صورتان خياليتان لحياة هرمان ملفل
كيف يختلف ربيع 2007 عن ربيع 1852؟ ظهرت رواية «موبي ديك» للمرة الأولى في خريف 1851. بورخيس كتب مرة أنها ظهرت في شتاء 1851. هل وقع في خطأ؟ ظهرت أولاً في لندن تحت عنوان «الحوت» مقسمة الى ثلاثة أجزاء (ثلاثة مجلدات). الناشر الانكليزي ريتشارد بنتلي أنزلها الى المكتبات في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1851. بعد أقل من شهر، في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1851، ظهرت الطبعة الأميركية (نشرها هاربر) في نيويورك.
الصحف الانكليزية هاجمت الرواية عموماً. بعض النقاد اتهم ملفل بالخبل. أحد الكتّاب أشار الى خطأ مهم في الرواية: يموت الراوي في نهاية الكتاب. كيف يموت الرجل الذي يروي لنا قصة القبطان والحوت الأبيض والسفينة؟ الجواب نجده في الطبعة الأميركية لا في الطبعة الانكليزية: هناك «خاتمة» تنقص الطبعة الانكليزية (طبعة بنتلي). هذه «الخاتمة» موجودة في الطبعة الأميركية (طبعة هاربر). وهي تسجل نجاة الراوي اسماعيل من غرق السفينة.
هل أضاف ملفل الخاتمة (صفحة واحدة) لاحقاً؟ الصحف الانكليزية انقضت على الرواية قبل نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1851. كيف تمكن هؤلاء النقاد جميعاً من قراءة الرواية الطويلة في هذا الوقت القصير؟ هذا السؤال نافل. كما السؤال في بداية هذه الفقرة. الخلاصة: لم يحب النقاد الانكليز عموماً كتاب ملفل. وعندما نشر الكتاب بعد أسابيع على الجانب الآخر من الأطلسي – في نيويورك، الوطن – تكرر الأمر: الصحف الأميركية أيضاً وجدت الكتاب سيِّئاً.
كانت هذه رواية ملفل السادسة. بين 1840 و 1850 نشر خمس روايات. بعد «موبي ديك» (1851) سينشر روايات أخرى. روايته السابعة لن ينشرها بنتلي. ساءت العلاقة بين ملفل وناشره الانكليزي بعد «الحوت». هاربر سينشر رواية ملفل السابعة في نيويورك، ووكيل هاربر في لندن ينشرها هناك. رسائل هرمان ملفل تكشف علاقته بناشريه. بنتلي كتب الى ملفل انه يقبل أن ينشر روايته السابعة مشترطاً حذف مقاطع. كتب أن حذف بعض المقاطع من الرواية السابقة (موبي ديك) كان كفيلاً بتحسينها. وطلب من ملفل أن يضبط خياله. انتهت العلاقة بين الإثنين.
العلاقة مع الناشر الأميركي (هاربر) لن تستمر طويلاً أيضاً. نشر هاربر رواية ملفل السابعة سنة 1852 ثم كفّ عن نشر أعماله. رواية ملفل الثامنة الصادرة سنة 1855 نشرتها دار أخرى. ومع روايته التاسعة (1857) اضطر للبحث عن ناشر جديد. لم يكن بلغ الأربعين بعد. بدأ يكتب قصائد. صار شاعراً. ينشر في دورٍ صغيرة وينشر على حسابه الخاص. لن ينشر رواية أخرى في حياته.
نشر ملفل «موبي ديك» وهو في الثانية والثلاثين. كانت روايته السادسة. هل يعرف القارئ عناوين رواياته الأخرى؟
أشاع مؤرخو الأدب عبر القرن العشرين صورة خيالية حزينة لحياة هرمان ملفل. هل نستطيع اليوم أن ننقض تلك الصورة بصورة خيالية أخرى؟
الصورة الشائعة عن ملفل الى هذه الساعة يتبناها عدد لا يحصى من أهل الأدب (لورنس، فورستر، توماس مان، بورخيس، أوستر). وهي أيضاً الصورة التي رسمها وعمّمها عبر مئة سنة كتاب سيرته: منذ ريموند ويفر (1921) وجون فريمان (1926) ولويس مامفورد (1929) وجاي ليديا (1951 و 1969) وليون هاورد (1951) وحتى لوري روبرتسون – لوران (1996) وهيرشل باركر (1996) وأندرو دلبانكو (2005).
يظهر ملفل في الصورة المذكورة كاتباً محبطاً ومحطماً. بدأ حياته الأدبية باكراً بروايات عرفت نجاحاً، ثم تعثر نجاحه. جاءت النكبة مع «موبي ديك». هاجمه النقاد. ابتعد عنه القراء. تخلى عنه الناشرون. اعتزل كتابة الرواية. تداعى زواجه. فقد ولدين: الأول انتحر والثاني مات بعيداً من البيت. قَبِل – وإلا كيف يعيش؟ - وظيفة في مصلحة الجمارك في نيويورك. قضى في الوظيفة المذكورة 19 عاماً ثم أُحيل الى التقاعد. مات بعد سنوات قليلة عن 72 عاماً، مريضاً، مجهولاً، ورواياته مفقودة من الأسواق. الشهرة لن تأتي إلا بعد عقود. مات في 1891. و «موبي ديك» لن تعثر على قراء جدد إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (سنة 1924 تُنشر «بيلي باد»).
بورخيس انتبه ان الطبعة الحادية عشرة من «البريتانيكا» (1911) لا تمنح ملفل غير سطور قليلة. تصفه بالكاتب البحري. الطبعة المذكورة من «الموسوعة البريطانية» تحوي عالماً مفقوداً: عالم ما قبل الحرب الكبرى. هل ضاع ذلك العالم القديم؟
يبحث بورخيس عن ملفل في «البريتانيكا» (العالم القديم) فيجده ولا يجده. هل أصابته الخيبة وهو يقرأ السطور القليلة عن صاحب «موبي ديك»؟ أميركا المدن الضخمة وأعداد البشر الهائلة والمطابع المجنونة دفنت ملفل في النسيان. هذا حدث لادغار آلن بو أيضاً، يخبرنا بورخيس. بول أوستر يستعيد صورة ملفل الحزينة في «مدينة الزجاج». بينما الراوي يتجول في شوارع نيويورك «انطلق ذهنه الى الصور التي قرأها عن ملفل في السنوات الماضية، العجوز الصموت الذي يعمل في مبنى جمارك نيويورك، بلا قراء، وقد نسيه الجميع».
هذه الصورة للكاتب العجوز – الساكت والمنسي – معممة على قراء ملفل منذ أعيد اكتشافه عند نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. يصعب احصاء الموسوعات الأدبية التي تتبنى الرواية ذاته لحياة هرمان ملفل. هذه الصورة تبدو حقيقية (بقوة التكرار) وغير قابلة للمحو. سؤال هذه المقالة هو: هل هي صورة حقيقية؟
عاش ملفل بعد «موبي ديك» أربعين عاماً. عاش كل هذه السنوات محطماً؟
أبناء القرن العشرين ضاعفوا الجرعة التراجيدية في حياة ملفل متأثرين – وهذا طبيعي – بالنجاح المستجد لروايته عن الحوت. هذا يعني أن بورخيس لا يقرأ حياة ملفل كما عاشها الرجل بين 1819 و1891 : انه يقرأ حياة ملفل كما تخيلها قاعداً في بوينس أيرس بعد عقود. انه يقرأ حياة ملفل كما لو أن صاحب «موبي ديك» رأى لحظةً من المستقبل (سنة 1925 أو سنة 1935 مثلاً)، رأى نجاح روايته بعد رحيله عن عالمنا، ثم عاد الى مبنى الجمارك في نيويورك وجلس قانطاً في 1874 أو 1884.
أبناء القرن العشرين رأوا – في الخيال – ملفل يتحطم وهو يقرأ ما كُتب عن «موبي ديك» في صحف لندن خلال تشرين الأول 1851. هناك مقتطفات من هذه المقالات منشورة في مواقع الكترونية مختصة بملفل يستطيع القارئ (نحن في ربيع 2007) الذهاب اليها.
أمطار الخريف تتساقط، وقريباً يشتد البرد. في بيته الريفي يرى ملفل نهاية السنة. مقالات جديدة تظهر في صحف نيويورك التي تصله بالبريد. وهذه أيضاً ضد كتابه. يقرأ مدائح في كتبٍ بائسة، ويقرأ هجاء «موبي ديك». يحلّ ربيع 1852. تتراجع العواصف، تذوب الثلوج. الطيور تملأ الأشجار. العشب والزهور والشمس الساطعة. البقرة تخرج الى الهواء الدافئ والثور يخور ويأكل ملحاً. نظر ملفل الى غيوم بيضاء كالقطن تتراكض في السماء وأبعد الجرايد: كيف يختلف هذا الربيع عن ربيعٍ قديم سابق؟ في ذلك الوقت لم يكن «موبي ديك» موجوداً! الآن «موبي ديك» موجود: حوت أبيض ضخم يقطع المخيلة.
هل تخيل ملفل في تلك الساعة حياته الآتية؟ هل تخيل حياة «موبي ديك» أيضاً، ومستقبل كتابه؟ رسائل ملفل الى أصدقائه وأقاربه بين 1851 و 1891 لا تكشف لنا رجلاً مهدماً مظلم العينين. القراءة المتمهلة مثلاً للرسائل التي تبادلها مع ناثانيل هوثورن خلال عامي 1851 و 1852 تمنحنا صورتين خياليتين معاً لطبيعته النفسية:
أ – رجل يهتم بالشهرة.
ب – رجل لا يهتم بالشهرة أبداً.
ان الصورة المعممة لملفل الى هذه الساعة بُنيت على الاختيار «أ»: الرجل تحطم لأن العالم لم يقبل روايته، ومحطماً عاش الأربعين سنة الباقية من حياته.
دُفنت رواية «موبي ديك» في الظلمات زمناً بسبب نظرة محددة اليها. عندما تغيرت النظرة بتغير الأزمنة عثرت «موبي ديك» على قراء.
ارتبط رجوع «موبي ديك» الى الضوء باسطورة نُسجت حول ملفل. تقبل القراء هذه الأسطورة لأنها تستجيب لنوازع محددة كامنة فيهم. انها النوازع والميول ذاتها التي دفعت روائيين ومؤرخين وشعراء في الغرب والشرق الى تعزيز الصورة الخيالية ذاتها: هرمان ملفل يقعد حزيناً في مصلحة الجمارك في نيويورك داخلاً العقد السادس ثم العقد السابع من عمره، ووراء ظهره – في ظلمة سنوات الشباب – يقبع الحوت الأبيض الكبير مدفوناً في لجّة النسيان.
هل نستطيع بعد مرور كل هذه السنوات – بعد كل هذه الكتب والكلمات – أن نبعد خيوط العنكبوت المتراكمة وأن نرى هرمان ملفل في ذلك الزمن البعيد قاعداً في مكتب يطلّ على المرفأ، يشرب شاياً ويقرأ كتاباً، شاعراً بالهدوء؟
كتب في شتاء 1851 – 1852 الى هوثورن انه مملوء فرحاً لأنه أحبّ الكتاب. هوثورن أحبّ «موبي ديك». وزوجة هوثورن أحبّته أيضاً. كتب ملفل ان هذا الحبّ نعمة ربّانية لم يتوقعها، وهدية من السماء. كتب أنه مثل الفلاّح الذي يعمل النهار كلّه، فإذا جاء المساء يقعد الى العشاء ويشكر ربّه على العشاء. هذا كل ما يطلب: الراحة بعد يوم العمل الطويل. الراحة والسكينة. ماذا يطلب كاتب أكثر؟ الاعتراف؟ المكافأة؟ كيف يطلب هذا؟ أليس انجاز الكتاب بحد ذاته مكافأة؟ ان تُعطى القوة (والوقت) كي تكتب الكتاب الذي طالما أردت أن تكتبه. ألا يكفي هذا؟ غيرك لم يُعطَ لا الوقت ولا القوة!
قارئ هذه الرسالة الى هوثورن يجد نفسه عند تقاطع:
أ – يصدق كلام ملفل ظاهراً وباطناً.
ب – يصدق من دون أن يصدق تماماً.
من هذا التقاطع تنطلق حياتان مختلفتان لهرمان ملفل: حياة نعرفها جيداً وتتبع طريقاً واضحة المعالم كررت السِيَر الأدبية وصفها على امتداد القرن العشرين ووصولاً الى هذه الساعة. انها حياة ملفل الحزينة.
وحياة أخرى غير مرئية، بسيطة وتقبل العالم كما هو ولا تكسرها خيبة. انها حياة ملفل الأخرى التي دُفنت تحت تراب الحياة المتخيلة الشائعة، تماماً كما دُفنت روايات ملفل من قبل.
القرن التاسع عشر طمر «موبي ديك».
القرن العشرون طمر ملفل تحت «موبي ديك».
يسهل على القراء تخيل حياة ملفل الحزينة. هل يصعب عليهم تخيل حياة أخرى له؟
الحياة الأولى خيالية. الحياة الثانية – غير الشائعة – خيالية أيضاً.
الأولى ترى ملفل قوياً وضعيفاً معاً: فيه قوة كافية لتأليف «موبي ديك» (ألف صفحة عن رجل بساقٍ واحدة يطارد حوتاً على مساحة محيطات وبحار هذا الكوكب)، لكنه مع هذا ضعيف في مواجهة عالم يصدّ كتابه ويلفظه (كأن العالم يقول له: «أنت غير موجود. أنت الثقب في القماشة!»).
الحياة الثانية – غير المرئية – تحضن الحياة الأولى المعروفة ثم تتجاوزها: تتجاوزها لأنها لا تعلق في شتاء 1851. ولا ترى سنة 1881 (أو 1891) كأنها تتبع سنة 1851 مباشرة.
كيف ننسى نهر الوقت؟ يُغيرنا الزمن بلا توقف. يرفعنا ويحطنا. بورخيس حوّل حياة ملفل الى قصة خيالية. غيره فعل هذا أيضاً. صنع القرن العشرون حياة خيالية لهرمان ملفل. استجاب العالم لهذه الصورة الشعرية: صورة الكاتب المُحبَط الذي ينقذ الزمن أعماله من النسيان. في المقابل دفع ملفل ثمناً باهظاً: اختُزل نصف عمره (أكثر من نصف عمره) الى صورة واحدة: صورة العجوز المنسي في مبنى جمارك نيويورك.
في منتصف رحلة حياته أصابت ملفل نكسة اسمها «موبي ديك». لم تكن الأولى. روايته الثالثة المنشورة سنة 1849 في ثلاثة أجزاء لم تلقَ صدى طيباً هي أيضاً. مع هذا لم يكف عن التأليف والنشر. بعد «موبي ديك» أيضاً تابع الكتابة. حتى بعد انتقاله الى ضفة الشعر لم ينسَ الرواية. «بيلي باد» المنشورة بعد عقودٍ من رحيله ألَّفها في سنوات التقاعد: السنوات الأخيرة من حياته. سنة 1891 لا تتبع سنة 1851. في منتصف رحلة حياته لم يقع ملفل الى تحت الأرض. الخيبة لم تهدمه. قراءة رسائله تكشف وجهاً آخر للرجل. الغريب أن القارئ قد يتجاوز هذه الصورة ويتبنى – بلا انتباه – الصورة الشائعة. هذا ما فعله كتاب سيرته أيضاً. ما السبب؟ التناقض الباهر بين سيرة «موبي ديك» في القرن العشرين وسيرتها في القرن التاسع عشر؟ القوة الشعرية لصورة الكاتب المجهول؟
رسائل ملفل تُنقذ حياة غير مرئية. بعد عقد على ظهور «موبي ديك» تقع الحرب الأهلية الأميركية. قبل هذه الحرب سافر ملفل في رحلات بحرية طويلة (في إحداها بلغ يافا). الرسائل من السفن الى زوجته وأولاده ترسم حياة داخلية شديدة الثراء (رسومه الى أطفاله أيضاً). بعد الحرب ينشر قصائد (1866). في 1876 ينشر قصيدة طويلة في مجلدين تسرد رحلته الى الأراضي المقدسة سنة 1857. لم ينجح في الحصول على منصب القنصل في فلورنسا. لكن وظيفته في جمارك نيويورك أمّنت له دخلاً ثابتاً: هنا تلقى رسائل من قراء عثروا على مؤلفاته في مكتبات تبيع كتباً قديمة (رسائل جيمس بلسون سنة 1884 مثلاً).
سنة 1890 يتلقى رسالة من ناشرٍ انكليزي يطلب فيها أذناً لنشر روايته الأولى في طبعة جديدة. رواية صدرت قبل 44 عاماً.
هل نستطيع الآن – بعد كل هذه السنوات – أن نتخيل ملفل، في الواحدة والسبعين، يطوي هذه الرسالة، وينظر من النافذة الى أبنية نيويورك: عند الزاوية امرأة في ثوب أزرق تقطع الطريق. ينظر الى المرأة حتى تختفي وراء عربة تجرها أحصنة. يرى المرأة ولا يراها. يرى العربة والأحصنة ولا يراها. ماذا قال له العالم قبل لحظة؟ قال العالم: «أنت موجود».
القرن العشرون صنع حياة خيالية حزينة لصاحب «موبي ديك». القراء تآمروا مع أدباء ومؤرخين وناشرين (السوق تطلب أساطيرها): هكذا حُبس ملفل أبدياً في بيت العنكبوت. اذا أردنا أن نراه الآن رأينا عينين كئيبتين، لحية ثلجية البياض، ووجهاً خطّته التجاعيد. هذا المقال يقترح صورة أخرى: صورة ملفل في الثانية والسبعين يشرب كوب الشاي الصباحي ويقرأ بعينين صافيتين كتاباً قديماً. في هذه الساعة الساكنة، بينما الطيور تعبر خارج النافذة وتلقي ظلاً سابحاً على كتابه، لا يشعر بالزمن. كأنه خارج الزمن. يفتح الكتاب القديم ويرى بحراً يمتد الى ما لا نهاية.
ربيع جابر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد