اليسار كفكر ومعضلة سياسية

07-01-2022

اليسار كفكر ومعضلة سياسية

Image
الجرّاح المختص يعالج أزمة الفكر والممارسة

سمير عبيد:

 

تمهيد ضروري

1-بتاريخ 15ديسمبر  2021ومن قاعة كلية العلوم السياسية في جامعة النهرين العراقية رُتبت محاضرة قيّمة ومهمة وفي توقيت دقيق بعنوان (اليسار:فكر ومعضلة سياسية) والتي ألقاها المفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان الذي عُرف ب “سندباد العراق الذي لا يشيخ” .والذي قضى اكثر من نصف عمره وهو يجوب الجامعات ودور الفكر والمراكز الاستراتيجية الرسمية وغير الرسمية في العالم العربي والاسلامي ،وكذلك في الدول العربية حاملا هموم الأمة العربية بشكل عام ،والعراق بشكل خاص. ناهيك عن دفاعه ومواقفه التاريخية في الدفاع عن حقوق الانسان وتنوير الاجيال العربية.فكانت محاضرة قيّمة  حضرها لفيف من النخب العراقية، وأساتذة الجامعات، وطلبة الدراسات العليا.

2-وعندما أطلقنا لقب “السندباد العراقي ” على المفكر شعبان فهي تسمية تليق به كونه يجول العواصم العربية والاسلامية  والأجنبية وهو يحمل العراق في قلبه ولسانه ولباسه كسفير عراقي متجول يُذكّر النخب العربية بالعراق والشعب العراقي الذي أراد اعداء العراق أسرهما وابعادهما عن محيطهما العربي والاسلامي. فأستمر المفكر شعبان بحصد الجوائز تلو الأخرى كمفكر عراقي نفخر به جيل بعد جيل. ولمن لا يعرف طريقة واسلوب المفكر شعبان نقولها له( المفكر شعبان وعندما يحاضر في موضوع يجعل السامع والمشاهد وكأنه يشاهد حبال كثيرة والسيد شعبان يعلق عليها افكاره واحدة بعد اخرى للتبسيط  ليشد المستمع ومن ثم يجعله متمتع بهذا المنظر المتتابع !) فدعائنا  له بالعمر المديد .

الفكر قبل السياسة

أول مابدأ به الدكتور عيد الحسين شعبان هو تثبيت نقطة في غاية الأهمية كونها خلقت حالة جدلية داخل  النخب العربية بشكل عام وداخل النخب  العراقية بشكل خاص  وعلى حد سواء. وبدأها بالسؤال:

هل السياسة قبل الفكر، أم الفكر قبل السياسة؟

فأجاب : أن الفكر قبل السياسة !

1-لأن أي سياسة بلا فكر وعند تقديمها  للناس فهي مادة سياسة عشوائية وضارة .وعندما استهوى  الكثير من الناس في العراق والوطن العربي السياسة وخصوصا في العقود الاخيرة راحوا فأسسوا  أحزابا وحركات بأموالهم فتشوهت السياسة والمبادىء التي يفترض ان تعمل بموجبها السياسة . والسبب لأنها سبقت الفكر بل نحرت الفكر ان صح التعبير فباتت غير نافعة بل كانت سبباً في التشظي .

2-فأكد الدكتور شعبان ان هناك فوضى قد حصلت وسط اليسار بصورة عامة ، وهناك مؤشرات غير مطمئنة وهي انتقال الناس من طرف اليسار الى الطرف الآخر وبطريقة الفوضى. ووصف  السيد شعبان أسباب  تلك الحالة  بانها هروب، أو عدم ثقة ،أو نتيجة الجدل الفكري والذي احيانا بات عقيما . والمفاجأة التي أشر اليها المحاضر شعبان هي ارتجال بعض الاوساط اليسارية. بحيث ان ماحصل من تداعيات ومتغيرات  لا يعنيها وشيء عابر وليس زلزالاً شمل الكرة الارضية. وبالتالي فبدلا من نقد التجربة والانطلاق من جديد ذهبت الاوساط اليسارية الى الفوضى مؤكدا على موضوع الفكر الذي يُفترض يؤمن بالنقد والمراجعة والتجديد!

مصطلح اليسار

وعرّج المفكر عبد الحسين شعبان على مصطلح اليسار ” فهل هو عقيدة أم مصطلح سياسي ؟” . فأكد ان مصطلح اليسار يكاد يكون مصطلح فضفاض لانه ميل وتوجه نحو الراديكالية والتجديد. وليس عقيدة. بحيث وصل اليسار في مراحل عديدة وأصبح حالة فوضوية فيما لو عرّجنا لفصول من الثورة الفرنسية التي يعتبرها العالم النموذج بالاهداف . فحتى في هذه الثورة حدثت فصول فوضوية قام بها ( اليعاقبة)الذين كانوا الاكثر فوضوية، والتي دفعت مجموعة من النخب لتؤسس ( دين العقل) واغلاق الكنائس وعبادة العقل. وجميعها تثبت ان الفكر يجب ان يكون قبل السياسة .

بعض الحقب المهمة

عرّج المفكر عبد الحسين شعبان وبشكل سريع على بعض الحقب المهمة والمتعلقة باليسار وازماته ليعطي امثلة مهمة وهي :

1-حقبة  1945- 1985وهي حقبة الأنتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية.فكانت الأدبيات الإشتراكية تروج أن سمة عصرنا هي الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية .بل أن خروشوف زعيم الإتحاد السوفييتي نفسه هو من ذهب أبعد من ذلك حين قال في العام 1960 أن الإتحاد السوفييتي سيدخل مرحلة الشيوعية في العام 1980. وفي إطار رؤية تبشيرية دعائية لم تزكها الحياة .وحصل الأمر بالمقلوب. حيث بدأ التراجع الذي بلغ ذروته في الثمانينات بالإنسداد الإقتصادي وعدم القدرة في مجاراة الولايات المتحدة في سباق التسلح. ولا سيما في حرب النجوم التي خصصت لها واشنطن تريليوني دولار .ناهيك عن شح الحريات والبيروقراطية الحزبية المنفصلة عن هموم الناس.وهكذا كان التصدع والتأكل داخلياً وخارجياً عبر زعزعته من الداخل وفقاً لنظرية بناء الجسور التي ستعبرها الأفكار والبضائع والسواح لتعميم نمط الحياة الأمريكية!

2-وأكد السيد شعبان على خسارة  اليسار للمعركة  مع الرأسمالية والأمبريالية. وكانت خسارة فادحة. وخسرت الدولة المركزية، اي الدولة القاعدة حسب تعبير المفكر شعبان.فضعفت وتراجعت النزعة الأممية نحو الحالة  الذاتية وتجسد التقوقع وبات حالة سائدة !

3-بحيث سارع الشيوعيون في في اوربا ورفعوا شعار ( لا تصلح شيوعية موسكو في أوربا) فأسسوا ” الأوروشيوعية”من خلال ثلاث احزاب كبرى ” الفرنسي ، والايطالي، والأسباني”.وفسّر المحاضر شعبان هذه الظاهرة بأنها  تحول نحو الذاتية ومن اجل رضا الناس . وأكد بأنه لا شرعية بدون رضا الناس فأندفعوا نحو ذلك لكي لا تهجرهم الناس  !

4- وكان هناك مرور ذكي  من الدكتور شعبان على اليسار العربي. فأكد ان اليسار العربي  هو الآخر خسر المعركة عام 1967وهو عام النكسة!

مرحلة الكسل الفكري

1-فعندما  عرّج المفكر عبد الحسين شعبان على اليسار العربي متهما أياه  بالكسل الفكري وبالأتكالية وذلك لأن العرب اليساريين والشيوعيين من وجهة نظر شعبان كسالى الفكر. لأنهم عولوا وبشكل مطلق على السوفييت، ولم يفكروا بمستقبلهم ولا حتى يفكروا بما يتلائم مع شعوبهم واوطانهم فضاعت منهم البوصلة  !

2-وأكد  السيد شعبان بخصوص  اليسار بأنه ليس له سياسة واضحة وراسخة. بل كانت سياساته ضبابية. فكانوا يعطون التضحيات اي اليساريين ولكن بلا استراتيجيات .ومنها تعامل اليسار مع القوى الدينية . والسبب لان اليسار لم يستطع قراءة الواقع قراءة دقيقة . فكانت هناك مبالغة في التقديرات الذاتية بالنسبة لليسار. فقاد هذا الأمر من وجهة الدكتور شعبان الى :

أ:-الى تحالفات مع حكومات مستبدة. وتارة نكاية بالتيارات الاسلامية، وتارة بزعم مجابهة الامبريالية، وتارة بحجة عدم الأنفراد خارج دائرة الاجماع السياسي مثل (الرأي حول غزو العراق) !

ب:-الانقلاب على الماضي بحيث انتقل البعض من ماركسية متزمتة الى الليبرالية الفاضحة!

نقد الماركسية.. وتوضيح انواعها

لقد نقد  الدكتور شعبان أصحاب نهج  التشبث بالماركسية لكل زمان. وقال ان  “الماركسية علم”ولكن افكار ماركس لا تصلح الى عهده وليس في عهدنا .لا سيما وان هناك ماركسيات وليست ماركسية واحدة ومنها :

1-ماركسية سلفية:-وهي التي لا تختلف عن السلفية في الاسلام السياسي والتي  تريد العودة الى الدين الصحيح، أو الاسلام الصحيح والمحمدي، أو الى الاسلام الراشدي. فهؤلاء ينتهجون سلفية ماركسية من خلال  العودة الى لينين ، وستالين. ولم يستوعبوا ان الزمن تجاوز هذه الافكار وتلك الماركسية بمراحل كثيرة!

2-ماركسية متحولة :-وهؤلاء من دعاة النيوليبرالية ومن دعاة أقتصاد السوق. بحيث هرعوا الى التبشير باقتصاد السوق والانتماء الى النيوليبرالية بحيث صدموا حتى قواعدهم  !

3-الماركسية الطهرانية :- هي تقترب من السلفية لكنها نظّرت لعذرية الماركسية ،وتقديس كلام ورؤى ماركس !

4-الماركسية الطقوسية” الادارية” :-وهذه لا علاقة لها بالماركسية. ومن مال لها هم المثقفون السطحيون في المدرسة  الماركسية!

5-ماركسية حيوية مرتبطة بالواقع على نحو عقلاني ومن خلال قراءة المستجدات والمتغيرات والتي لازالت مرنة ومتجددة !

6-الطامة الكبرى !

لقد أكد المفكر د. عبد الحسين شعبان ومن خلال محاضرته في كلية العلوم السياسية في جامعة النهرين في بغداد وهو في حالة امتعاض معلنا (استفحال السياسة على الفكر ) اي تقهقر الفكر لصالح السياسة .ولهذا حصل الاختلال والاختلاف في الماركسية في القرون ( 19،20،21)!

ماذا يحتاج اليسار بصورة عامة  ؟

لقد أشعر  الدكتور شعبان الحضور بانتفاضته  ضد واقع السياسة قبل الفكر.فأكد ان اليسار بحاجة الى :

1-يحتاج برنامج عمل وليس شعارات لا تنطبق على الواقع

2-يحتاج الى قوى عاملة ، وقوى جديدة لأن القوى القديمة لم تعد قادرة على التغيير !

3- يحتاج الى آليات جديدة ومعقولة وواضحة

4-اعادة النظر بفكر الحزب ذاته، لأنه لم يعد كتاب لينيين صالحاً !

5- عليه نبذ العنف نهائيا. لأن الحقد لا يجلب غير الحقد

وطرح سؤلاً كبيرا بعنوان “ماذا يحتاج اليسار العربي” ؟

أي كيف النهوض باليسار العربي ؟

فالنهوض باليسار العربي من حيث ماأكده الدكتور عبد الحسين شعبان فهو يحتاج الى :

1-يحتاج الى ديموقراطية متدرجة وتتلائم مع الظروف والموروث

2- يحتاج الى العدالة الأجتماعية

3-يحتاج الى دراسة التراث بشكل صحيح

4-الأتحاد والتنسيق مع البلدان من خلال المشاريع الناهضة للأمة

5- يحتاج الى تنمية مستدامة

أزمات اليسار

وذهب السيد شعبان الى مفصل آخر وهو : من ماذا يعاني اليسار؟ فأجاب:

1-يعاني من أزمة قيادة

2-ويعاني من أزمة تنظيم

3-ويعاني من ثقافة التبعية

وللخروج من تلك الازمة أو الازمات هو الشروع  بالحوار الواسع والمفتوح، والذي لابد وان يكون  شفافاً ،ويحتوي على النقد الصريح والجريء.وقبل كل هذا وجود الثقة بالنفس!

1-ان هناك حنيناً الخلاصة بات يتجسد نحو اليسار وخصوصا في امريكا اللاتينية وهو الذي نتج عنه فوز اليساريين بخمس دول لاتينية قبل عشر سنوات واكثر  .وآخرها قبل شهرين أو اكثر  عندما فاز الزعيم اليساري أورتيغا في نيكاراغوا، وعلى اثرها أصدرت واشنطن عقوبات ضد أورتيغا واسرته خوفا ان يشكل  ظاهرة يسارية جديدة تجتاح امريكا اللاتينية والعالم مقابل ضعف الولايات المتحدة عالميا .

2- ولكن المفاجاة جاءت من تشيلي قبل ايام قليلة . تشيلي  التي حولتها الولايات المتحدة الى قاعدة اميركية من وجهة نظرها. واذا باليساري “غابريال بوريتش”الرئيس المنتخب على رأس تحالف يساري يكتسح صناديق الاقتراع وسط صدمة كبيرة في الولايات المتحدة  . وفي اول خطاب له  أكد بوريتش  (أنه يريد وضع حد للنموذج المفرط في الليبرالية الذي يحكم تشيلي بعدما أصبحت واحدة من الدول التي تعاني من أكبر تفاوت اجتماعي في العالم، ويملك واحد بالمئة من أغنيائها أكثر من ربع ثرواتها حسب وكالات للأمم المتحدة).

3- فلن استبعد على المستوى الشخصي  ان يعود اليسار العربي ايضا  بقوة خلال السنوات القادمة  في الدول العربية خصوصا بعد فشل الاسلام السياسي في ادارة البلدان والمجتمعات العربية من جهة، وبعد تغول الرأسمالية وبنتها المدللة الليبرالية المتوحشة في الدول والمجتمعات العربية والتي دمرت الطبقة الوسطى فيها تماما. فبات هناك حنين الى  التغيير نحو الاشتراكية واليسارية وحال تبلور قيادات ومشاريع يسارية في الاقطار العربية .

وبذلك لن نستبعد ولادة نظم يسارية لا تتصادم مع اقتصاد السوق اي اليسارية السلسة التي تؤمن بالاشتراكية والتنمية الاجتماعية  !

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...