لكتاب دوغِن الثاني عن مارتن هايدغر وهو بعنوان “مارتن هايدغر: إمكانية لفلسفة روسية”، وفيها يتطرق دوغِن لفلسفة سولوفيوف ويعتبر أنّ فلسفة الشخصية مذهب غربيّ.

[6] Martin Heidegger, Being and Time, trans. Joan Stambaugh (Albany: State University of New York Press, 2010), 217.

[7] Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, trans. Mark Sleboda & Michael Millerman (London: Arktos Media Ltd., 2012).

[8] Alexander Dugin, Martin Heidegger: The Philosophy of Another Beginning, ed. & trans. Nina Kouprianova (Washington Summit Publishers, 2014), 314.

[9] Ibid., 319

[10] Ibid., 322.

[11] Ibid., 326.

[12] Ibid.  العلامة المائية هي العلامة التي توضَع مثلاً في أوراق العملة حيث يمكن رؤيتها عند وضع الورقة أمام مصدر ضوئي.

[13] Martin Heidegger, Being and Time, 221.

[14] Ibid., 227.

[15] Ibid.

[16] Paul Tillich, Systematic Theology. Vol. 2, 120.

[17] Julian Göpffarth, “Rethinking the German nation as German Dasein: intellectuals and Heidegger’s philosophy in contemporary German New Right nationalism,” in Journal of Political Ideologies, 25:3 (2020), 255-6.

[18] يصرح دوغن بأن “إتقان [فلسفة] هايدغر هو المهمة الإستراتيجية الرئيسية للشعب الروسي والمجتمع الروسي ضمن المدى المنظور.”

Millerman, 5..
من الصعب أن نفهم كيف يتوافق هذا مع شعب ومجتمع أرثوذكسيين ولماذا (حتى لو افترضنا وجود توافق محتمل) يجب على الروسيّ أن يبدأ من هايدغر بدل تطوير تراثه الخاصّ بناء على مصادر محلية.  وإذا كانت الأرثوذكسية غير قادرة على تأمين هذه البداية من أجل انطلاقة جديدة فلماذا ينبغي اعتبارها ثقافة تستحق الدعم والبقاء؟

 

 مجلة "مثاقفات"

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...