الحلم السوري (3)

ترى هل الأفق خلف أم أمام ؟
فإذا كانت العروبة أفق آباء الاستقلال فإن الأبناء لم يصلوا إلى الوحدة.. وإذا كان الإسلام أفقهم فقد أوصلهم إلى تورا بورا.. وإذا كانت الحداثة هي الأفق فقد وصلوا إلى الاستنساخ الغربي لها.. بالطبع ليست المشكلة في العروبة أو الإسلام أو الحداثة, وإنما في عدم توفر البوصلة لدى المبحرين نحو الأفق, لذلك من حق الأبناء أن يتساءلوا: هل الأفق الذي تطلع إليه الآباء ومشوا نحوه كان مستقبلا أم ماضيا؟
نعيد طرح الأسئلة: ترى هل كان ما سمي بالمد القومي مداً نحو العروبة أم نحو العصبية.. وهل المد الإسلامي مداً نحو الله أم نحو الطائفية.. هل الأفق الذي مشينا نحوه كان الأمس أم الغد، إلى القرن الواحد والعشرين أم القرن الحادي عشر.. ذلك أن القضية تكمن في إعادة صياغة الأسئلة في مجتمع الأجوبة الجاهزة.. فالأحزاب والمدارس والأديان لم تجدد أسئلتها وبالتالي فإن أجوبتها مازالت كما هي منذ نصف قرن, الأمر الذي أهّلنا لنغدو مجتمعا أصوليا محافظاً بإطلاق.. ولكي لا نبخس الآباء حقهم فقد أبلينا فقط في استمرار مواجهتنا للطموح الصهيوني في المنطقة, وفي هذا نقطة لصالح الآباء, إذ يمكننا أن نفخر بأننا الشعب الوحيد الذي قارع الصهاينة منذ بداية التاريخ ولم ننهزم بعد في الوقت الذي أنجز فيه الصهاينة هيمنتهم على الأميركان والأوروبيين وحلفائهم من العرب التابعين، ومازالوا يستثمرون خسائرالأمم من حربها العالمية حتى اليوم ..
بعد الجلاء، وكما أسلفنا في الحلقات السابقة، شكل المثقفون الأوائل دولة الاستقلال بأحزابها وجيشها وصحافتها حتى أوائل الستينات وبداية الانقلابات العسكرية، إذ تراجع دورهم قسرياً مدة من الزمان ليعودوا إلى الساحة مع بداية العقد الأول من القرن الجديد, ولكن برعاية وتمويل المؤسسات الخاصة ورجال الأعمال, حيث تغير دور المثقف من نبيّ ومبشر وثائر إلى عامل ضمن مجموعة للإنتاج المشترك هدفها الاستثمار والانتشار: في الإنتاج التلفزيوني والصحافة الخاصة والإلكترونية والإعلان والتبشير الديني الممول.. وقد ساهم المال الخليجي في إنجاز القسم الأكبر من الإنتاج الثقافي السوري وتوسيع رقعة انتشاره وعولمته, وتمكن المثقفون اليوم من تحقيق ما لم تستطعه الأحزاب والجماعات والعسكر قبل نصف قرن, ألا وهو مدّ أجنحة سوريا خارج حدود سايكس بيكو, وتلوين الثقافة العربية بالنكهة السورية بعدما كانت النكهة المصرية واللبنانية هي الطاغية عليها.. غير أن الفكر التنويري الذي ميز ثقافة الخمسينات والستينات قد تراجع لتحل محله ثقافة استهلاكية سريعة المتعة والفائدة أسقطت من حساباتها الشعارات المستحيلة التي أطلقها جيل الآباء وأفشلها العسكر وأطراف أخرى تعرفونها بالطبع ..
 
هامش: قبل نصف قرن أرسل صدقي إسماعيل, أكثر أدباء البعث حضورا في الستينات, قصيدة إلى علي محسن زيفا يقول فيها:
صديقي علي:
أتذكر يوم جلسنا على ضفة الجدولِ؟
هناك بأنطاكية
وقد قلت لي:
قريباً سأذهب وحدي إلى بلدة ثانية
ورفّ علينا غراب
غراب بلون الدجى المسدلِ
يحدثنا عن بلاد ستمسي خراب
وما ذاك بالمعولِ
ولكن بأيدي الشباب

نبيل صالح