بصرى: مسرح روماني وقهوة وفاصوليا... في ضيافة الإمبراطور
»شو ضيّعنا الطريق مثل رحلة تدمر؟ وين بصرى؟«. وبصرى تعني المسرح تحديداً، لكل قاصديها من غير أبنائها. المسرح الروماني. وبغض النظر عن سخريتهم من »ثقافة الخرائط«، »يضيّع« السوريون بسهولة، ومهارة، الطريق إلى معالم تاريخهم.
تحضر ذكريات بصرى والطريق، أمام مسرح على الطراز الروماني القديم نفسه. الطريق إليها لا يتوه، ولا حاجة سوى لبعض الحدس للتنقل بين المباني الثرية في قرية »شهبا« (تتبع لمحافظة السويداء). المدينة التي أشاد بعمارتها البديعة الإمبراطور فيليب العربي، كما يسمى الآن، توارثها السكان المحليون، وهم يقطنون البيوت نفسها التي سكنها أجدادهم قبل ١٧٠٠ سنة. في وسط الشارع المرصوف بالحجارة الزرقاء، البازلتية، يمتد بيت فوق قنطرة تصله ببقايا المعبد الإمبراطوري. من نوافذ ذلك البيت، تنبعث رائحة نوع جيد من القهوة. على بعد أمتار يشير رجل إلى المكان، ناصحاً بزيارته. لكنه مسكون، وفي مدخله جرس كهربائي! »حتى ولو«، يقول حاثّاً على الأخذ بنصيحته. فالبيت، كما قال، هو مسكن الإمبراطور فيليب العربي!
غريب كيف وصل ذلك »الإعرابي« إلى عرش روما؟ كان ابن قبيلة عربية لها باع في دعم الإمبراطورية، وبعدما أعطى »كاراكلا« (حكم بين ٢١١-٢١٧ م) حقوق المواطنة لكل رعايا روما، اتخذ الإعرابي ألقاب أهلها وأسمائهم. صار فيليب، ثم قائد حرس روما، دبّر مقتل حاكمها، وصار الإمبراطور (٢٠٤-٢٤٩ م). أشاد عمارة مسقط رأسه الذي صار اسمه »فيليبوبوليس« (شهبا)، وأصدر أمراً إمبراطورياً بتأليه والده. ولما قتل دفاعاً عن عرشه، أشادوا له مدفناً رمزياً فيها، كالذي له في روما. أما الآن فعلى باب بيته جرس كهربائي!
في مدخل بيت فيليب، أنصاف أعمدة رومانية لا تزال نقوشها سليمة، مبنية من حجارة بازلتية كبيرة، وفي البهو حديقة صغيرة، إلى جوارها غرفة يتوسط جدارها الذي يواجه الباب صورة لكبير العائلة القاطنة. في الجانب، منشر غسيل يتصبب ماء ملابس وضعت عليه للتو. تخرج امرأة من باب غرفة أخرى، تتفحص الدخلاء، تتركهم ليجولوا في المكان، بعدما أخذت علماً بغايتهم. بدت معتادة على هذا النوع من الفضول، فاقتضبت التأهيل بكلمة »تفضلوا«، في حد معناها الأدنى، وانصرفت مجدداً. وكيف لا تنصرف إذا كان في انتظارها طقس »التمقهي« الإمبراطوري؟ ومع من يا ترى؟ ليس صعباً، في ذلك المكان، تخيّل فيليب بتاج الغار، متجلبباً بثوب الكتان الذي يبرز كتفه الصخري القوي. يرشف القهوة مطمئناً إلى ملك لم يطاوله الاندثار. يبدو متعذراً على النفس ألا تحسد سكان المكان، فأين البيوت التي تتمنظر بالإسمنت الباهت، مهما تبهرج، من تلك الطالعة من ذاكرة الصخر!
استخدمت الحجارة البازلتية في تأهيل البيوت القديمة المتجمعة فيما يسمى »منطقة قصور فيليب«، وغيرها من المباني القديمة المبعثرة في القرية. لذلك، لا تبدو »شهبا« متغضنة بتاريخها، وإنما ترتاح في عزلتها إلى جوار عبث حياة الآدميين. لا زالت حاضرة ملكية ينبت فيها الصخر.
الجهات المعنية بالآثار تحاول إخلاء السكان من بعض أنحاء القرية، بعدما أجرت سبراً عاماً للبيوت، وما يستوجب منها وضعه في رعاية الدولة وحمايتها، كتراث حضاري وإنساني.
إخلاء السكان ليست كلمة تقال. فإذا كان الناس سيقبلون بالإجراء رضوخاً لمشيئة سلطة الدولة، فهم لن يتنازلوا قيد شعرة عن حقهم في تعويض يؤمن لهم مسكناً بديلاً، و»حبة مسك«. فالمباني الأثرية ملك للدولة، لكنهم أيضاً ورثوها أباً عن جد. وموضوع التعويض شبه متفاهم عليه، لكن تطبيقه يحتاج إلى إقرار ميزانية »محرزة«، ولن يكون مجازقة القول بأن إقرار ميزانية كهذه من أجل »الحفاظ على التراث الإنساني« من الزوال هو آخر ما تفكر به دولة تجد نفسها الآن مطالبة بعدم تجويع رعاياها، والحفاظ عليهم من الزوال قبل التفكير بالحفاظ على تراثهم الإنساني. والسكان مرتاحون لهذا الواقع، فحتى إشعار التعويض الذي يعلمون تماماً كم هو مؤجل، هم مقيمون مع أشباح حامية روما، لا يزيحهم منها إلا غضب آلهتها المتقاعدة.
في قرية »قنوات« القريبة، قامت الدولة بوضع يدها على المعابد القديمة، سوّرتها وجعلت في جوارها مكتباً لقطع تذاكر الدخول، فيما لا يزال بعض السكان يقطنون مخادع التاريخ، يزاولون فيها مهن الحاضر، من نجارة وتجارة. أما قنوات الماء (ومنها تسمية القرية) التي لا يزال الماء جارياً فيها في أسفل وادٍ أخضر منذ كانت المعابد عارمة بالآلهة، فصارت مكباً للقمامة. ببساطة، تبدو القلعة أو قنوات الماء غير محميتين من الاستهلاك وأهله.
ربما ليس الجميع أهل استهلاك. مثلاً، لا زالت نزهة الجدّة إلى المسرح الروماني، وهي بكامل أناقتها الفولكلورية، إحدى عاداتها المحببة. تصطحب حفيدين لها، وتتركهما يلهوان بالكرة، فيما تراقبهما من »تشميستها« على مدرج المسرح، يصعدان وينزلان، ويضحكانها عندما يغنيان كالكبار أهازيج أهل السويداء. وفي الجانب الآخر من المسرح، يمر عاشقان، يزرعان الفناء ذهاباً وإياباً، ترافقهما طفلة صغيرة، تجرّها الصبية معها كي لا يكون موعدها مشبوهاً.
على بعد أمتار من المسرح، كانت نافذة البيت لا تزال مفتوحة، سوى أنها صارت تسرّب رائحة طبخ تفطر نفوس الجياع: الإمبراطور يتغدى اليوم فاصوليا بزيت.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد