غسان الرفاعي: حينما تتحول المطالعة إلى محنة!
ـ 1 ـ شيء لاقدرة لي على مقاومته ولا على التحرر من سحره هو غلاف كتاب جديد. وكما تبهرك امرأة جميلة، في اللقاء الأول، بمكياجها الصارخ، وفتحات ثوبها التي تكشف عن زوايا خبيّة في جسدها اللدن، فكذلك يبهرك الكتاب، حينما تلقي النظرة الأولى عليه بغلافه الأنيق ومقدمته التي تكشف بعض الشيء من مضمونه الجذاب. ولكن كما تصاب بخيبة أمل كبيرة بعد إجراء حوار مع المرأة الجميلة، اذ تتبدى لك تفاهتها وغثاثتها وانتهازيتها، فكذلك تصاب بخيبة أمل كبيرة، قرف واخز بعد قراءة الكتاب حينما تكتشف رخصه وركاكة أسلوبه وفجاجة افكاره. على أن المفارقة الفاجعة في الموقفين انهما لايقنعانك بالتوبة ومن المؤكد انك لن تتوقف عن ضرب مواعيد للجميلات ولن تزهد في تصفح الكتب والتورط في شرائها.
كل الصدمات وخيبات الأمل التي تلقيتها لم تمنعني من أن أكون على موعد مع معرض الكتاب المعاصر في باريس الذي افتتح في الاسبوع المنصرم، قصدت منطقة فرساي، وأنا أمني النفس بمفاجآت ثقافية فكرية من الوزن الثقيل. لقد عصفت بالعالم أحداث جنونية وانهارت ايديولوجيات كانت تسكن رؤوسنا أكثر من ربع قرن، وطفت على السطح «بقبقات» أدبية متنوعة لابد من أن تكتظ بها عرصات المعرض وكم كانت دهشتي كبيرة حينما اكتشفت ان الساحة الأولى من المعرض مخصصة «للرواية السوداء» أو مايسمى «رواية الأوباش»: آلاف الكتب بأغلفتها السوداء وعناوينها الصفراء وصورها المثيرة للخوف والرعب مغروسة في كل مكان كأنها ثياب داخلية نسائية أو حبال من «السجق الأرمني» الى جانب طبعات جديدة لبعض الأدباء الاسبان والألمان أو لأقصوصات «لافونتين».
ـ 2 ـ
كنت في مطلع حياتي أتعاطف مع «ارسين لوبين» اللص الظريف الذي يسرق من الأغنياء والمترفين ليساعد الفقراء المعدمين. كنت معجباً بـ «شرلوك هولمز» الذي لم يكن تنطلي عليه حيل الأشرار المجرمين، وقد سحرني «سيمونون» الكاتب البوليسي الحاذق حينما أعلن في مقابلة تلفزيونية:« أعيش مع بطل الرواية الجديدة الى أن تنشر وحينئذ أسعى الى التخلص منه وكثيراً ما أدبر مؤامرة لقتله في رواية لاحقة حتى أتحرر منه...».
في نهاية الحرب العالمية الثانية أقدم مدير أحد الفنادق من الدرجة الثالثة واسمه «مارسيل دوهاميل» على اغلاق فندقه بعد اقترابه من الافلاس، وانقلب الى ناشر فجأة. كان متأثراً بنمط الحياة الأمريكية والغزو الثقافي الأمريكي وتولد عنده اليقين ان العالم الجديد بعد الحرب سيكون متأثراً بنمط الحياة الأمريكية. أصدر سلسلة من الروايات سمّاها «السلسلة السوداء » واستهل إصداره الأول بهذه المقدمة: «سأقدم الى القراء في هذه السلسلة قصصاً جديدة فيها حب شهواني وكراهية دون رحمة وجشع للمال وسعي محموم للسلطة وتلذذ بالقسوة وتفنن في القتل ومطاردات ومشاحنات، أليس هذا مايحلم به الناس الآن ،فلماذا الخوف من المجاهرة به؟ وكتب على الجانب الآخر من الغلاف: «أظهرت الحضارة الأمريكية سطوة الفساد في الحياة العامة من جهة كما أظهرت إغراء الجريمة من جهة ثانية. لقد سقطت آخر المحرمات وقضت على الشعور بالخجل، ومن هنا اهمية الكتب التي سأنشرها. انها ستحرر الانسان من عقده وستميط اللثام عن نوازعه الدفينة دون خجل». واستمرت دار «غاليمار» تنشر الروايات السوداء بمعدل 5 روايات كل شهر منذ مايقارب الـ /50/ عاماً.. وهي اليوم تحتفل بعطائها ونجاحها وإقبال الناس عليها. ويقول مدير الدار: «لولا الروايات السوداء، لأعلنت إفلاسي، انني أستخدم الأرباح التي أجنيها من نشر الروايات السوداء لتغطية نفقات الكتب الرخيصة جداً».
ـ 3 ـ
احتشد جمهور غفير أمام جناح من أجنحة المعرض وكان رجل في الأربعين ولايخلو من وسامة ووجاهة يتحدث وهو يحرك يديه بعصبية زائدة. وفي أثناء ذلك، كان يوقع على كتاب، غلافه أسود، وعنوانه أصفر، «لن تهرب مني، سأقطع رقبتك بموسى حلاقة!» وكان عدد من المعجبين، يصفق له بين الحين والآخر، وكان يقول: «مسرح رواياتي الجديدة هو في عواصم الشرق الأوسط، خاصة في البلدان العربية والشمال الافريقي، وهذه العواصم هي المكان المفضل للروايات السوداء: هناك أثرياء متخمون وفقراء معدمون، ومغامرون متهورون، ونساء شهوانيات متعطشات للمجازفة، وتجارة أسلحة، وعصابات، وسرقة ورشوة، ومطاردات مثيرة، في الشوارع الضيقة، وسيارات مفخخة، وطائرات، وحوامات تحط في مطارات صحراوية، ومخدرات، وجثث. يا الله كم هناك من جثث!».
ـ 4 ـ
استوقفني ـ وأنا أتجول في «سوق البراغيث» ـ بعد أن انتقلت اليه من «معرض الكتاب» ـ اعلان مضاء بالنيون الباهر، يتصدر مكتبة شاء صاحبها أن يسميها «مكتبة الأشرار» جاء فيه:« رخصة كبيرة على الايديولوجيات تتجاوز الخمسين في المئة. لاتفوتوا هذه الفرصة النادرة». دخلت المكتبة، وكانت مكتظة بالزوار، بعد أن تملكني حب اطلاع، واستفسرت عن جلية الأمر.
قال لي صاحب المكتبة: «هذا الأسبوع مخصص للايديولوجيات القديمة، ولكن الأسبوع القادم مخصص للايديولوجيات المعاصرة. عندي كتيب مبسط مختصر يتحدث عن أربع ايديولوجيات قديمة لا تزال تسحر الناس وتحمسهم: الابيقورية، الرواقية، التهكمية، والفوضوية وثمن الكتيب لا يتجاوز /10/ يورو. اشتريت الكتب دون تردد، وأنا أتساءل: «حتى العقائد و الايديولوجيات أصبحت سلعاً تجارية تخضع لذبذبات السوق. وانتهيت من قراءة الكتيب بلهفة وسخرية، وقد تولد عندي اليقين بأن عصرنا هو عصر الأعاجيب.
مؤلف الكتاب هو مقاول نجح في ميدان الأعمال، وهو واثق أنه سينجح في ميدان الأفكار. وإذا كان بارعاً في قبض عمولته نقداً، بعد كل عملية تجارية ناجحة، فهو مقتنع انه سيقبض عمولته مؤجلاً، بعد الترويج للأفكار الجديدة، واقناع أكبر عدد من الناس بجدواها وفائدتها، يكتب في مقدمة كتابه: « مازال الإنسان مغزواً بالهموم والآلام، يراوح مكانه فريسة للريبة والهلع، على الرغم من تكاثر السلع الايديولوجية المطروحة. المشكلة الكبرى ان عالم التنظير لاعلاقة له بعالم الواقع، ومن هنا شعورنا جميعاً بأننا لقطاء، وأننا بحاجة إلى تحديد نسبنا، ومعرفة انتمائنا إلى ارومة شرعية! وينهي مقدمته بهذا الاعتراف: «عالم القدامى ليس عالمنا، ولكن الأسئلة التي طرحوها لم تتغير، لم يكتفوا بالكلام، بل كانوا يمارسون أفكارهم يومياً، وهم يحاولون قدر المستطاع، أن يقلصوا التناقض بين الفكر والحياة حتى لو تعرضوا للسخرية. مازلنا نتعظ بصورة «ابيقور»، وهو يلهو كصغار الصبيان في حديقة منزله، وبصورة «سينيك»، وهو يفتح شرايينه بغبطة وسعادة تنفيذاً لأوامر سيده، دون تذمر ولا شكاية، ومازلنا مسحورين بصورة «بيرون»، وهو يتابع طريقه دون اكتراث، في حين كان أحد أصدقائه يغرق، أو بصورة «ديوجين» ، وهو يجرجر جرته، وفي يده شعلة وسمكة مازالت على قيد الحياة..».
ـ 5 ـ
البارحة قصدت مكتبة «العاصفة»، الغائصة في زقاق متفرع عن السان جرمان دوبريه، مدفوعاً بحنين عتيق لتصفح «الكتب المارقة» التي تعودت أن أقتنيها، منذ عشرات السنين. هالني «الانحطاط» الذي انحدرت اليه عناوين الكتب المعروضة. كانت صاحبة المكتبة، السيدة «ناتالي»، تروتسكية ناشطة، ولم تكن تقبل أن تعرض الا الكتب «الثورية التي تدعو إلى التفجير والتغيير»، ولكن «ناتالي» قد توفاها الله، وتولت ابنتها «فلورانس» إدارة المكتبة.
وتقول «فلورانس» وهي لا تخفي حزنها وخيبة أملها:« أوصتني أمي قبل وفاتها أن أحافظ على هوية المكتبة، وأن أبقيها منبراً للفكر الثوري، ولكن الزمن قد تغير، ووجدت نفسي مرغمة على تخصيص رفوف في المكتبة للروايات البوليسية الأمريكية، وللأدب الجنسي المكشوف، والتحقيقات الفاضحة والطروحات المغرقة بالرجعية والتعصب العنصري، أما كتب المثقفين الشباب الجدد، فإنها أكثر تخلفاً من كتب الكتاب الكبار، وأفدح رجعية. لقد تصدر الساحة مثقفو «سوق البراغيث»، ومجتمع الاستهلاك، وسماسرة المافيا».
كان مثقفو فرنسا يحدثون الزلازل السياسية منذ عام 1789، وكانت الحرائق، التي يشعلونها تنتقل إلى كل أوروبا، بل إلى العالم. وحينما انفجرت الثورة الفرنسية هتف أحد سلاطين التحالف المقدس: الرعاع يزحفون، فإلى الخنادق! ومازال جزء من أوروبا المحافظة يختبئ في الخنادق، خوفاً من «الطاعون الفرنسي» ولكن الموقف انقلب رأساً على عقب وبدا، وكأن الانسان الفرنسي العادي قد بدأ يقتنع ان «الجنون الثوري» هو عمل مضر وان التمرد البروليتاري سواء أكان سياسياً أم ثقافياً أم اجتماعياً، لم يعد مستعصياً على النجاح فحسب، وانما هو موقف مرادف «للنحس». ان المعارك المحلية التي تطفو على السطح لم تعد «لائقة» بشعب متحضر، بل لعلها مدعاة للسخرية لأنها لن تغير شيئاً في نهاية الأمر.
ـ 6 ـ
على أنني مازلت أقضم الكتب كالفأر، لا لأستمتع ولا لأستفيد ولا لألهو، وانما لأن القراءة أصبحت جزءاً من تكويني الفزيولوجي. أفتح ثلاثة كتب في آن واحد: كتاب ثقيل الدم، لايعرف أحد ماذا يريد صاحبه ولا لماذا كتبه، ورواية بوليسية خفيفة الدم لايعرف أحد كيف تتشابك أحداثها وتتلاطم شخوصها، وكتاب عن التراث يجمع الحكمة والحماقة معاً ويعجن النبالة بالبذاءة، فتراني أقفز كالكنغارو البرّي من فصل في الوجود المتزمن للفيلسوف الألماني «هايدجر» الى مغامرات «المفتش ميغري» مع المومس للكاتب الفرنسي «سيمونون» الى طرائف «ابي حيان التوحيدي» في البصائر والذخائر، وأتساءل في شيء من الجدية الهازلة: «ما الفرق بين مغامرة بوليسية، ومغامرة سياسية، ومغامرة ميتافيزيقية!».
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد