السوق العتيق منطقة أثرية ..السوق العتيق ليس منطقة أثرية:
الجمل: أخيراً، هدم السوق العتيق في دمشق، وأقيمت مكانه شبه حديقة، وبغض النظر عن كل ما قيل في صحة قرار الهدم أو خطئه.. وكل ما قيل عن ملابسات الموضوع التي وصلت في بعض مراحلها لاتهام منفذي المشروع بارتكاب جريمة بحق التاريخ والآثار وذكرى المدينة.. لا بد من إثارة بعض التساؤلات حول المنهجية التي تمارسها مديرية الآثار بالتعامل مع المواضيع المطروحة أمامها.
لن نتحدث عن مخطط ايكوشار هذا المهندس الفرنسي الذي وضع مخططاً تنظيمياً لدمشق في الستينيات، وهو يحمل خلفية معادية لدمشق وتراثها وعمارتها وتاريخها، فرسم مخططاً للمدينة يفقدها معالمها التاريخية ويفصل قديمها عن حديثها، ويجعلها مدينة بلا هوية بلا تاريخ.. ومن مخطط ايكوشار كانت فكرة إزالة منطقة السوق العتيق وتحويلها إلى منطقة منظمة حديثة.
ولن نتحدث عن أهمية السوق العتيق والمنطقة المجاورة وما بقي منها.. فقد يكون فعلاً ما بقي في المنطقة مجرد خرائب، وبؤر أوساخ، وأبنية طينية متداعية لا قيمة أثرية لها.. وما بقي في تلك المنطقة مجرد اسم وذكرى.. ينادي المتشددون بالحفاظ عليها، ويدعون أنها تضم بقايا ذات أهمية أثرية، يدفعهم إلى ذلك تعاطفهم الشديد مع كل قديم. بينما ينادي البعض الآخر بإيجاد الحلول المناسبة لتلك المنطقة بحيث تتم دراستها بشكل متأني والحفاظ على ما يجب الحفاظ عليه، وإعادة تنظيم المنطقة وتجميلها بحيث تبقى منسجمة مع محيطها ودون أن ترمى ذكرى التاريخ إلى مكب النفايات.
ولن نتحدث عن كل ما يقال عن الحرب الشعواء بين تجار العقارات ومن يقف وراءهم وبين الذين يحاولون الحد من جشعهم وخاصة في بعض المناطق التي لها أهمية خاصة، أولئك يتذرعون بضرورة التطوير والتنمية وتنفيذ المشاريع الضخمة، وهؤلاء يصرخون دون أن يسمعهم أحد.. ألم يعد هناك مساحات فارغة إلا تلك التي لها طابع خاص..
ولن نتحدث عن بعض المشاريع المدنية والعادية البسيطة التي تستمر دراستها عدة سنوات، وأحياناً يستمر تنفيذها عدة عقود.. دون الشعور بضرورة السرعة لانهائها لتحقيق أهداف التطوير والتنمية والسياحة وغيرها.. وكيف أن قرار هدم السوق العتيق وتنفيذه لم يأخذ من قبل الجهات المعنية إلا عدة أيام، ليتساءل البعض هل انتهت كافة مشاكلنا مع كافة مشاريعنا (دون ذكر أمثلة) لنصبح من الأمم التي تنفذ مشاريعها بسرعة البرق.
ولن نتحدث، والحديث موجه إلى مديرية الآثار، عن مئات المواقع الأثرية الهامة التي تنتظر عشرات السنين (بسبب قلة الكوادر الفنية والإمكانيات المادية) الفرصة المناسبة لدراستها وتوثيقها وتنقيبها والتفكير بطريقة تأهيلها وتوظيفها.. ولن نتحدث، والحديث موجه إلى محافظة مدينة دمشق، عن مئات المواقع الهامة في المدينة التي تنتظر عدة سنوات لمعالجة وضعها كالطرقات والأرصفة والصرف الصحي والأبنية والمناطق العشوائية وغيرها.. لتحدث معجزة ويوضع السوق العتيق على رأس أولويات مديرية الآثار ومحافظة مدينة دمشق بحيث تستنفر كل القوى لاستئصال هذه الظاهرة التي تؤرق البعض.
نحن مع هدم منطقة السوق العتيق، فيما لو ثبت أنها ليست جديرة بالمحافظة عليها..
ونحن مع تطوير المنطقة وتحسينها وتجميلها لأنها تقع في قلب مدينة دمشق..
ونحن مع سياسة التنمية والتطوير السياحي والعمراني..
لكننا لسنا مع طريقة التنفيذ.
كان من الواجب دراسة المنطقة بهدوء من جميع النواحي، ومن قبل عدة متخصصين في التاريخ والآثار والعمارة والفنون وتنظيم المدن.. ولا بأس باستشارة جهات علمية متخصصة بمثل هذا النوع من المشاريع، وعرض النتائج على كافة المهتمين من مواطنين ومثقفين وذوي علاقة.. وتعديل الدراسات مرة ومرتين وعشرات المرات.. حتى الوصول إلى نتيجة واضحة، إن لم يوافق عليها الجميع فعلى الأقل نتيجة مبنية على أسس منطقية ودراسات منهجية لها مبرراتها ومعطياتها التي اعتمدت عليها.. لا أن ينفذ المشروع بطريقة سريعة دون أي دراسات مسبقة مع معرفة الجميع بأهمية المنطقة وحساسيتها..
إن دراسة مخطط تنظيمي لقرية صغيرة يستغرق عدة سنوات، ويعرض للمناقشة والتعديل عدة مرات، ولا يصدر إلا بعد أن يكون قد أخذ حقه من الدراسة.. فكيف بمنطقة حساسة في قلب مدينة لها أهميتها التاريخية عبر كل العصور..
كان من الممكن إيجاد طريقة منطقية وحضارية لتنفيذ هذا المشروع بشكل يحافظ ولو على أجزاء صغيرة من المنطقة تشير فقط إلى أنه كان هنا شيء ما.. ويمكن هدم ما يجب هدمه، وإضافة ما يمكن إضافته بطريقة ذكية تربط بين الماضي والحاضر، ترضي الغيورين على تلك الخرائب بصفتها إحدى ذاكرات دمشق كما يقولون، وترضي الغيورين على تطوير وتجميل تلك المنطقة بصفتها قلب مدينة دمشق.. لا أن يتم العمل كما حدث، وكما وصف بأنه مجزرة نفذتها جرافات محافظة دمشق بمباركة مديرية الآثار لتقام شبه حديقة حولت المنطقة إلى فراغ يقف البعض أمامه يبكي على التاريخ المفقود، بدلاً من أن يقف الجميع أمامه يعجب بذلك التنظيم الجديد الذي أخذ بعين الاعتبار كل المعايير..
لا نلوم محافظة مدينة دمشق، فلها وجهات نظرها الخاصة بشؤون التنظيم والتطوير وهي في النهاية ليست مسؤولة (على الأقل وظيفياً) عن تحديد أهمية المواقع الأثرية وطرق التعامل معها.
لكننا نلوم المديرية العامة للآثار والمتاحف، التي أوكلت لها أمانة حماية المواقع الأثرية ويبدو أنها ليست قادرة ضمن كوادرها الحالية على القيام بهذه المسؤولية.. لن نتهم أحداً جزافاً، ولكن من حقنا التساؤل كيف تصدر المديرية قراراً في عام 2004 تعتبر فيه منطقة السوق العتيق منطقة أثرية، وفي عام 2006 تصدر المديرية قراراً بطي القرار السابق. ليس من حقنا أن نتدخل بعمل مديرية الآثار، فمن حقها وحدها تحديد المواقع الأثرية، ولكن من حقنا أن نتساءل ماذا تغير خلال عامين لتناقض مديرية الآثار نفسها بهذه الطريقة الفاضحة والمخجلة.. طي القرار القديم يعني أنه كان خاطئاً، أو أن مستجدات قوية ظهرت على الساحة، أو أن تدخلات قوية فرضت نفسها.. أو أن مديرية الآثار تمارس دورها دون أي مسؤولية تجاه الغير ودون أي تفكير بنتائج قراراتها، فاليوم تصدر قراراً وغداً تغيره وبعد غد تصدر قراراً آخر وهكذا، حتى أصبحت كل الجهات تنظر إليها على أنها مؤسسة غير مسؤولة عن قراراتها، وغير قادرة على القيام بمهامها الموكلة لها، وغير قادرة على التفكير بجدية بالمواضيع المطروحة عليها.. لذلك لا بد من تجريدها من تلك الحقوق تدريجياً، وفرض رأي الجهات الأخرى عليها، أو قيام تلك الجهات بتجريد المديرية من صلاحياتها، وقد يكون من المفيد هنا تأكيد وجهة النظر الأخيرة بالاتفاق الذي تم بين مديرية الآثار ووزارة السياحة حول إدارة المواقع الأثرية والذي يمكن اختصاره بعبارة واحدة هي تنازل جديد من مديرية الآثار عن أحد واجباتها أو حقوقها الذي حفظه لها قانون الآثار السوري، وسيكون لهذا الموضوع بحث قادم.
في النهاية دعوة إلى كل المهتمين بتراث هذا الوطن وتاريخه، إلى كل المهتمين بالمحافظة على دمشق وغيرها من المدن القديمة في سورية..
إلى كل المهتمين بالتراث وتغيير النظرة التقليدية إليه على أنه مجرد المحافظة على الأبنية الأثرية في بعض المناطق..
إلى كل المهتمين بالتحديث وتغيير النظرة القاصرة إليه على أنه مجرد إضافة كتل اسمنتية دون هوية ودون طراز يمت للمدينة بصلة..
وإلى كل الجهات العلمية والرسمية والبلدية، ممثلة بمديرية الآثار، والسلطات البلدية، وكليات العمارة والفنون، والتجمعات المحلية في كل منطقة..
أوقفوا هذه الطريقة العشوائية بالتعامل مع المواقع الأثرية بحجة التطوير والتنمية.. وأعطوا لكل منطقة حقها بالدراسة المتأنية المتكاملة للوصول إلى أفضل الحلول.. ولا تكرروا التجربة في شارع الملك فيصل، أو في حي الحمراوي، أو في ساروجة.. ولا حتى في بقية المدن السورية، في عمريت أو أرواد أو غيرها.. فليس من المعقول عدم وجود إلا وجهتي نظر فقط، وجهة نظر المتشددين بالحفاظ على الآثار ومن يقف إلى جانبهم من المتعاطفين، ووجهة نظر المطالبين بمشاريع التطوير والتنمية في المواقع الأثرية دون أخذ أي اعتبار للجانب التاريخي أو التقليدي أو حتى ذكريات الشعوب.
ونداء أخير إلى القائمين على المديرية العامة للآثار والمتاحف، المؤتمنين على تاريخ الوطن وتراثه وآثاره وهويته.. مارسوا دوركم بمصداقية، ودون الخضوع إلى تأثيرات الجهات الأخرى سواء كانت بلدية أو صناعية أو تجارية أو عقارية أو سياحية أو غيرها.. فالحياة موقف، وإن لم تكونوا قادرين على اتخاذ المواقف العظيمة فلا بأس بأن تفسحوا المجال لغيركم.
الجمل
التعليقات
نشكر لكم هذا
في الحقيقة وحسب
"أوقفوا هذه
الى الدكتور عبد
الى مقالة نشكر
إضافة تعليق جديد