العراق، الأسطورة التي تستعصي على الإدراك
لم يعد سوى كلام مكرر القول بإن العراق مهد الحضارة البشرية، ولكن لابد من التأكيد مثنى وثلاث ورباع إي حضارة؟ فالعديد من المناطق شهدت حضارات مُعتد بها، مرافقه ولاحقة لحضارة وادي الرافدين، حتى أن هناك بعض من يقول (ديورانت مثلاً) أن هناك إحتمالاً بإن تكون ثمة حضارة أقدم من حضارة وادي الرافدين، ويشير في كتابه الفذ "أصل الحضارة" إلى إحتمالات أن تكون ثمة حضارة في الهند أقدم من حضارة وادي الرافدين، وإن لم يجزم بهذا. وكما هو معلوم هناك حضارات متقاربة زمنياً مثل حضارة وادي النيل، وحضارة الصين القديمة. ولكن مهما تعددت الحضارات المرافقة واللاحقة تظل حضارة وادي الرافدين شيء آخر. شيء يؤشر لعبقرية متجاوزة مُتخطية. عبقرية كونية، هي في العديد من جوانبها، معجزة، وخارقة، أحدثت نقلات عملاقة في تطور البشرية. ولست أدري كيف ستتطور البشرية لاحقاً لو أن الإنسان الرافداني لم ينجز ما أنجزه في الوقت والمكان الذي أنجز فيه هذا الإنجاز. يكفي القول ان إنسان وادي الرافدين كان الأول في أهم نقاط التجاوز في فجر الحضارة، فالسومريون والأكديون والأشوريون كانو الأوائل في كل شيء تقريباً. وهذا أمر لم يحدث أبداً في أي مكان وزمان، لا سابقاً ولا لاحقاً.
في الزمن الغابر، وقت أن كانت دول عظمى الآن تعيش في الكهوف، أسسوا عاصمة كونية هي بابل وما أدراك ما بابل، بابل الإعجاز المجسّد، وعجيبة الدنيا، فيما بعد واصل العراق نبوغة فكانت بغداد عاصمة كونية ثانية، في زمان آخر وعهد آخر. ولم يقيّض لأي بقعة على وجه البسيطة أن تستأثر بهذا المجد، في عهدي البشرية، القديم والحديث. كيف ولماذا حدث ويحدث هذا، في هذه البقعة من الأرض، ومع إنسان هذه البقعة؟
ليس من السهل الإجابة على مثل هذه الأسئلة المحيّرة. هل يتعلق الأمر بطبيعة الإنسان على هذه البقعة، هل يتعلق بالجغرافية والموقع؟ أم بأشياء أخرى؟
عندما انتصر الإسلام، تحوّل الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب إلى الكوفة في أرض العراق ليجعلها عاصمة الخلافة، هل حدث هذا اعتباطا؟ أم أن الخليفة الرابع وجد إن الإسلام وقد انتصر، فإنه ينبغي أن ينطلق على أكتاف أناس قادرين على الإنطلاق به، وإلى وسط وبيئة مهيئة تماماً ليس لهضم هذه القيم فقط، وإنما لنقلها إلى آفاق التجاوز العبقرية، ولم يخطئ الخليفة الرابع بهذا، فهنا في هذه الأرض، نشأت علوم القران والكلام كلها، وهنا أيضاً وضُعت علوم العربية والبلاغة، وعلوم العروض، هنا ظهر الكتّاب العظام الذين كتبوا وبحثوا في كل شيء تقريباً، وهنا أيضاً تأسس علم الكلام، انطلقت الفلسفة الإسلامية، وأسست المذاهب، والملل والنحل، والمدارس الفكرية، هنا تكرّست وتجذرت علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، والطب والصيدلة، وهنا ظهر المتصوّفة والزنادقة، هنا أسست أول جامعة، وأول مؤسسة للترجمة، ومن دار الحكمة خرجت المعرفة الإنسانية الخالدة، لتشرق على العالم كله.
عبثاً البحث في التأريخ عن ضرة لبابل في زمانها. وعبثاً لا طائل من ورائه البحث عن ضرة لبغداد في زمانها. بابل جميلة الجميلات، ملهمة المخيّلة، الغربية قبل الشرقية، وبغداد الأجمل والأروع والأحلى، بغداد التبغدد، والتبغدد ليس الغنج الفاضي، وإنما الدلال المُستحق المُستند على النعيم المرتبط بالتحضر والتمدن. كثيرة هي المدن الجميلة على سطح الكوكب، وكثيرة هي المدن التي منحت البشرية الكثير مما لا يُحصى من الإنجازات التي إضيفت لرصيد البشرية، ولكن تظل بابل القديمة الجديدة، مُتربعة على عرش الحلم الذي لا يُنال، بابل الحكيمة والقوية، بابل القانون والملاحم الشعرية، وبغداد الأصالة والنبوغ، إنهما معاً، في الظرفين المختلفين نتاج الأرض العراقية، والإنسان العراقي. إنهما التفرد والفرادة، وهذا ما لا أزعم أني أعرف سببه، والذي تختلط في تعليله الوقائع الثابتة والأسطورة. نعم كان العراق واقعاً يستعصي على الإدراك، وأسطورة تتجاوز الإدراك. وهذا الذي يستعصي على الإدراك ويتجاوزه، سيقول كلمته عاجلاً وليس آجلاً.
العراق إما وإما
كثيرة هي البلدان التي قيض لها أن تكون وسطيّة. بين بين. قد تتطور وتنمو، لكنها لن تكون الذروة. هي دائماً في عسرها ويسرها، تابعة، أو شبه تابعة. فمصر العظيمة، هبة النيل، مجترحة المدهشات، مصر التي هي قلب الأمة ونبضها، مصر التي وصلت زمن الفراعنة أعلى ما تحلم به أمة، مصر القمة كانت حبيسة وادي النيل، منغلقة على نفسها، وهذه البلاد العظيمة شأنها شأن بلاد الرافدين، واصلت تطورها في مرحلة زمنية أخرى، وبلغت الذروة أيضاً في عهد الفاطميين، حيث تم بناء قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، لكن مصر الكبيرة ة العظيمة هذه كان يدعى في منابرها للخليفة العباسي في بغداد. وحتى في زمن عبد الناصر، أثرت مصر الناصرية على الشارع العربي، لكنها لم تقد العالم العربي. إنه شيء محيّر، يحتاج إلى دراسة متأنيّة، مستفيضة. حال العراق شيء آخر. لا توسط عنده، فإما أن ينام، ويخضع، حتى لتحس أنه إنتهى وتلاشى، وفجأة ينهض من بين الركام مارداً، متزوداً بكل وسائل القوة والمعرفة.
إذ استكان العراق ردحاً من الزمن، فإنه يستكين ريثما ينهض. لا توجد عاصمة قديمة دمرت وأحرقت عدة مرات كبابل، ولا توجد عاصمة في العصور الوسيطة دمرت وأحرقت عدة مرات كبغداد.
العواصم والحواضر الأخرى إذا ما دمرت وأحرقت، تنتهي. تصبح أطلالاً، ولكن بغداد كانت دوماً وأبداً تنهض من الركام . لماذا هذا هو شأن العراق والعراقيين، ولماذا هذا هو شأن بغداد كرمز حضري للعراق؟
لا توسط عندنا المجد أو القبر.
كان العراق شاغل الدنيا قبل خمسة آلاف سنة، وفي القرون الوسطى من التأريخ الميلادي، والآن أيضاً. يبدو لي أن المزاج العراقي لا يقتنع أن يكون ثانوياً، أو هامشياً. يدعمه في هذا النزوع التأريخ والجغرافية، وعناد التجاوز، والقابلية على التجاوز.
لن يستقم وضع لأي من بلدان الجوار، والمنطقة، ولأي قوة عالمية تنهض، من دون إخضاع العراق، فإن لم يتم إخضاع العراق، لن تتم السيادة لأي قوة على المنطقة، وربما لا يمكن التفرد بالعالم.
عندما ابتدأ الإستعمار البريطاني في مد نفوذه، كان ينظر إلى الهند، درة التاج البريطاني، وعندما أحتل السواحل العربية في البحر العربي والخليج، ضمن الطريق السالكة إلى الهند، لكنه لم يكتف بهذا. كان يرى أن كل فتوحاته وإنتصاراته هذه ناقصة، طالما ظل العراق خارج نطاقه، حتى لو كان العراق تابعاً للدولة العثمانية. فبالهيمنة على العراق تتم الهيمنه على المنطقة والشرق، ودون الهيمنة على العراق، فالوجود البريطاني على كف عفريت. وكان بيت لنج، وكان السعي الدؤوب لإخضاع العراق العنيد، الذي تم لبريطانيا فيما بعد إخضاعه، ولكن ليس كما تم إخضاع الخليج أو الهند، أو حتى كما تم إخضاع مصر في زمن نابليون. لقد قدم الإنكليز ثمنآ غالياً في حصار الكوت، وفيما بعد في ثورة العشرين.
العراق لم يصبر على الإحتلال سوى أقل من ثلاث سنوات ثم هب من أقصاه إلى أقصاه، مما دفع الإنكليز لنبذ فكرة أنهم يستطيعون حكم العراق حكماً مباشراً، مما دفعهم إلى منحه الإستقلال الشكلي. لا يوجد بلد عربي أو غير عربي لم يستطع الإستعمار البقاء على أرضه سوى سنتين ونصف. ونمضي بالزمن بضعة عقود، فإننا سنجد أن الإستعمار عندما أراد خلق حلف يجمع البلدان التابعة، اختار العراق وبغداد بالذات مركزاً لهذا الحلف، فكان ما سُمي بحلف بغداد. لا حلف طهران أو إستبول أو إسلام آباد.
حقيقة يعرفها كل من يهتم بأمر المنطقة، الطريق إلى العالم العربي والشرق الأوسط، والعالم القديم يمر من بوابة العراق وبغداد.
للعراق إيحاء ً وإلهام وسطوة على العقل والذاكرة. ليس فقط بالنسبة لتوسطه قلب العالم، وليس فقط بالنسبة لكونه صرّة التأريخ والحضارة، وإنما بالنسبة لإنسانه المبدع، بمقدرته على التجاوز والتأثير، وإجتراح المعجزة.
واليوم فإن إمريكا إذ تحتل العراق، تتلمس بعض أوجه هذه الأسطورة، لقد إرادت إمتلاك الأسطورة للهيمنة على المنطقة والعالم، لقد خمنّت إنها تستطيع إبتلاع الوطن المحاصر المتعب المثخن بالجراح، لكن الأسطورة تنبثق من رماد الحرائق، وتمخر في بحر الدماء.
وحتما، ومؤكداً، ومن دونما أدنى شك، فإن إسطورة بابل وبغداد ستمرغ أنف أمريكا بالتراب.
المصدر: ميدل ايست
إضافة تعليق جديد