غياب الرقم الإحصائي في سورية وتلاعب "الخاص"به وتقاعس"العام"عنه
الأرقام والإحصاءات هي أساس خطط الحكومات وحجر الأساس في رسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية ..الخ، و هي المعيار الأهم الذي يقوم عليه التطور وتلافي الأخطاء في كل دولة تضع نصب عينيها التقدم في كل مجال، وبالنسبة إلى مجتمعنا، فإن ثقافة الإحصاء ليست منتشرة ولا يتم تقبلها، إن كان من قبل الجهات والمؤسسات الخاصة، أو من قبل الأفراد كمواطنين، وفي تحقيقنا سنسلط الضوء على أهمية الإحصاء ومسوحات الرأي في خدمة الحكومة وبالتالي خدمة المجتمع والفرد .
ثقافة الأرقام والبيانات، كما أشرنا آنفاً، نراها منفرة بين الأفراد والشركات والمؤسسات بمختلف اختصاصاتها، فمثلاً إن سُئل أحد الأفراد عن دخله الشهري، رأيناه لا يعطي رقماً صادقاً عن دخله، وإنما يعطيه تقريبياً وأقل من الواقع، وعلى هذا المقياس تُعمم الفكرة على شريحة واسعة من أفراد مجتمعنا الذين لا يعرفون أن مدى صدقية البيانات التي يعطونها يحدد مدى نجاح رسم السياسات المرتبطة بالمجتمع والدولة ككل .
¶ الإحصاءات «فزاعة»
لا يعلم الكثيرون الجانب القانوني بالنسبة إلى مسألة الإحصاءات والبيانات ومسوح الرأي ويعتبرونها فزّاعة، الهدف منها التعرف على الخصوصية وهتك الأسرار بالنسبة إلى الأفراد أو مصيدة الغاية منها تحصيل الضرائب والتأمينات بالنسبة إلى الشركات الخاصة، وهذه الأفكار المسبقة الناتجة عن عدم دراية قانونية بالموضوع يفضي إلى نتيجة النفور والابتعاد عن إعطاء معلومات وبيانات دقيقة لأي مسح يُنوَى إجراؤه .
وهذا ما أشار إليه مدير المكتب المركزي للإحصاء الدكتور (شفيق عربش) الذي أكد أن القانون رقم «35» لعام 1960 يؤكد على أنه لا يجوز إطلاع أي جهة على مسوحات الرأي والاستبيانات والإحصاءات، كما أنه لايجوز استخدامها لغير الأغراض الإحصائية ولا يمكن أن تُتخذ دليلاً ضد أي أحد .
¶ معايير الإحصاء
من المعروف أن كل اختصاص يعتمد على عدد من المعايير الناظمة للعمل على أساسها ومجال الإحصاء من ضمنها ولا بد أن تكون هناك معايير معترف عليها ومشتركة تؤخذ على أنها القاعدة الرئيسة لأي عمل إحصائي ومسحي .
عن ذلك، يتحدث مدير مشروع قاعدة بيانات التشغيل التابع للأمم المتحدة (كنان بهنسي) قائلاً : هناك تعاريف معتمدة من قبل منظمات دولية والأمم المتحدة وكل تعريف موجود في كل الدول، ولكن هناك بعض الاجتهادات الناتجة عن خصوصية كل بلد، هذا الاجتهاد تقوم به مراكز الإحصاء، وهذا الأمر موجود في كل دول العالم .
وأضاف (بهنسي) نحن غالباً ما نعتمد على التعاريف الدولية وبنفس الوقت نخرج بيانات تعتمد على وزارة العمل والمكتب المركزي للإحصاء على سبيل المثال .
لكن من يقرر تلك المعايير وأين ومن يأخذ بها وماذا تضمن كل ذلك، يجيبنا عليه الدكتور (عربش) بالقول بأن التعريفات التي يتم الأخذ بها يتم الإقرار بها في اجتماع اللجنة الإحصائية للأمم المتحدة التي تنعقد سنوياً في شهر شباط، وهناك يتم الاعتماد على التعريفات ويصدر كل ما تم الاتفاق عليه لتوزع على كل الدول الأعضاء .
وبالنسبة إلى المعايير التي يتم اعتمادها ومدى خصوصية كل مجتمع وبلد يقول (عربش) بأن أي تحليل للنتائج، يجب أن يأتي في السياق العام، صحيح لكل دولة خصوصية وهذا أمر طبيعي. فمثلاً معيار الفقر لدينا يختلف عن معيار الفقر في بلد أوروبي من خلال الإنفاق عند ذلك يتم حساب حصة الفرد وإنفاقه قياساً مع سلة العملات وربطها بعملة البلد وفق معايير علمية معينة لتظهر النتيجة وفق الخصوصية التي تتميز بها دولة عن أخرى .
¶ صعوبات إحصائية
لا بد من الوقوف على الصعوبات التي تواجه الإحصاء والاستقصاء في بلدنا لما لهذا المجال من أهمية كبيرة في الوصول إلى رسم سياسات صحيحة وواضحة تعتمد أساساً على بيانات دقيقة، وعدم دقة البيانات أو وجود خلل فيها يعني بطبيعة الحال خللاً في السياسات المرسومة وفقاً لتلك المعلومات . عن الصعوبات التي تعترض طريق الإحصاء تحدث تحدث الدكتور (عربش) قائلاُ : المشكلة الأولى التي تعترضنا هي مدى تقديرنا لأهمية الإحصاء، ففي سورية هناك أهمية للرقم الإحصائي وهذا يرتب علينا مسؤولية ونشر ثقافة الإحصاء هو عمل وطني يحتاج إلى تعاون الجميع مع مكتب الإحصاء الذي هو مصدر البيانات لكنه في نفس الوقت مصب للبيانات . وعند سؤالنا عن ذكر مثال للعراقيل التي واجهت المكتب خلال عمله، أوضح (عربش) أن إحدى الوزارات طلبت بيانات لنشرها وتقاريرها الدورية لم تُعد ولم تصل إلى المكتب بعد، فكيف يمكن رصد وجمع وتحليل البيانات، إن لم ترسل كل جهة بيانات دورية و آنية عن عملها، وقد تلقى المكتب منحاً وهبات من مشروع الإحصاء الأورومتوسطي ومشروع الشراكة من أجل إحصاءات القرن الحادي العشرين (باريس 21) تتضمن أجهزة متطورة وحواسب، ومع ذلك كانت الحجج من الجهات التي حصلت على المنح، أنه لا وجود لشبكة كي تربطها بالمكتب المركزي كي ترسل له معلومات فورية وآنية، وعلمنا أن الموضوع برمته ملقى على كاهل وزارة الاتصالات المسؤولة عن تأمين شبكة تربط الجهات العامة بالمكتب المركزي والجواب إلى الآن لا وجود لشبكة !
لماذا لا توجد مراكز ومكاتب إحصاء أخرى
من المعلوم أن الجهة الوحيدة التي تصدر بحوثاً ودراسات وإحصاءات ومسوحات واستطلاعات هي المكتب المركزي للإحصاء، ولم نسمع بأي جهة خاصةً أخرى تنتهج هذا المجال أو تقدم خبرتها إن وُجدت، اللهم إلا بعض الجهات الدولية التي تعمل بالتعاون مع المكتب المركزي للإحصاء، لكن في النهاية كل شيء يصدر عن المكتب المركزي .
عن عدم وجود جهات أخرى غير المكتب المركزي تعمل على إصدار البيانات والمسوحات، قال الدكتور (رسلان خضور) : من حيث المبدأ يجب أن تصدر أي معلومة من مصدر رسمي ، و خاصةً في ما يتعلق بموضوع مهم وعلى صعيد مجتمع وبلد، وهذا الأمر منوط لدينا بالمكتب المركزي للإحصاء، لكن هذا لا يعني أن لا تكون هناك مراكز أبحاث، إذ يُفترض أن لا يكون هناك احتكار للمعلومة، كما أن مراكز الأبحاث الخاصة يمكن أن تساعد في عملية المسح والبحث والإحصاء، لكن على أن تظل تحت مظلة المكتب المركزي كونه الجهة الرسمية المخولة بالتصريح عن البيانات والإحصاءات المرتبطة بالبلد خوفاً من تجييرها لمصالح وغايات معينة، قد تلجأ إليها جهات خاصة غير حكومية، وهذا أمر معمول به في كل دول العالم وليس لدينا فقط.
بدوره، يؤكد الدكتور (نبيل مرزوق) على فكرة الجهة الرسمية لإصدار بيانات المعلومات والإحصاءات قائلاً، إنه في كل دول العالم يتم اعتماد جهة رسمية لهذا الغرض، فتعدد جهات الأبحاث والاستقصاء بحاجة إلى مصب لمعلوماتها وبياناتها هذا المصب الذي هو جهة رسمية تتمتع بالصدقية
¶ شح في الدراسات والأبحاث
إن أردنا التحدث بمعايير حديثة ومتطورة، فإن أي مجال كي ينجح ويثمر يجب أن تسبقه خطط ومسوحات وأبحاث وهذا الأمر تفتقر إليه أكثر إن لم نقل كل الجهات العامة؛ لعدم وجود مراكز للدراسات والأبحاث فيها.
عن ذلك يتحدث ( كنان بهنسي) قائلاً : بصراحة هناك تقصير في مكاتب الإحصاء الموجودة في الجهات العامة، إذ يقتصر عملها على إصدار البيانات الإدارية دون اللجوء إلى القيام بمبادرات دراسية بحثية علمية، كما أننا لا نرى أية إحصاءات أو دراسات في كل المجالات، لذلك هناك ضعف يجب تلافيه، إذ ليس من المنصف إلقاء المسؤولية على كاهل المكتب المركزي دون مشاركته في العمل البحثي، ولتشجيع العمل البحثي باعتباره غير مرغوب فيه، لأنه يتسم بالجهد ومرهق لذلك يجب أن يكون هناك تحفيز للعمل الإحصائي، نقصد تحفيزاً مادياً ومعنوياً .
من المفترض أن كل عملية تخطيط يجب أن تقوم على أسس علمية ومن أولى تلك الأسس لكي تكون نقطة بداية الانطلاق هي الحصول على معلومات دقيقة للغاية وموثقة وذات صدقية، كي يكون العمل على أساسها، وهذا المنهج لا بد أن يكون موجوداً في كل المجالات. وهذا ما يراه الدكتور (رسلان خضور) وهو وجوب وجود مكاتب دراسات وإحصاء في كل المجالات والوزارات في الزراعة والصناعة والسياحة ...الخ، تسهم في العمل الإحصائي والبحثي المبني على التخصص والعلمية وليس فقط إصدار كتب ونشرات إدارية.
ونعود إلى مسألة التخطيط التي أساسها الحصول على معلومات، لكن تلك المعلومات لا يمكن الوصول إليها من العدم، إذ لا بد من التعاون الكامل والمتكامل بين كل الشرائح والقطاعات والفعاليات لتشكيل ملامح الصورة الكاملة عن تصورات أي وضع يتم العمل على التخطيط لتحسينه وتطويره.
وقد تمنى الدكتور (نبيل مرزوق) على القطاع الخاص والقطاعات الأهلية مشاركة القطاع العام والمكتب المركزي للإحصاء للوصول إلى بيانات ذات صدقية ودقة تسهم في تصويب رسم السياسات الإصلاحية التي نحن بصددها لما فيه خدمة الوطن والمواطن .
¶ لا مبالاة و تهرب .
هذا على مستوى الجهات العامة، أما بالنسبة إلى الجهات الخاصة، فهي أيضاً لها حصتها من اللامبالاة واللاتعاون مع المكتب وأغلب الشركات ترى في إعطاء بيانات لها كشفاً لأوراقها أو مصيدة تقودها إلى دفع ضرائبها .
ويؤيد حديثنا الدكتور (نبيل مرزوق) بالقول إن أغلب الشركات الخاصة تتهرب من المكتب المركزي للإحصاء ولا تتفاعل وتتعاون معه، فالقطاع الخاص لا يقدم المعلومات خوفاً من الضرائب والمالية والتأمينات ...الخ، ونحن نعرف أن القطاع الخاص يشكل حوالي 65 % من الدخل القومي، وهنا يأتي السؤال: إن كان 65 % من مصادر الاستقصاء والبحث مجهولاً أو لايعطي كل المعلومات والحقائق، فإنه بالتالي يعرّض البيانات للخلل، ما يؤثر سلباً على المعلومات، ويشكل إرباكاً للمكتب المركزي للإحصاء.
فيما يخالفه الدكتور(عربش) بالقول إن هناك تعاوناً من جهة الشركات والمؤسسات الخاصة في تقديم البيانات وأن درجة التعاون زادت عما قبل، لكنه لم يخف عدم فهم بعضهم لسرية تلك الإحصاءات، ما يجعلهم يخافون من الإدلاء ببيانات كثيرة.
و أعطى (عربش) أمثلة على بعض الصعوبات التي تعترض المكتب المركزي، فمثلاً هناك ضعف في السجلات الإدارية ونقصد بالسجلات الإدارية (الأحوال المدنية والهجرة والجوازات ... الخ)، إذ إنه بمجرد إرسال معلومات عن تلك السجلات تكون آنية، فإن المكتب سيقوم بجمعها وتحديث قاعدة بياناته بإضافتها، ومن أمثلة العراقيل أيضاً أن هناك حوالي « 100» موظف من الفئة الأولى لم يستطع مدير المكتب تعيينهم، على الرغم من الحاجة إليهم بسبب عدم وجود مكان كاف يتسع لكل الموظفين، فمبنى المكتب قديم تم تخصيصه منذ عام 1968 أيام كان تعداد سورية خمسة ملايين نسمة وإلى الآن مازال المبنى ذاته، ما يعيق وجود موظفين آخرين فضلاً عن نقص البنية التحتية المناسبة لمكتب الإحصاء .
والإحصاء والتخطيط كما أشرنا يتعرضان لمعوقات تراكمية هي حصيلة عدم تعاون بعضهم، وعدم تقديم بيانات كافية من بعض آخر، فضلاً عن عدم تأهيل الكوادر بالشكل الكافي وغياب التنسيق بين الجهات العامة التي قد تشترك في عملية الإحصاء لمجال ما .
¶ لا مركزية و لا تنسيق
الزراعة الاقتصاد والتجارة والنفط والتعليم والشؤون الاجتماعية وباقي المجالات الأخرى، تحتاج إلى التخطيط قبل الإقدام على تنفيذ أي خطة أو مشروع، ففي الصناعة يتم العمل على قدم وساق بإعداد القرارات التي تحتاج إلى تخطيط، لكن لا يخلو الأمر من معاناة تفرض نفسها بقوة، هذه المعاناة بينتها مديرة التخطيط في وزارة الصناعة ( ريم حللي)، حيث قالت إن المشكلة تكمن في أن وزارة الصناعة تشترك في الإشراف على قطاع الصناعة التحويلية، وهذا القطاع موزع بين عدة جهات منها وزارة النفط والاقتصاد والدفاع وبالتالي، فإن مرجعية الصناعة التحويلية ليست مركزية لوزارة الصناعة، فضلاً عن خلق هذا الواقع لبعض الإرباك بين الجهات المذكورة من حيث المتابعة الإدارية وتبادل المعلومات، كما أن القطاع الصناعي غير منظم، وهذا ما تعمل الوزارة على تلافيه من خلال رفع قرار مشروع تنظيم الصناعة الذي سيخلق تنظيماً بطبيعة الحال عندما يطبق من خلال إجبار الشركات في القطاع الخاص على تقديم استمارات إحصائية دورية سنوية تحتوي كافة النشاطات والبيانات اللازمة. وأضافت (حللي) بالنسبة إلى موضوع حديثنا؛ ألا وهو الإحصاء، فإن لدى الوزارة قاعدة بيانات إحصائية رئيسية وهناك تقارير ربعية دورية تدل على مؤشرات القطاع العام والخاص، لكن الثغرة موجودة في القطاع الخاص، حيث إن المعلومات والبيانات الواردة غير ملزمة لها وهي تتصل بكمٍّ قليل، ما يؤثر أساساً على قلة البيانات والمعلومات . و أفادت (حللي ) أن هناك العديد من الدورات التي أُقيمت لهذا الغرض، إلا أنه يجب التركيز على الفنيين الموجودين في المؤسسات الإنتاجية، فمعظم الموجودين في الوزارة هم إداريون مهمتهم تحليل البيانات لا جمعها وحسابها، إذاً فمسؤولية المعلومات التي تصلنا هي على عاتق الشركات.
كلام الختام
لا بد من تعميم ثقافة الإحصاء و التعاون بإعطاء البيانات لما لذلك من أهمية في المساعدة على رسم السياسات الصحيحة ، فإذا كان الرقم الاستبياني أو الإحصائي خاطئاً كانت الخطة أو السياسة القائمة عليه خاطئة، البحث العلمي هو أساس نجاح أي مشروع أو خطة ومن دونه تصبح الخطوة دعسة ناقصة، قد ينتج عنها تورّم في المشاكل الناتجة عن التخبط و تضارب المعلومات .
علي مخلوف
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد