نقلة واعدة في الفيلم التسجيلي السوري
اين موقع الفيلم الوثائقي وسط الاشكال السينمائية المنافسة، وهل يستطيع الجمع بين الهاجس الفكري والرؤية الدرامية. وتحديدا: اين الفيلم التسجيلي السوري في عجقة الفضائيات والتجمعات والمهرجانات الحية والموثقة؟
المراجع تقول ان المحاولات الأولى لتصوير الأشرطة السينمائية الوثائقية في سوريا ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، أي في مرحلة الانتداب الفرنسي. واستنادا الى كتاب جان الكسان “السينما السورية في خمسين عاماً الرّواد هم: نور الدين رمضان وجلال السيوطي ورشيد جلال. وتُعتبر تجربة المصوّر رمضان هي الأهم من بين أقرانه، اذ إنه بواسطة كاميرا سينمائية اشتراها من رجل ألماني في بيروت بدأ نشاطه في العام 1932 بتصوير الشرائط الإخبارية وتوثيق الأحداث السياسية ونشاطات الكتلة الوطنية، وكان من أهم ما صوّره المهرجانات التي أُقيمت لاستقبال المبعدين السياسيين: الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وسلطان باشا الأطرش، وتشييع جثمان إبراهيم هنانو في حلب. وخلال فترة نشاطه صوّر أكثر من أربعة آلاف متر من الشرائط الفيلمية، وواجه الكثير من المضايقات من قبل سلطة الانتداب، وعندما قامت الحرب العالمية الثانية توقف نور الدين رمضان وزملاؤه عن العمل لعدم إمكان استيراد المواد الأولية من الخارج.
بعد خمس سنوات على الاستقلال أسس يوسف فهدة مختبرا سينمائيا للتحميض والطبع والتسجيل في دمشق في العام 1951، وخلال عامي 1952و1953 صوّر فيلمين من أفلام الرحلات الوثائقية عن مدينتي دمشق واللاذقية (بالألوان، قياس 16 مم)، ثم صوّر لاحقا عددا آخر من الأفلام الوثائقية القصيرة عن مواضيع مختلفة. بعدها التحق فهدة للعمل بالمؤسسة العامة للسينما كخبير في مجال الطبع والتحميض، ومن خلال موقعه أنجز فيلمه الوثائقي الأخير “بداية السينما في سوريا” (1964)، وسوف تكون تجربته هي آخر المبادرات الفردية لإنتاج الأفلام الوثائقية في سوريا حتى العام 1987 حين أسس المخرج نبيل المالح شركته الخاصة “إيبلا” ومن خلالها قدّم حوالى تسعين فيلما تسجيليا في العشرين سنة الفائتة.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين مر الفيلم الوثائقي السوري بفترات مد وجزر، واحتل المحطات الأولى من تجربة معظم المخرجين السوريين. خلال تلك الفترة شهد العديد من التطورات والتمايزات، لكن واقع الحال يشير إلى أن القليل من المخرجين قد أخلصوا لهذا الجنس السينمائي، واعتبروه فنا قائما بذاته، ومن أبرزهم المخرج عمر إميرلاي، وهناك ادلة على أن هذه النوعية من الأفلام لم تحظ بالدعم والتشجيع الكافيين من قبل صنّاع السينما في سوريا خلال تلك الحقبة. فالقطاع الخاص حتى في أوج تألقه، قلّما أبدى رغبة في خوض هذا المضمار، ومن بين حوالى عشرين شركة من شركات الإنتاج السينمائي التي كانت قائمة وفاعلة في سوريا خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، لم تصدر سوى مبادرتين في هذا الاتجاه، الأولى من قبل شركة عبد الرزاق الغانم، حين أنتجت في العام 1979 الفيلم الوثائقي الطويل “الطريق إلى السلام” لأمين البني، والثانية من قبل شركة مرام حين قدّمت الفيلم التسجيلي “المنام” لمحمد ملص في العام 1980.
والجهات الحكومية منذ أواسط الخمسينيات أخذت تعوّل على أهمية السينما في المعارك الأيديولوجية وفي الدعاية والتأثير على الرأي العام، وبادرت الى انشاء دوائر الإنتاج السينمائي في بعض القطاعات المهمة، مثل قطاع الجيش ووزارة الثقافة والإرشاد القومي ومن ثمة التلفزيون، مستقدمة أفضل الكوادر الفنية المعروفة في ذاك الحين. وفي البداية أولت عناية خاصة للأفلام الوثائقية، وانفردت بإنتاجها لفترات طويلة، وكان التلفزيون العربي السوري هو الأنشط على هذا الصعيد، غير أن إنتاج هذه الدوائر مجتمعة لم يتجاوز المئة فيلم وثائقي، وقد توقفت عن العمل بالتدريج، وغلبت على جلّ أفلامها السمة الدعائية.
أما المؤسسة العامة للسينما فقد بلغ مجموع ما أنتجته من الأفلام الوثائقية منذ تأسيسها في العام 1963 وحتى نهاية الألفية الثانية قرابة مئتي فيلم، معظمها ظهر في المرحلة المبكرة من قيام المؤسسة، حيث انسحب البساط تدريجيا لصالح الأفلام الروائية القصيرة والطويلة، لاسيما في العقد الأخير من القرن العشرين.
وبينما ظن المراقبون أن الفيلم التسجيلي السوري أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الإهمال والروتين في الدوائر الرسمية، برزت في الأفق جملة من المتغيرات والمستجدات أعادت التوازن إلى المشهد مع مطلع القرن الحادي والعشرين. فقد ظهرت شركات خاصة حصرت اهتمامها بإنتاج الأفلام الوثائقية، كشركة “الليث” بمبادرة من ماهر جاموس، وشركة “بروآكشن فيلم” بمبادرة من ديانا جيرودي وعروة نيربية في العام 2003، وهذه الأخيرة أطلقت أول مهرجان دولي للأفلام التسجيلية في سوريا تحت اسم “أيام سينما الواقع/الدوكس بوكس” في ربيع عام 2008.
بدايات القرن الحالي شهدت ايضا بروز ظاهرة الأفلام التسجيلية المستقلة، التي تزامنت مع دخول تقنيات الديجيتال، وافتتاح العديد من الفضائيات الوثائقية، وكان أغلب نتاج هذه الظاهرة من الأفلام القصيرة والمتوسطة، ومنها: “إنهم كانوا هنا” لعمار بيك، “أزرق رمادي” لمحمد الرومي، “سمعان العمودي” لأنطوانيت عازارية، “حجر أسود” سيناريو خالد خليفة، إنتاج وإخراج نضال الدبس، “بدون استثناء” لعليا خاشوق، “ست قصص عادية” لميار الرومي، هذا إلى جانب فيلمي هالة العبد الله الطويلين: “هيه! ولا تنسي الكمون”، و”هي التي تحمل الزهور إلى قبرها” بالاشتراك مع عمار البيك.
يُضاف إلى ذلك اتساع وتنوع الدوائر المنتجة والمموّلة للفيلم التسجيلي السوري، لتشمل إلى جانب الهيئات السورية بعض المحطات الوثائقية والجهات الأجنبية، كما هي حال ثلاثية هالا محمد “حين يتعب قاسيون”، “قطعة الحلوى” و”رحلة إلى الذاكرة” التي أنتجتها قناة الجزيرة في العام 2006 في سياق سلسلة أدب السجون، وفيلم “ملامح دمشقية” لريمون بطرس الذي أنتجته الإدارة المحلية بتمويل من مفوضية الاتحاد الاوروبي في العام 2009.
وقد يكون توثيق هذا النشاط المتعدد الأوجه بالأرقام الدقيقة في الوقت الحالي لعدم توافر الإحصائيات والأدلة، ولأن أغلب الأفلام لم تحظَ بفرصة عرض جماهيري، لكن المتابعة الميدانية لمجريات الحدث تفيد أن الأفلام المنتجة خلال العقد الأخير قد شارفت على الخمسين فيلما أو ربما أكثر، وهو رقم مقبول نسبيا مقارنة بمرحلة الركود السابقة، وقد لا تكون التجارب جميعها على قدر متساو من الأهمية، لكن بعضها بالتأكيد حمل مفاجآت حقيقية على مستوى الشكل والمضمون، تبشّر بقدوم نقلة جديدة في لغة الفيلم التسجيلي على المستوى السوري. ومهما يكن من أمر فإن أهم ما يميز الفترة الحالية هو إحياء روح المبادرة الفردية من جديد، وهو ما يمكن التعويل عليه لخلق حراك سينمائي في السنوات المقبلة.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد