قرار منع التدخين بعد التطبيق: فوضى مزاجية استثناءات
بقوّة القانون، كان من المفروض أن يطفئ السوريون, من المدخِّنين في الأماكن العامة، سجائرهم ونراجيلهم، ابتداءً من 21 نيسان 2010، ولكن ذلك- المفروض- لم يحدث، فالتطبيق خرج عن النص القانوني، وأبطاله ارتجلوا سيناريو «الصياد والطريدة»..
ثقافة «صحتك أغلى»
اتَّسمت قوانين منع التدخين في سورية بالتدرُّج، حيث شملت هذه القوانين في البداية وسائل النقل العمومي والمؤسسات ذات الاستعمال الجماعي (قرار رئاسة مجلس الوزراء 5/ب للعام 2008).. ومن ثم
منعت بيع منتجات التبغ بكافة أشكالها من قِبَل من تقلُّ أعمارهم عن 19 عاماً (القرار رقم 60/ن للعام 2008 الصادر عن وزير الإدارة المحلية..). ولاقت هذه القوانين في البداية صعوبات تعلَّقت في الأساس بالالتزام بتطبيقها، سواء من قبل بعض المدخِّنين الذين لم يتعوَّدوا الفصل بين أماكن يسمح فيها بالتدخين وأخرى يُحجر فيها، أم من طرف الجهات المخوَّلة بمراقبة التطبيق، لصعوبة- إن لم نقل لاستحالة- ضبط كلِّ المخالفين، خاصة وأنَّ البعض يرى أنَّ المقصد من هذه القوانين يفقد معناه عند التطبيق، ويتحوَّل من مقصد «ردعي» إلى مقصد «مادي»، عبر تحرير أكبر عدد ممكن من المخالفات.
وفي العام 2009، صدر المرسوم رقم 62 القاضي بمنع التدخين في الأماكن العامة، ودخل حيِّز التطبيق في 21 نيسان 2010 بأهدافه العريضة على الصحة والبيئة والمواطن.. لكن، كيف كان التطبيق؟!..
«كبسة»
في «كبسة مباغتة» على أحد مطاعم دمشق القديمة، ألقت عيون الضابطة العدلية القبض على أحد الزبائن يدخِّن سيجارة، فقامت على الفور بتنظيم ضبط مخالفة تعليمات قرار منع التدخين في الأماكن العامة بحق صاحب المطعم، قيمته 25 ألف ل.س، بينما لم تتَّخذ في حقِّ الزبون المخالِف أيضاً تعليمات القرار، أيَّ إجراء، مكتفيةً بمعاقبة صاحبة المطعم فقط.. مع العلم بأنَّ صاحبة المطعم حصلت على موافقة رسمية من وزارة السياحة تسمح بموجبها بالتدخين داخل هذا المطعم.
أين اللجنة المالية؟
ومن جهة ثانية، لم يتمكَّن بعض أصحاب المطاعم ممن نُظِّمت في حقهم ضبوط مخالفات، من تسديد قيمتها، لأنهم حين قصدوا وزارة المالية بهدف تبرئة ذممهم، لم يجدوا من يتسلَّم المبلغ منهم، وبحثوا طويلاً عن اللجنة المالية التي من المفترض أن يكون قد تمَّ تعيينها قبل البدء بتنفيذ القرار وتحرير ضبوط المخالفة، فلم يجدوها، علماً بأنَّ التعليمات التنفيذية التي صدرت عن وزارة السياحة شدَّدت على ضرورة دفع المخالفة خلال شهر من تاريخ تنظيمها إلى الدوائر المالية المختصة، بموجب إيصال مالي، وتضاعف الغرامة إذا لم يتم دفعها خلال هذه المدة.
مزاجية
تلك الضابطة المكوَّنة من ثلاثة مهندسين واثنين من شرطة المحافظة، تزور المطاعم في المدينة القديمة صباح مساء، وليتها تكتفي بضبط المخالفين، بل وتقوم في أحيان كثيرة بنسف كلِّ ما تقوله أيُّ لجنة سابقة دخلت هذا المطعم، وبالتالي يحدث في كلِّ مرة- كما يقول أحد أصحاب المطاعم الذي رفض ذكر اسمه- أن تحدِّد إحدى اللجان الأماكن المسموح فيها بالتدخين وأماكن المنع، وبنسب معينة، ثم تأتي في اليوم التالي لجنة ثانية وتحدِّد أماكن جديدة للمدخنين وأماكن لغير المدخنين، وتهدِّد بتنظيم مخالفة في حال تمَّ التغيير أو التلاعب في النسب والأماكن التي تحدِّدها، والتي تختلف جذرياً عما كانت اللجنة السابقة قد حدَّدته في جولتها على المطعم..
خسائر بالجملة
عدد كبيرٌ من أصحاب المطاعم في المدينة القديمة (والتي يتجاوز عددها 148 مطعماً) باتوا يفكِّرون جدياً في تحويل المطعم إلى مقهى، وإن كانوا غير متأكِّدين بعد إن كان هذا التحويل الذي يتكلَّف 75 ألف ل.س سيعطيهم فرصة جديدة في تحقيق هامش ربح بسيط وتعويض الخسائر التي تكبَّدوها منذ اليوم الأول لتطبيق القرار، فمع اقتناعهم الكامل بأهمية هذا المرسوم الجمهوري وفائدته على الصحة العامة والبيئة، إلا أنهم عانوا خسائر كبيرة بمجرد الالتزام الكامل بما جاءت به التعليمات التنفيذية، وهذا ما دفعهم إلى تقديم معروض حمل توقيع 30 مطعماً تعدُّ الأكثر تضرُّراً، إلى كلٍّ من وزارة السياحة ومحافظة دمشق، مطالبين فيه بإنصافهم، على الأقل بالسماح لهم بتخصيص 60 % من مساحة المحل للمدخنين، لأنَّ هذه المطاعم يقوم مربحها على تقديم خدمة النرجيلة بنسبة 90 %.
أحد أصحاب المطاعم والموقِّعين على المعروض قال: «كان مربحي في اليوم الواحد يتجاوز 150 ألفاًَ، أما اليوم فلا يتجاوز 20 ألف ل.س، إذاً مِن أين سأدفع أجور العمال، والضرائب؟»..
قسم آخر من أصحاب المطاعم التي أوشكت على إعلان إفلاسها، وضعوا مطاعمهم برسم البيع، ليتحوَّلوا إلى الاستثمار في قطاع آخر، لأنَّ الوضع على حدِّ قولهم: «إذا استمرَّ على ما هو عليه من دون أيِّ تعديل في التعليمات التنفيذية، يأخذ وضعهم الحالي وبعد وضع القانون على المحك، في الاعتبار، فهذا يعني أنهم خسروا كلَّ شيء؛ أموالهم والسائح قبل الزبون المحلي».
تغيير نَفَس النرجيلة
بمجرد أن تبدأ اللجنة جولتها، وتدخل إلى أحد المطاعم، ينتشر خبر وصولها إلى باقي المطاعم، التي تأخذ بدورها الاحتياطات اللازمة، للظهور بمظهر الملتزم بتطبيق القرار.. بعض المطاعم تدلِّل الزبون وتأخذ النرجيلة منه بحجة «تغيير النَفَس»، وتُضيِّفه فنجان قهوة، وبعضها الآخر تنقل اللوحة التي كتب عليها «ممنوع التدخين» إلى طاولة ثانية وثالثة ورابعة، وهذا ما دفع أصحاب المطاعم إلى التشكيك في عدالة ضبط المخالفات، لأنَّ العلم المسبق بحضور الضابطة يسمح بأخذ التدابير الوقائية والعودة إلى ارتكاب مخالفة من جديد بعد انتهاء الجولة..
لأخذ العلم
لأخذ العلم، ليس إلا، بعض المطاعم في مدينة دمشق، وبكلِّ جرأة، وجدناها تضع على الطاولة لوحة مكتوب عليها «ممنوع التدخين»، بينما الزبون يجلس على الطاولة نفسها ويدخِّن ويشرب النرجيلة!.. ومطاعم أخرى وجدناها وقد خصَّصت طاولة واحدة لغير المدخنين من بين 30 طاولة للمدخنين.. قد تكون هذه مشاهدات، ولكن هناك واقعاً لم نشاهده، وإنما سمعناه من أفواه «عمال النرجيلة» الذين أصبحوا الآن عاطلين عن العمل، إما لأنَّ صاحب المطعم صرفهم فلا حاجة له بهم بعد التطبيق، أو استقالوا لأنَّ رزقهم يعتمد على «البرّاني» الذي يقدِّمه الزبون مدخِّن النرجيلة عادةً.. ولو فرضنا أنَّ كلَّ مطعم في المدينة القديمة فقط صرف 3 موظفي نرجيلة، فهذا يعني أنَّ 444 موظفاً خسروا وظائفهم، ومعظمهم مسؤولون عن عائلات.
دفاع أم هجوم؟!
تدخل صناعة التبغ في سورية في منظومة الاقتصاد الوطني، حيث يزرع سنوياً 14 ألف هكتار من التبغ، فضلاً عن وجود 35 ألف إنسان يعملون في التبغ المحلي والمراقب من قبل هيئة المواصفات والمقاييس.. ولكن، «إيقاف إنتاج المؤسسة العامة للتبغ لم يكن مطروحاً كمادة ضمن التعليمات التنفيذية للقرار 62»، مما دعى مؤسسة التبغ إلى التوقُّف عن تزويد السوق السوري بالتبغ المحلي، فجاءت النتيجة عكسية بدخول أصناف مهرَّبة من التبغ المتلِف للأعصاب وبنسب قطران تتجاوز المواصفة السورية.
وعلى الرغم من أننا في سورية نعيش منعاً إعلانياً عن التدخين في كافة وسائل الإعلام منذ العام 1996 (تاريخ صدور المرسوم التشريعي رقم 13 الذي اختير فيما بعد يوم صدوره- 9 أيلول- احتفالية باليوم السوري لمكافحة التدخين في كل عام)، إلا أنه تبقى إحدى أهم معوقات برنامج مكافحة التدخين، ظهور الممثِّلين في الدراما وهم يتعاطون وبشراهة التبغ بنوعيه؛ السيجارة والنرجيلة. وللمسؤولين عن مشاهد التدخين كعنصر أساسي في أعمالهم، تبريرهم القائل بأنَّ «الواقع مدخّن، والدراما هي نقل حقيقي للواقع».. ولكن بحسب الدكتور نبيل المريدن (طبيب أورام): «هذا إظهار لنصف الواقع فقط، بينما تحجب الدراما عن متابعها نصف الحقيقة الآخر، المتمثِّل في أنَّ التدخين سبب رئيس للسرطان، وفي مقدمته سرطان الرئة بنسبة 80 %»..
حق وواجب
يتساءل المدخِّنون: «إذا كان من واجبنا تجاه البيئة والمجتمع، الامتناع عن التدخين في الأماكن العامة، فإنَّ من حقِّنا في المقابل اللجوء إلى عيادات علاجية للمدمنين، تؤمِّن مستلزمات النيكوتين ومضاد الاكتئاب والأدوية الحاصرة لانتشار التدخين في الجسم والتخفيف من أعراضه الانسحابية المزعجة».. وتوافقهم الرأي والمطلب الاختصاصية الاجتماعية رلى العبد: «مع غياب المعالجة السلوكية الملائمة والدعم الكافي من المحيطين بالمدخنين، فإنَّ معظمهم ينتكسون ويعودون إلى التدخين خلال أيام قليلة من محاولة الإقلاع عنه، طبعاً لأنَّ كل ذلك مرهون بتعزيز قناعة المدخن بضرورة الابتعاد عن التدخين».
الورقة الرابحة تحترق
مما لا شكَّ فيه، أنَّ المرسوم 62 للعام 2010 سلَّح الرأي العام غير المدخّن بنصٍّ تشريعي حازم يمكن إشهاره في أيِّ وقت في وجه المدخنين، ووصمهم على سلوكهم في تعاطي التدخين ومطاردتهم لإيقاف خطرهم على مَن يحيطون بهم، والذين قد يتعرَّضون إلى الإصابة بسرطان الصدر بنسبة تقارب الـ17 %، وفقاً للدكتور نبيل مريدن. ولكن، يبدو أنَّ تطبيق التعليمات التنفيذية أظهر خللاً من نوع ما، ربما يمنع عدم تجاوزه من تحقيق الهدف من المرسوم والمتمثِّل في تضييق فضاءات التدخين..
التوعية والقانون وجهان لمنع التدخين
من خلال مقارنة عدد المدخنين ونسبتهم بعدد السكان، فإنَّ سورية تعدُّ من الدول المتأخِّرة في استصدار قرار يمنع التدخين في الأماكن العامة، حيث سبقتها أغلب الدول الغربية والعربية في سنِّ تشريعات حجر التدخين في الأماكن المغلقة ذات الاستعمال الجماعي. وأثمرت تجارب هذه الدول التي سبقتنا في قوننة منع التدخين؛ «أنَّ ازدياد عدد المدخنين عادةً، يقترن بفشل مجتمعاتهم في محاولة إقناعهم بالتخلِّي عن مرافقة السيجارة». ومنذ ذلك الحين، بدأت جهود تضييق فضاءات التدخين في تلك المجتمعات تتَّجه إلى الرادع القانوني، بالتوازي مع القيام بحملات التوعية والتثقيف بفوائد الانقطاع عن التدخين وعواقب الاستمرار في تعاطيه، لاسيما لدى فئة الناشئة التي دخلت مؤخراً خطّ الإدمان، وعدم التخلِّي عن مخاطبة الفئات العمرية الأولى وتحذيرها بشكل إيجابي بعيداً عن الترهيب والتخويف بمخاطر الانسياق الأعمى وراء سلوكيات ضارة كالتدخين بنوعيه؛ السيجارة والنرجيلة، وإيصال المدخِّن إلى حالة إدراك مدى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية التي تتكبَّدها حكومته سنوياً، والخسارة في أيام العمل بسبب المرض وفقدان القوى العاملة الناتج عن العجز الكلي أو الموت المبكِّر، كلها أمور تدفعه إلى تغيير سلوكه من مدخِّن إلى غير مدخن.
بينما نجد مجتمعنا يمتلك أقوى النصوص القانونية وأضعف ثقافات التوعية، وفقاً للاختصاصية الاجتماعية رلى العبد، والتي أكَّدت «أننا نعاني هشاشة الخلفية الصحية التثقيفية المحفِّزة على ترك السلوكيات السلبية، لاسيما التدخين، الذي يتأثَّر متعاطوه بالأثواب المزركشة التي تلقي على السيجارة طابع المتعة والتسلية والحل السحري للضغط النفسي، ومن ثم المضي في تعاطيها من باب الإيمان الخالص بأنَّ الموت والحياة بيد الله، ولن تقصِّر السيجارة عمراً، كما لن يطيل الإقلاع عنها من العمر»..
ولذلك تنبِّه العبد إلى أهمية: «توعية هؤلاء بحقيقة مجهولة؛ أنَّ الأجل محدَّد، ولكن في المقابل، عدم التدخين إنما يضيف حياة إلى العمر، فهناك فرق بين أن يعيش الإنسان حياته وهو مستمتع بكامل صحته إلى آخر أيامه، وبين أن يقضيها في عيادات الأطباء وعنايات المستشفيات».
قبل صدور المرسوم، وتحديداً في العام 2007، انطلقت حملة «توقَّف عن التدخين.. انطلق للحياة» بعد أن كشف إحصاء رسمي عن وجود 5 ملايين مدخِّن، بينهم 3.3 مليون مراهق ممن تتراوح أعمارهم بين 13 – 15 سنة؛ أي أنَّ ما نسبته 26 % من سكان سورية مدمنون على التبغ، وثلثا هذه النسبة من فئة الشباب التي نافست شعار البرنامج الوطني لمكافحة التدخين للعامين 2008 - 2009 «شباب لن يدخن»، بشعار «شباب لن يدخِّن أقل من 10 سجائر في اليوم».
دارين سليطين
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد