حكومة السنيورة تسلّم لبنان للقضاء.. والقدر الدولي
سلّمت الحكومة اللبنانية أمس، لبنان، بصورة رسمية الى القضاء... والقدر الدوليين، في خطوة أبعد من الوصاية الدولية. والأخطر من ذلك، أن قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي كانت قضية اجماعية وطنية على طاولة الحوار الوطني، باتت اعتبارا من هذه اللحظة، قضية خلافية، لم يعد للبنانيين أي يد لهم فيها، ما يجعل الأبواب مفتوحة أمام طرح هذه القضية، اعتبارا من لحظة اقرارها وفق الفصل السابع في مجلس الأمن الدولي، في سوق التسويات أو تصفية الحسابات الدولية والاقليمية.
وإذا كان هناك من بدأ يتصرف، اعتبارا من ليل أمس، باعتبار أن المحكمة صارت وراء ظهره، فإن الباب اللبناني الأخير لخروج المحكمة نحو التدويل، تمثل في ارسال رئيس الحكومة فؤاد السنيورة «رسالة منسقة» الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومن خلاله الى أعضاء مجلس الأمن الدولي، يطالبهم فيها باعتماد «قرار ملزم» بشأن المحكمة الدولية في مجلس الأمن، بعد استنفاد كل الوسائل في لبنان.
وسبق إعداد الرسالة، اتصال متأخر، ليل أمس الأول، بين السنيورة وبان كي مون، الذي تسلم ليل أمس رسميا نص الرسالة، عبر البعثة اللبنانية، وأعلن مكتبه انه بدأ بدراستها وأن بان كي مون «قد يبحث قضية انشاء المحكمة مع الاعضاء في مجلس الامن خلال لقاء على مأدبة غداء اليوم»...
وترافق ذلك أيضا، مع اتصالات مفتوحة بين بعثة لبنان في نيويورك وعدد من مندوبي الدول الأعضاء، اضافة الى خط تشاوري شبه دائم بين المستشار الدبلوماسي لرئيس الحكومة السفير محمد شطح والمساعد القانوني للأمين العام للامم المتحدة نيكولا ميشال والبعثات الفرنسية والاميركية في مجلس الأمن، علما بأن ممثل الامين العام للامم المتحدة في لبنان غير بيدرسون توجه، امس الأول، الى نيويورك كي يكون على مقربة من المشاورات مع بدء العد العكسي لاقرار المحكمة في مجلس الأمن.
وقالت مصادر دبلوماسية عربية في نيويورك، ان وظيفة الرسالة تعطيل اي امكانية لممارسة إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية حق «الفيتو» وتشجيع الدول الأخرى على الموافقة اذا كانت هناك من اعتراضات لديها. وبالتالي، فإنه فور صدور الرسالة اللبنانية، أصبح ما يقوم به مجلس الأمن ممهورا بتوقيع رسمي لبناني وصار احتمال تمرير المحكمة باصوات الاغلبية المطلقة، اذا تعذر الاجماع، محسوما، في ظل انقسام واضح بين دول كبرى، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة، اللتين تعتبران المحكمة «انتصارا سياسيا كبيرا»، في مقابل، مواقف روسية وصينية وبريطانية مؤيدة بحذر شديد التوجه نحو الفصل السابع، على قاعدة أن الاستقرار اللبناني أهم من محكمة قد تهدده، خاصة أن وظيفة الامم المتحدة ومجلس الامن هي حماية الامن والسلام والاستقرار الاقليمي والدولي وليس العكس.
وبحسب المصادر الدبلوماسية العربية، فإن فرصة أن تبصر المحكمة النور قبل أن يغادر الرئيس الفرنسي جاك شيراك، قصر الإليزيه، يوم غد، باتت ضعيفة الى حد كبير، وبالتالي، فإننا بتنا الآن أمام مرحلة عرض الرسالة الرسمية اللبنانية على الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن، وفور الانتهاء من دراستها، سيصار الى دعوة مجلس الأمن للانعقاد خلال مهلة أسبوع، على أن تقر المحكمة قبل نهاية الشهر (في مهلة تتراوح بين 10 و12 يوما).
ونقل عن المندوب الأميركي في مجلس الأمن زلماي خليل زاد قوله، أمس، إن موضوع المحكمة قد حُسم نهائيا وباتت المسألة مسألة وقت، فيما كان المندوب الفرنسي جان مارك دو لا سابليير يعرض ديباجة القرار الدولي (نص مختصر جدا) على الخبراء ويطلب منهم ابداء ملاحظاتهم بأسرع وقت ممكن.
وقال وزير الخارجية البلجيكي كاريل دي جوخت (بلاده عضو في مجلس الأمن حاليا) إنه من الضروري تحقيق تقدم في قضية إنشاء المحكمة الدولية، وذلك من أجل تحريك الموقف السياسي الذي يبدو مسدودا في لبنان. وجاء موقف الوزير البلجيكي بعد لقاءات عقدها، امس، مع بان كي مون والمندوب الأميركي زلماي خليل زاد.
وردا على سؤال حول ما إذا كانت بلجيكا العضو غير الدائم في مجلس الأمن، ستصوت لصالح الفصل السابع، قال دي جوخت «إن هذا السؤال ليس سهلا. لكن أعتقد أنه ما لم يكن موقف من قبل الأمم المتحدة بشأن محكمة (رفيق) الحريري، فسيكون من الصعب الخروج من الموقف السياسي المسدود حاليا في لبنان».
وأضاف الوزير البلجيكي أن رد الفعل المبدئي على تمرير قرار ملزم وفقا للفصل السابع ينشئ المحكمة لتجاوز الخلافات الداخلية بين اللبنانيين حاليا «قد يترك أثرا سلبيا بشكل مبدئي على الأرض، لكن من ناحية أخرى فإن إقامة هذه المحكمة كأمر واقع على الأرض قد تخلق أرضية مناسبة للتوصل إلى حل سياسي».
أما مندوب بلجيكا لدى الأمم المتحدة يوهان فيربك فقال للصحافيين، إن طرح القرار الخاص بإنشاء المحكمة وفقا للفصل السابع «لم يُحسَم بعد». وأوضح للصحافيين في مقر الامم المتحدة، وهو يقف الى جانب وزير خارجيته، أنه «في المرحلة الحالية، نحن نبحث في مجلس الأمن البدائل المختلفة المطروحة على الطاولة. وتمرير قرار وفقا للفصل السابع هو أحد هذه البدائل. لكننا لم نصل الى هذه المرحلة بعد، وما زال هذا الاقتراح مؤجلا في هذه المرحلة. وسنواصل النقاش حول هذا الأمر خلال الأسابيع القادمة، وسنرى ما سيمكن عمله».
وصرحت المتحدثة باسم الأمين العام ميشيل مونتاس أن بان كي مون «سيناقش البدائل المطروحة بشأن قضية تشكيل المحكمة مع أعضاء مجلس الأمن في اجتماع مغلق اليوم الثلاثاء».
وفي بيروت، جاء الاعلان الرسمي عن ارسال الرسالة بعد اجتماع وزاري موسع، عقد في السرايا الكبيرة، مساء امس، ترأسه السنيورة وشارك فيه 11 وزيرا بالاضافة الى السفير شطح، وأعقبه اتصال جرى بين السنيورة والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي كان قد استبعد في تصريحات له، امس، امكان اقرار المحكمة بموجب الفصل السابع في الوقت الراهن.
وأعقب اجتماع السرايا، لقاء عاجل لقيادات الرابع عشر من آذار في قريطم، حضره النائبان سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وعدد آخر من قيادات الأكثرية، وبينهم السفير محمد شطح، الذي أطلع المجتمعين، على نتائج المشاورات التي أجراها في نيويورك، مطلع الشهر الحالي.
وأصدر المجتمعون بيانا أعلنوا فيه «دعمهم المطلق» لرسالة السنيورة الى الامم المتحدة «من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لإقرار المحكمة الدولية بعدما تعذر إقرارها من خلال المؤسسات الدستورية اللبنانية بسبب الإصرار على إقفال المجلس النيابي وتعطيل إمكانية الحل الداخلي بين اللبنانيين». وأعلن المجتمعون رفضهم ما أسموها «حملة التجني والتشهير التي تستهدف رئيس الحكومة والتي بلغت حدا خطيرا ينذر بإشعال نار الفتن والنعرات التي عمل المخلصون في الداخل والخارج على وأدها في الأسابيع الأخيرة».
وكان اللافت للانتباه، أن اجتماع وبيان الأكثرية، سبقهما لقاء في قريطم بين النائب الحريري والسفير السعودي عبد العزيز خوجة، الذي سيستقبل اليوم وفدا من لجنة المتابعة للقاء المصيلح لمتابعة قضية التعويضات للأهالي المتضررين جراء «حرب تموز».
وقال أحد الوزراء المشاركين في اجتماعات السرايا وقريطم ان النص الذي ارسله رئيس الحكومة يعتبر «نصا كافيا ومنسقا مع الامانة العامة للامم المتحدة، وهو يشير ضمنا الى الفصل السابع، من خلال المطالبة بقرار ملزم، كما أن الرسالة تستند الى الرسالتين الاولى والثانية وإلى مجمل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والتي بني عليها التحقيق الدولي منذ زمن فيتزجيرالد حتى سيرج برامرتز».
وفيما جددت مصادر الأكثرية حديثها عن مبادرة سياسية سيطلقها النائب سعد الحريري فور اقرار المحكمة وفق الفصل السابع، فإن بعض العائدين من العاصمة الفرنسية سمعوا من قيادات في الأكثرية هناك أن اقتراحات عدة يجري تداولها، أبرزها فكرة تشكيل حكومة حيادية (يتم الحديث عن اسمين بارزين قيد التداول حاليا)، تكون مهمتها رعاية الاستحقاق الرئاسي ووضع قانون انتخابي جديد قبل الرابع والعشرين من أيلول يعتمد صيغة القضاء دائرة انتخابية باعتبارها الصيغة التي ترضي بكركي ومعظم القيادات المسيحية.
وفيما رفضت مصادر الأكثرية في بيروت نفي أو تأكيد فكرة الحكومة الحيادية، لوحظ أن عددا من السفراء في بيروت دققوا في سلبيات وايجابيات اقتراح الحكومة الحيادية، وقال أحدهم إن بكركي تبدو متحمسة لمخرج من هذا النوع.
أما المعارضة، فلم تحدد موقفا موحدا من قضية الرسالة الحكومية، وفضّل رئيس المجلس النيابي نبيه بري تأجيل تعليقه، على المسألة، حتى وقت آخر. ونقل عنه مقربون منه قوله لبعض السفراء الذين راجعوه في الأيام الأخيرة، «إن من كانوا يقولون ان المشكلة في المحكمة وليس في الحكومة سيكتشفون العكس، وها هم بدأوا القول إن المحكمة صارت وراء ظهرهم، فماذا سيقولون لنا غدا. الوزراء لن يعودوا عن استقالاتهم والاعتصام لن يُرفع والمجلس النيابي لن ينعقد في هذه الدورة العادية تحت ضغط الاعتصام الدوري للاكثرية (سيراقب بري مسار الاعتصام اليوم وما يمكن أن يصدر عنه من مواقف). وبالتالي، فإن الازمة السياسية قائمة والمسألة الاساسية انهم يريدون التحكم بالبلد وليس إنشاء المحكمة».
وقال أحد أقطاب المعارضة اللبنانية ان المعارضة ستتعاطى مع المحكمة منذ لحظة اقرارها وفق الفصل السابع بوصفها مجرد قرار دولي جديد مثل القرار ,1559 وبالتالي «نحن تحررنا عمليا منذ لحظة رسالة السنيورة من عبء اتهامنا المتكرر بتعطيل المحكمة، وسنتعامل معها بحسب أداء الأميركيين، سواء بالتطبيق بالقوة أو بوصف المحكمة صارت جزءا من عملية الشراء والبيع الأميركية في المنطقة... الخ. وسنقول بكل حرية انه لم تعد هناك محكمة او حقيقة او قضية اسمها قضية رفيق الحريري، بل قضية قرار دولي يمس بالثوابت الوطنية والسيادة اللبنانية، الأمر الذي سيؤدي تلقائيا الى تعميق الأزمة السياسية».
الى ذلك، نقل زوار البطريرك الماروني نصر الله صفير عنه، امس، قوله بوجوب تشكيل حكومة وحدة وطنية تأخذ على عاتقها أخذ البلاد الى بر الأمان واجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده ووضع قانون انتخابي جديد يعتمد القضاء دائرة انتخابية، بعدما تبين أن صيغة الدائرة الفردية وفق الاقتراح المقدم من عميد الكتلة الوطنية كارلوس اده، يمكن أن يؤدي الى عملية شراء لأصوات الناخبين، مع أنه الاقتراح الأنسب للمسيحيين».
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد