على الطريق من روما الى جبلة... مع وول سوينكا وأدونيس
روما القديسة، روما الفاسقة، روما أخت المجانين، روما الأم، روما الشيطانة، روما حديقة بورغيزي، هذا هو المكان الوحيد الذي ما زلت أذكره منذ زرت روما قبل سبع سنوات. المصادفة أن اليوم هو يوم الأحد، وأن حديقة بورغيزي وما يجاورها من حدائق مثل حديقة برنادوت وغيرها كلها مفتوحة لجماهير تبحث عن متعتها في يوم الراحة، الحدائق تمتلئ بعائلات وعجائز وعشاق ومتوحدين، الممرات تمتلئ بهواة المشي الهادئ، تماثيل الخالدين ما زالت قائمة داخل الحديقة. ها هو ذا تمثال أحمد شوقي، من إنشاء المثّال جمال السجيني. للمرة الثانية أتأكد انني أحب شوقي ولا أحب تمثاله هذا، لا أعرف ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن السجيني تذكر كيف مات شوقي، كيف جاءته الأزمة فجأة، كيف نادى خادمه، ولما استجاب الخادم وسأل شوقي: هل أطلب السيدة الهانم أو أحد الأولاد يا باشا، قال شوقي: لا فقط سلّم لي على محمد، يعني محمد عبدالوهاب ثم أغمض عينيه ومات. لا أعرف ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن السجيني تذكر هذا، لعل رخام تمثاله الجامد كان سيسيل. حديقة بورغيزي هي أول مكان رأيته في رحلتي القريبة الى روما. أعرف أن ليس سهلاً أن يحالفك الحظ وتسافر في رحلتين متتاليتين أولاً الى روما وثانياً الى جبلة واللاذقية. هذا الحلف يمكن أن يكشف عن معنى التبدل، عن معنى أن في كل تبدل شيئاً سافلاً ولذيذاً في آن، شيئاً مستمداً من الخيانة والارتحال. في القاهرة كثيراً ما أفكر في الثورة ضد الاخلاق جميعاً، ضد أخلاقهم وأخلاقهم، ضد المثال، وفي روما وجبلة – جبلة تتبع ميناء اللاذقية – فكرت في أن أثور ليس ضد الأخلاق ولكن ضد المراءاة الأخلاقية، ضد الواقع والحقيقة والطبيعة والهواء والماء والسلطان والوطن.
شمس روما في أوائل تموز (يوليو) تكون ساطعة ولاسعة مثل امرأة حديثة التبرج، تقدر أن تبرز ساقيها وذراعيها منذ خروجها في الفجر وحتى انصرافها في التاسعة مساءً. أرهقتني هذه الشمس، لكنّ مطر روما في ذلك التوقيت اذا فاجأك سيجعلك تشعر بالامتنان للسماء على عطاياها الطاهرة.
الجامعة التي دعتني الى مهرجانها الشعري وهي احدى جامعات روما، دعت شعراء من جنسيات مختلفة، أفارقة وآسيويين وأوروبيين ولاتينيين. مبنى الجامعة يتميز بأن عمارته فاشيستية، حوائط صلدة صامتة ومتجهمة. فرانشسيكا كرّاو هي المستشرقة التي سترعى شؤون الشعراء العرب، أظنها تعيش في نابولي، أظنها تماثلني في العمر، أظنها من صقلية، لنا تاريخ مع الصقالبة هؤلاء، كرّاو درست في القاهرة، وعرفت نهارها وليلها ولهجة أهلها وألاعيبهم وأحزانهم، وعكفت لتنقل بعض الشعر العربي الذي تحبه الى الايطالية، نقلت لأدونيس ودرويش، وأخيراً لمحمد بنيس وحسن طلب، وترجمت بعض قصائدي لزوم ما يلزم. أبو كرّاو كان عمدة صقلية، ربما، لذا فأخلاقها تشبه أخلاقنا، الأب عجوز ومريض وهي مشغولة عليه وعلى رعايته. كرّاو تتحدث كأنها تعبّ الكلام ثم تضخه، ليصبح ملاذاً جميلاً لكل من يسمعه. انتبه لأن ملاذ كرّاو ملاذ غير مسقوف، إذا قابلت فرانشسيكا كرّاو ستصحبك الى مقهى في شارع الجامعة وقرب الاوتيل لأن السماء تمطر، وستأتيك بشاي ممزوج بالنعناع لعلها تعيدك الى وطنك وتعيش معك فيه، ثم تشاغبك بأسئلتها الفاهمة والماكرة، وتضحك باستمتاع كامل اذا أعجبتها احدى اجاباتك.
مهرجان الشعر استضاف أيضاً محمد بنيس وسلوى النعيمي وكذلك وول سوينكا. قيل لي إن محمد بنيس كان ينتظرني وإنه أجّل الاحتفال والمنادمة لليوم التالي. عندما قابلت محمد شعرت أن أرض الله الواسعة لا تشبع أبداً. إنها تتوق الى المعرفة، إنها في حاجة دائمة الى الارتواء. أبلغني بنيس أنه فاز بجائزة ايطالية سبق أن نالها غونتر غراس الألماني ومحمود درويش وأدونيس، وكان سعيداً. وكانت فرانشسيكا قد قامت بترجمة كثرة من قصائده. صوفية بنيس لا يلحظها إلا من لامس قلبه، ضحكنا كطفلين شعرهما أبيض، معنا كانت سلوى النعيمي تغطس في آبار الضحك. كانت منتشية بروايتها «برهان العسل»، بتلك المواربة الدائمة التي تشبه الاعتراف، أو بذلك الاعتراف الدائم الذي يشبه المواربة.
كنا نحن الثلاثة سلوى وبنيس وأنا متلازمين وخلفنا كان يركض الشيخ الأكبر ابن عربي، إنه يعرف بنيس، وقد أعار لسلوى «برهان العسل»، ويرتاب في قلبي، قلب عاشق أم قلب مخبول، قلب الظلام أم قلب النور. وكنت أرتاب معه، في الأمسيات الشعرية وفي العشاءات، وفي الأوتيل الذي جمعنا كنت أرى النيجيري وول سوينكا، منذ اللحظة الأولى أحسست أنه الملك المخلوع باختياره. كل صباح أمرّ عليه يجلس أمام الكومبيوتر، كأنه ينسحب من عالمنا الى عالمنا عبر شيفرات الانترنت، ويظل هكذا وقتاً طويلاً، يلبس قمصاناً بيضاً طويلة وواسعة، إنها تي شيرتات. شعره الهائش الخشن الطويل وابتسامته، وعزوفه عن الاعلان والمباهاة والزهو، كل هذا أكد لي انه الملك الطائش المخلوع باختياره. كان أيقونة المهرجان، كان يمكن أن يكون أيقونة المهرجان، ولكنه رفض أن يصير كـــذلك، فـــي الأمسيات الثلاث التي قرأنا فيها معاً، لم يطلب أي امتياز، لم يطلب ان يتقدم في القراءة فيكون له فضل المتقدم، لم يطلب أن يختتم القراءة فيكــون له حسن الختام، لم يطلب أن يقــرأ بمفرده فيكون الواحد الأحد بلا شريـك، لم يطلب أن يخصص له الوقت الأكبـــر فيكـون النجم والبقية الكومبارس، رأيته وقد خلع تاجه، ورماه في المزبلة. هكذا فعل أيضاً وتحت احساس بآداب الضيافة الشاعر الايطالي ساندنيتي.
كان وول سوينكا يعمل من دون قصد على تهديم صورة الشاعر العربي النجم، المحروس بأكاذيبه عن نفسه وعن الآخرين، المزهوّ حتى وهو يدّعي التواضع، كأننا نستحق ما آلت اليه أحوالنا، كأننا الشرفة التي لا تطل على أحد، تطل فقط على مرآة بلا حدود، فنرى فيها ما نراه في أنفسنا. في روما سترى الأناقة تستمتع بحضورها، ويستمتع بها الرجال والنساء والطبيعة. أحد منظمي المهرجان، كان بديناً بعض الشيء، بطنه ستحس بعد قليل أنها برميل خمر يسعى صاحبه ألا يتركه فارغاً، في كل يوم يظهر مرتدياً ملابس غاية في الانسجام، غاية في العذوبة، في كل يوم ومنذ ظهوره تشعر أنه سكران لا يفيق، كان يكلمني بايطاليته ولا يعبأ بعدم فهمي، كأن الكلام فعل اتصال مبهم غامض شديد القوة، لا يهم فيه أن تفهم ما يقال. آخر الليل يكون قد بلغ غايته ويكلم الجميع، ويسمعهم ويفهمهم بنبرات أصواتهم وملامحهم انه الخواجه فيليب السكران الفاتن.
أذكر انني ذات ظهيرة كنت أمرّ جوار سور الجامعة بصحبة مسرحي عراقي يقيم في ايطاليا، رأينا امرأة جالسة على الارض، وأمامها علبة نقود صغيرة، وعلى فخذها طفل رضيع تهدهده، لم تكن تنظر الى أحد من المارة، كانت مستغرقة ومنكفئة على الطفل. هذه اللوحة مسروقة من القاهرة، قال لي المسرحي: لا إنها امرأة غجرية، وغالباً ما يكون الطفل مستأجراً لزوم العمل، ثم أضاف: لقد ازداد عدد الفقراء في إيطاليا بعد توحيد العملة الأوروبية. هكذا أصبحت روما حلم ليلة صيف، أصبحت خرافة شكسبيرية تصلح أن تسبق ما سيصادفني بعد أيام قليلة في الشمال السوري، في مدينتي جبلة واللاذقية، أو تحت سماء العلويين. هكذا استعنت بما أذكره من أشعار بدوي الجبل. في جبلة قد تحظى برفاق لا مثيل لهم، كلهم دراويش، كلهم ناشزون، ولكنك إذا رافقت ثائر ديب وهنادي زرقة ووفيق سليطين وخليل صويلح ومنذر مصري وعادل محمود وآخرين ستعتاد فكرة أن تحب نفسك، وأن تنساب من نفسك الى نفسك الى نفوس آخرين الى سمر يزبك التي رعتني من بعد، ثم الى أحد المسارح الرومانية القديمة، حيث أطلال المدرجات والأبهاء تصلح للاحتفال بالفن، فتصبح أماكن لقراءة الشعر وسماع الموسيقى والغناء ومشاهدة لوحات الفن التشكيلي، ومشاهدة السينما التي يخرجها أمثال محمد ملص وخيري بشارة.
جبلة تبعد من اللاذقية بما يزيد قليلاً على العشرين كيلومتراً، وقريباً منها قرية قصابين التي ولد فيها أدونيس. أمه حسناء وأبوه أحمد سعيد إسبر، وهو علي، أنجبا بعده الأخوة: محمد وحسن وحسين وفاطمة وسكينة، ماتت سكينة صغيرة، وتعلمت فاطمة في جامعة القاهرة، كان جابر عصفور أحد أساتذتها. عندما تذكرت جابر وأخبرتها بنبأ رحيل سهير جابر عصفور، انقبضت وتماسكت بصعوبة، قلت لها: في أيام الصفا والمودة، أيام زمان، أخبرني جابر أن ابنته تحب أن أكلمه هاتفياً، وأن ترد على مكالماتي، لأنها – كما قال – ترى صوتي جميلاً، قلت لها أيضاً: في أيام الصفا أخبرني جابر بتلك الأبوة التي تسمح لابنته أن تدعوه في إسبانيا الى عرض سينمائي، وفي السينما يكتشف أن ابنته دعته الى مشاهدة فيلم جريء جداً، قلت لها: لم تكن سهير ابنة جابر، كانت ابنة كل أصدقائه. في أثناء ذلك انسحب أدونيس بعيداً من حديث الموت، انسحب لأنه تأثر وحاول الهروب. قرية قصّابين تحتاج الى حجاج ومريدين، وتحتاج الى كفار وملحدين، ستشعر أن الطريق إليها طويلة، وأن الطريق الى بيت أدونيس غامضة، في ما بعد قلت لخالدة سعيد: الطريق الى بيتكم غامضة مثل الطريق الى شعر أدونيس، البيت عليه لافتة صغيرة مكتوب عليها «بيت أدونيس». في الطريق تهنا وسألنا فلاحين مررنا بهم، كلهم يعرفون البيت. ذلك اليوم رأيت خالدة للمرة الثانية، كانت تستعد للسفر الى بيروت ومنها الى باريس. لا يمكن أن أخجل من شعوري بأنني عندما جالستهما خالدة وأدونيس، أحسست أنني أجلس في مكاني وأنني بين بعض أفراد عائلتي. سافرت خالدة، تركت سنية صالح وحدها قرب الباب، بعدها ذهبنا أدونيس وأخته فاطمة وزوجها وأنا الى مطعم على البحر. نحن أيضاً تركنا سنية.
حكى لنا أدونيس عن المسجد والضريح الذي خلف المسرح الروماني في جبلة، إنه مسجد السلطان إبراهيم، قلت له: ومنَ السلطان إبراهيم؟ قال: إنه إبراهيم بن أدهم، ها ها، هذا هو الأمير الشحاذ، إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر، من كورة بلخ ومن متصوفة القرن الثاني الهجري، له تسميات كثيرة شاعت منها السلطان والشاه، وكلاهما لقب صوفي لا علاقة له بالحكم والممالك، وإن راج بين المستشرقين أنه ابن ملوك، ويعتقد الكثيرون انه قول خاطئ. خرج ابراهيم بن أدهم بلخ هارباً على الأرجح بسبب ثورة أبي مسلم الخرساني ولحق بأخته في الكوفة، عاش أيضاً في الشام. طريقة إبراهيم بن أدهم متقدمة وتقوم على العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله. حكى لنا أدونيس عن المسجد والضريح والسلطان إبراهيم، قال كأنه يروي أسطورة وكأننا نصدقها: هو إبراهيم بن أدهم، ولي عهد إمارة، ترك إمارته ولبس الخرقة والهلاهيل وخرج ليسوح في الأرض، ترك خلف ظهره أعراض الدنيا، ترك الدنيا، ووصل الى بر الشام، وعند بر الشام فقد إبرته التي يخيط بها خرقته وهلاهيله، الإبرة التي سقطت في البحر، ولأنه حزن كثيراً فقد فرح عندما خرجت سمكة حمراء جميلة حاملة الإبرة في فمها، دعا لها السلطان وشكرها، فأصبح اسمها منذ ذلك اليوم سمكة السلطان إبراهيم، نحن نعرفها في مصر بالبوربوني. قال لنا أدونيس: هل تحب أن تزور أمي؟ وافقت. كنت قد رأيت لها صورة فريدة في جريدة «الحياة»، تقيم السيدة حسناء أم أدونيس في منزل الابن الثالث حسن، لعلها بلغت مئة سنة وخمساً، نحيلة صغيرة الجسم يقظة تجلس على كرسي وتنصت الى ابنها أدونيس، وتنظر طول الوقت اليه. وقفت بيني وبينه عندما التقطت لنا فاطمة صورتين، كان ماء الحنان يجري بينهما، يمكن أن تلمسه بيديك. للمرة الثانية أحسست أنني أجلس في مكاني، وأن عائلتي اتسعت في المكان والزمان. في الطريق مررنا على قبر وحيد الى جوار ساحل جبلة، قيل لي إنه قبر محمد زيتون السباح السوري الشهير، الذي قتل غيلة، همس لي أحدهم: بتدبير المصريين. جبلة لم تكن أبداً المكان البعيد، كانت المكان الأقرب، جبلة لم تكن أبداً مثل إيثاكا، كانت مثل نفسها.
بين جبلة وروما مسافة تبلغ ما تبلغه المسافة بين قلب قلبي وحوائط قلبي، بين نجاحي المقيم ونجاحي العابر، بين فشلي وفشلي. عندما عدت كنت أفكر في ما يمكن أن يكون قد حدث لي، لكنني حتى الآن لا أعرف ماذا حدث. جبلة عروس مخبوءة في صدور أهلها الفاتنين، بينما روما عروس مجلوّة تسعى خلف ليلة المتعة، تسعى ولا تكلّ، جبلة التي لاحت لي بعد أن تركتها مثل خالدة وسنية وهنادي، مثل فاطمة، لأن فاطمة هي فاطمة، والحنين هو الحنين، والحب هو الحب، أو كما قال.
عبد المنعم رمضان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد