غليون الجندي

07-07-2022

غليون الجندي

Image

 إيليا إيرنبورج ـ ترجمة: د.أحمد الخميسي:
يظل ضوء النجمة الهادئ سارياً ألوف السنين قبل أن يبين للبشر، لكن عمر الإنسان قصير: طفولة ولعب، حب وعمل، مرض ثم موت. اشتعلت حرب، سيتخيرون لها فى وقت ما صفة "كبرى" أو "صغرى"، حتى يسهل تمييزها بسرعة عن الحروب السابقة، والأخرى اللاحقة .. أما الذين عاشوا ذلك العام فقد عدوها "حربا" فحسب.

وقعت الحرب، وقرب أكوام الحجارة، التي كانت مسماة فيما مضى: مدينة إيبرو البلجيكية، انبسطت قطعة أرض صغيرة المساحة، جلس عليها، وأكل، ومات، أناس غرباء وافدون من بعيد، أطلقوا عليهم اسم: "كتيبة خط الطول (١١٨) التابعة للجيش الفرنسي".. وكانت تلك الكتيبة مؤلفة من الفلاحين وصناع النبيذ والرعاة في قرية "بروفانس" بجنوب فرنسا. وطوال ستة أشهر كاملة، أكل أولئك الناس (ذوو الوجوه السمر والشعور المجعدة) في الحفر الطينية، ناموا فيها، أطلقوا النيران، ماتوا وأياديهم تنتفض إلى أعلى. وهناك في هيئة الأركان، رسموا فوق الخارطة، عند مواقع "المعبر الأسود"، علامة تحدد أن كتيبة خط الطول (١١٨) تحمي المواقع هناك.

وعلى بعد خمسمائة خطوة جلس أناس آخرون، تحدثوا بلغات مختلفة، وأطلقوا هم أيضاً النيران، وبدوا أضخم وأشد فظاظة وأميل إلى البياض زرق العيون، وكان السمر ذوو الشعور المجعدة قلة بينهم. هؤلاء كانوا مزارعين من "بوميران" بألمانيا، أطلقت عليهم هيئة الأركان اسم: "كتيبة الاحتياط (87) التابعة للجيش البروسي". كانت الكتيبتان عدوتين، تفصل بينهما قطعة أرض، قال عنها صناع النبيذ والمزارعون إنها "بلا صاحب"، قطعة أرض لم تكن تابعة للمملكة البلجيكية، ولا للجمهورية الفرنسية، ولا للامبراطورية الألمانية. قطعة أرض أحرقتها القنابل، وأكلتها بالطول وبالعرض الخنادق المهجورة الممتلئة حتى حافتها بعظام البشر والمعادن الصدئة.

هكذا، كانت تلك الأرض هالكة، و"بلا صاحب"، لم تسلم فيها عشبة واحدة، فاحت كلها (في منتصف يوليو) بعطن الدم، والبراز. ومع ذلك، فإن البشر أبداً لم يتقاتلوا للاستيلاء على أي بستان مبارك، نضير الثمار مورق النبات، كما تقاتلوا للاستيلاء على قطعة الأرض الخاوية تلك، والمشتهاة. ففي كل يوم، كان يزحف إنسان ما، من الأراضى الفرنسية أو الألمانية، إلى المكان الذي يقال إنه "بلا صاحب"، يزحف وهو يمزج الطين بخيوط من الدماء.

قال البعض إن فرنسا تخوض الحرب من أجل الحرية، وقال البعضُ الآخر إنها تسعى لنهب الحديد والفحم. أما "بيير ديبوا"، جندي كتيبة خط الطول (١١٨)، فقد حارب لا لشيء، إلا لأن الحرب قد اندلعت. قبل ذلك، اشتغل "بيير ديبوا" بزراعة العنب، وحين كان المطر يسح طوال أيام متتالية، أو تهاجم حشرة "فيلوكشر" الكروم، كان "بيير ديبوا" يقطب وجهه، ويسوط كلبه حتى لا ينوش العنب. وفي السنة الندية، كان يبيع الأعناب بثمن مربح، ويرتدي صدارته المنشاة، ويمضي إلى أقرب بلدة. وهناك يلهو كيفما يمكنه اللهو في حانة "ملتقى الأمراء". يخبط الجرسونة على ظهرها العريض ويلقي في ثقب مكنة الموسيقى قطعتي "سو"، ثم يستمع إلى الألحان المنتخبة فاغراً فاه.

ولم يمرض "بيير" إلا مرة واحدة، حين ظهر له دمل في أذنه، وكان موجعاً للغاية. وفي صغره، كان مغرماً بامتطاء ظهر الماعز، وسرقة التين المجفف أينما خبأته أمه. وكانت له زوجة هي "آنا"، يضغط بعشق أغلب الوقت نهديها المتماسكين كعنقودي عنب. هكذا، مضت حياة "بيير ديبوا"، إلى أن خاضت فرنسا الحرب، دفاعاً عن الحرية، أو لنهب الفحم، فصار "بيير ديبوا" جندياً في كتيبة خط الطول (١١٨) التابعة للجيش الفرنسي. في مواجهة "بيير ديبوا"، وعلى بعد خمسمائة خطوة منه، جلس "بيوتر ديباو". ولم تكن حياة "بيوتر ديباو" تشبه في شيء حياة "بيير ديبوا"، مثلما لا تشبه البطاطس الأعناب، ومثلما لا يشبه الشمال الجنوب. ولكنها كانت في نفس الوقت تشابهها من دون حد، مثلما تشبه كل ثمار الأرض بعضها البعض، وكل البلدان، وكل الحيوات بعضها البعض. لم يذق "بيوتر" العنب طيلة عمره، كان يرمقه فقط وهو معروض خلف زجاج المحلات.

ولم يكن مغرماً بالموسيقى، لكنه كان يشارك الآخرين لعبة السبعة أوتاد في أيام الأعياد، وكان يتجهم حينما تحمو الشمس وينعدم المطر، لأن العشب يصفر في ذلك الوقت، وتدر الأبقار لبناً فاسداً. لم تمرض أذناه أبداً، فقط توعك ذات يوم، فرقد أسبوعاً طريح الفراش وهو يعاني من سخونة شديدة. وكان، في صباه، يلعب مع كلبه الهرم "تاكسا"، ويتصيد بقبعته البقع الشمسية داخل الغرف. وكانت زوجته "يوهانا" بيضاء مثل اللبن، لينة كالبطاطس المسلوقة، وكان مفتوناً بذلك. عاش "بيوتر" على هذا النحو، إلى أن قال البعض إن ألمانيا بدأت تقاتل في سبيل الحرية، وقال البعض الآخر إنها تريد الاستيلاء على الحديد والفحم، فصار "بيوتر" جندياً فى كتيبة الاحتياط(٨٧).

ولم تكن هناك حرية في قطعة الأرض التي "بلا صاحب"، ولم يكن هناك فحم، لم يكن هناك سوى عظام البشر، والأسلاك الصدئة. ولكن الناس أرادوا أن يظفروا بقطعة الأرض تلك، مهما كلفهم ذلك. وقد أمعنت هيئة الأركان التفكير في ذلك الهدف، وأدرجته في المستندات والوثائق، وقام أحد الضباط، في (24 أبريل 1916م)، باستدعاء الجندي "بيير ديبوا" إلى مكتبه وهناك أصدر إليه أمراً بالزحف في الثانية بعد منتصف الليل، عبر الخندق المهجور المسمى "ممر العواء" حتى مواقع القوات الألمانية، لكي يستكشف بدقة أماكن تمركز القوات المعادية. لم يتجاوز "بيير ديبوا" الثامنة والعشرين من عمره، وهذا بالطبع عمر قصير للغاية إذا قسناه بنور النجمة الساكن الذي يسري بضع مئات من السنوات. أنصت "بيير" إلى أمر الضابط، لكن عقله كان منشغلاً بالتفكير في خاطر آخر: "حشرة "فيلوكشر" تبيد الأعناب، والمرض يفني الإنسان، والآن .. الحرب .. وإذن، لابد من حساب عمر الإنسان بالساعات، لا بالسنوات. وهكذا، ما زالت أمامه ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة حتى ميعاد تنفيذ الأمر. وأسعفه الوقت فحاك زراً كان قد سقط، وكتب لزوجته "آنا" يوصيها برش الكيماويات على الكروم التي لم تنضج، وارتشف بصوت مرتفع قدحاً من القهوة المرة السوداء.

في الثانية بعد منتصف الليل، شرع "بيير" يزحف على الطين الأملس لكي يستولي على الأرض التي "بلا صاحب". واستغرق "بيير" مدة طويلة وهو يمر في الخندق المسمى "ممر العواء"، مرتطماً بعظام البشر والأسلاك الشائكة، حتى بلغ نهاية الممر. هناك، بانت له في الجهة اليمنى واليسرى، خنادق أخرى، مهجورة ويتيمة مثل بيوت منبوذة. وتروى "بيير" مفكراً "في أي الاتجاهين يمضي؟ ولكن، ألا يقود كل من الاتجاهين إلى الموت؟! وقرر أن يلتقط أنفاسه. وهكذا، أشعل غليونه، غليون جنود الجيش، المتواضع، المتسخ من الطين. كان الجو هادئاً تماما. عادة يطلق الجنود بالنهار النيران مدوية، أما في الليل فيقتلون بعضهم البعض من غير ضوضاء، حين ترسل القيادة المستكشفين من أمثال "بيير" في مهمة ما، أو تنصب الكمائن المموهة.

ابتلع "بيير" دخان غليونه، وتطلع إلى السماء التي رصعتها النجوم بكثافة. لم يزن "بيير"، لا ولم يخمن، ولم يقارن هذا الكون الواسع بقريته الصغيرة "بروفانس"، لكنه فقط قال لنفسه: "لو يكون الآن ليل مثل هذا هناك في الجنوب، فيفيد العنب، ويبهج قلب "آنا" فهي تعشق الليالي الدافئة. كان يدخن راقداً، منتشياً بكل الدفء الساري في جسمه، وبأنه مازال حياً فوق هذه الأرض الماحلة التي "بلا صاحب"، يدخن ويتنفس، بل وفي وسعه أن يهز يده أو يحرك ساقه. ولم يكد "بيير" يشعل غليونه من جديد، حتى لاح قبالته وجه إنسان ما من خلف الزاوية هناك. شخص يزحف نحوه، شخص كل ما فيه غريب: وجهه وخوذته وأزرار معطفه. ذلك كان "بيوتر ديباو"، مجرد عدو لـ"بيير"، مثلما أن الحرب مجرد حرب.

ولم يكن "بيير" يدري أن ضابطاً ألمانياً، قام في نفس المساء، باستدعاء "بيوتر"، الذي رفأ هو الآخر معطفه، وكتب لـ"يوهانا" خطاباً يذكرها فيه بالاهتمام بالأبقار العشروات، ثم احتسى الشوربة وهو يتمطق. لم يكن "بيير" يعرف بكل ذلك. وسواء أعرف أم لا، وسواء أفهم أم لم يفهم، فقد اعتبر "بيير" أن "بيوتر" عدوه، هذا لأن الحرب قد نشبت هذه السنة لا أكثر، لذا قوّس جسمه وتهيأ للوثوب والاشتباك حين أبصره يزحف في اتجاهه. أيضا، مد "بيوتر" يديه الاثنتين، وجمع ساقيه، وقدر أكبر قفزة يمكنه القيام بها، عندما شاهد عدوه قريباً منه إلى درجة أنه سمع دقات القلب الآخر .. الغريب .. رقدا، كل في مواجهة الآخر. وتريث كل منهما، لم يشأ لا هذا، ولا ذاك أن يكون البادئ بالقتال. وكانت يدا كل منهما على مرمى بصر الآخر، لم يتطلع أحد منهما إلى وجه الآخر "عدوه" لكن كلا منهما حملق إلى اليدين العدوتين.

ظل غليون "بيير" مشتعلاً ، رقد العدوان قريبين من بعضهما البعض، زاهدين في القتل، مدركين، على الرغم من ذلك، أن الاقتتال حتمي. استلقيا بهدوء، وتنفس كل منهما في وجه الآخر بصوت مسموع، وتشمم كل منهما كوحشين رائحة وبرة أخيه: الغريبة، الأليفة والحميمة، رائحة المعطف المبلل والعرق الإنساني، الطين والشوربة. قدما من أراض بعيدة إلى أراض غريبة، "بلا صاحب" وقد أدركا أنه "لابد من قتل العدو". لم يحاولا أن يتكلما معاً، فما أكثر البلدان الغريبة، وما أكثر اللغات الغريبة، فقط تمددا متجاورين في سكون، وقد تصاعد بينهما دخان الغليون.

وقدر "بيوتر" أن أية حركة يقوم بها بيديه للتوصل إلى غليونه، تنطوي على خطورة، لذلك اكتفى باستنشاق الدخان المتصاعد بنهم. حينذاك مد "بيير" رقبته ليدنو من رأس "بيوتر"، فتناول "بيوتر" بأسنانه الغليون من فم "بيير"، وعلى الرغم من ذلك فإن الأعين الأربع، لم تفلت من مجال رؤيتها، الأيادي الأربع الغريبة. بعد أن سحب "بيوتر" عدة أنفاس من الغليون، أعاده إلى "بيير"، فشد منه نفساً ثم قدمه مرة ثانية إلى عدوه دون طلب منه. تبادلا الغليون عدة مرات، ودخنّا باستمتاع. العدوان اللذان رقدا فوق قطعة أرض "بلا صاحب" ويجب الاستيلاء عليها مهما تكلف ذلك. وكانا يبتلعان الدخان على مهل، وبحذر، ببطء شديد للغاية. وبينما يسري النور الهادىء ألوف السنين، كان هذا الغليون بالنسبة لواحد منهما آخر غليون يدخنه، وقد أدرك الاثنان ذلك.

ووقعت الكارثة حين كفت النار عن التواصل في الغليون فانطفأ، لأن واحداً منهما استغرق في خاطر من خواطره فلم يطل بأنفاسه في اللحظة المناسبة عمر الغليون القصير. أهو "بيير" وهو يتذكر "آنا" السمراء؟ أم أنه كان "بيوتر" وهو يودع في خياله "يوهانا" البيضاء؟ واحد منهما على أية حال.  وأدركا على الفور استحالة المخاطرة بإخراج القداحة، فأقل حركة باليدين تعني التطاحن حتى الموت. وعلى الرغم من ذلك، قرر أحدهما أن يجازف. وكان هو البادىء. أهو "بيير" الذي كان يدافع عن الجمهورية الفرنسية محتفظاً بقداحة ذات فتيل في جيبه الخلفي؟ أم "بيوتر" الذي احتفظ بعلبة ثقاب وهو يدافع عن الامبراطورية الألمانية؟ واحد منهما على أية حال. وأخذ كل منهما بخناق الآخر، وهوى الغليون غارقاً في الوحل. قام كل منهما بخنق وضرب الآخر، في صمت، وهما يتمرغان على الأرض. وأخيراً، أصابهما الهدوء، ورقدا في وداعة متجاورين، لكن من دون الغليون. رقدا ميتين على أرض ماحلة "بلا صاحب".

وسرعان ما تلاشت الأضواء الهادئة التي كانت النجوم ترسلها إلى الأرض، وشع نور الفجر، وكما يحدث كل يوم، ما أن شاهد الناس - الذين يقتتلون من غير ضوضاء ليلاً- أشعة الشمس، حتى أخذوا يقتتلون بصوت عال، مطلقين نيران المدافع والبنادق. ووصلت إلى هيئتي الأركان مذكرتان، تحويان اسمي جنديين مفقودين . وكان الاسمان متشابهين إلى أقصى درجة، ومختلفين إلى أقصى درجة. وتسلل، بليل نفس اليوم، إلى الأرض التى "بلا صاحب"، أناس آخرون، ليقوموا بما لم يستطع "بيير"، و"بيوتر" القيام به، تسللوا لا لشيء إلا لأن الحرب نشبت في ذلك العام. بكت "آنا" السمراء "بيير" وهي ترش العنب الذى لم ينضج في قرية "بروفانس"، بكت طويلاً، وفي هذا الوقت، أدخلت إلى بيتها زوجاً آخر هو "بوليا"، هذا لأن شخصاً ما لا بد أن يشذب الكروم، وأن يضغط نهديها المتماسكين كعنقودي عنب.

وبعيداً، في قرية "بوميران"، بعيداً جداً عن "آنا"، ولكن أقرب بكثير مما بين نجمة وأخرى، هناك بكت "يوهانا" البيضاء وهي تضع الطعام أمام الأبقار العشروات، ولأن البقر يحتاج لرعاية دائمة، ولأن جسمها الأبيض كالحليب لم يكن ليستطيع الحياة بلا حنان، ظهر زوج جديد في المزرعة هو "باول". وفي أبريل (1917م)، كفت الأرض التي "بلا صاحب"، باعثة العطن من الدم والبراز، عن أن تكون "بلا صاحب". حدث ذلك في يوم دافىء، مشمس، حين مات فوقها بشر بلا عدد، من مختلف البلدان، وحينذاك صارت التربة الصفراء المشبعة بالدم بالقانون ملكية خاصة لـ"صاحب" ما.

ومشى الناس للمرة الأولى على أرض الخندق المسمى "ممر العواء"، مشوا هادئين، دون أن يحنوا رؤوسهم. وفي نهاية الممر، عند المنحنى، حيث تتفرع خنادق أخرى يميناً ويساراً، شاهدوا هيكلين متعانقين، وغليون صغير بالقرب منهما على الأرض .. ها هو أمام عيني، ذلك الغليون المتواضع وقد تلوث بالطين والدم، الغليون الذي صار زمن الحرب "غليون السلام"، ما زالت فيه بقية من رماد رصاصي: أثر من حياتين اشتعلتا أسرع مما تشتعل نتفة من تبغ.

قصة قصيرة من الأدب الروسي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...