قصة مشروع يستيقظ بعد ثلاثة عقود من قرار رئيس الجمهورية بمنعه
الجمل- غازي أبو عقل: لئن كانت مصر هبة النيل فإن دمشق ليست هبة بردى فحسب بل هبة نبع الفيجة، بخاصة بعد أن جُرَّ إلى أحيائها وجرى ماؤه فيها كالدماء في أوعية الجسد. لهذا السبب أمسى تعرض النبع لما يؤذيه يشكل أذىً مباشراً للسكان «أقدم مدينة في التاريخ ما زالت مسكونة دون انقطاع» إذا استثنينا الجفاف وتناقص الثلوج، لم يتعرض نبع الفيجة إلى مخاطر جدية، بحدود معرفتي، إلا منذ نحو ثلاثة عقود من السنوات.
في هذه السطور حكاية تَعرُّض «الفيجة» إلى خطر التلوث، وكيف جرت عملية الإنقاذ بالتفاصيل المُملَّة. أروي هذه الحكاية من موقع الشاهد الذي رأى بأم عينيه أكثر هذه التفاصيل.
بدأت الحكاية بمشروع تشجير جبل قاسيون وفتح الطرق فيه، وتَبَلْوُرِ فكرة تجاوز الزحام في مدخل دمشق الغربي عبر الوادي الواصل بين الربوة ودُمَّر، بشق طريق على السفح الغربي لقاسيون. أثناء تنفيذ الأعمال اقتُرِحَ استكمال العمل وتخفيف العبء عن سهل الزبداني بالوصول إلى بلودان من شمال غرب قاسيون عبر هريرة وإفري وسفوح التلال الشرقية المشرفة على مضايا وبقين حتى بلودان.
يومها أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد توجيهاً إلى وزير الدفاع بشأن دراسة الطريق وتنفيذه. فأمر السيد الوزير بإحداث شركة في إطار إدارتي الأشغال العسكرية والمهندسين العسكريين تُكلف بمهمة إنجاز الطريق دراسةً وتنفيذاً.
يبدو أن عامل السرعة لعب دوراً في نوعية دراسة محور الطريق، فلم يُعهد بدراسة المحور إلى جهة صاحبة خبرة، فاندمجت الدراسة والتنفيذ والإشراف والمراقبة في جهة واحدة مع ما يحمله هذا الاندماج من احتمالات الخطأ.. فكيف لا تنتبه الجهة المسؤولة إلى أن الطريق يجتاز حوض مياه الفيجة وحوض نبع بقين (يبدو من أقوال ذوي الخبرة أن النبعين غير مشتركين بحوض وحيد).
كانت مؤسسة مياه نبع الفيجة أول من علم بمشروع الطريق لدى رؤية الآليات الهندسية وقد بدأت تعمل على شقّه. فبادر مديرها العام يومئذٍ –السيد رضا مرتضى- إلى كتابة تقرير إلى مجلس الوزراء لافتاً النظر إلى المخاطر المحتملة على حوض المياه الذي تشرب منه دمشق. كنت في تلك الأيام، أواسط سبعينات القرن العشرين، مديراً لمؤسسة معامل الدفاع التي كُلِّفت فجأة بإقامة منشأتين على كل من نبعي بقين والدريكيش لتعبئة مياههما، وأُحدثت لهذا الغرض لجنة خاصة برئاسة مدير المؤسسة عرفت بلجنة استثمار المياه المعدنية، ضمت الدكتور محمد هواري من كلية الصيدلة، والدكتور فارس شقير رئيس قسم الجيوفيزياء من جامعة دمشق، والمقدم سعدي حمامي مدير معمل الديماس للأدوية التابع لوزارة الدفاع، والمهندس أكرم شبيب كبير مهندسي مؤسسة معامل الدفاع.
على أية حال، يستحق موضوع تكليف مؤسسة معامل الدفاع باستثمار المياه "المعدنية"، ومراحل العمل في هذا المشروع وما مّرَّ به من مشاكل، حكاية خاصة مكانها ليس هنا. فالأفضلية لحكاية طريق قاسيون – بلودان.
مع أن "معامل" الدفاع –كما يدل عليها اسمها- واحدة من أجهزة معامل الدفاع، مثل إدارة الأشغال العسكرية وشركة تنفيذ طريق بلودان المنبثقة عنها، إلا أن "المؤسسة" لم تعرف بموضوع الطريق الذي سيصل إلى محيط حوض بقين إلاّ عرَضَاً. ففي ذات يوم كنت أتفقد معمل تعبئة مياه بقين، وكان قد بدأ الإنتاج، وأتحدث مع مديره يومئذٍ (الرائد محمد عبد الهادي آت) في باحة المعمل، رأينا على قمة التلال المشرفة على سهل الزبداني من الشرق، غباراً كثيفاً بدت من خلاله آلية هندسية ضخمة تعمل على إزاحة التربة، وقدَّرنا أنها قريبة جداً من سور الأسلاك الشائكة الذي يطوق منطقة حماية النبع في دائرة محيطها خمسة كيلومترات، أرسلنا من يستطلع ما يجري، ولما عاد فهمنا منه أن "البولدوزر" يعود إلى «الأشغال العسكرية»، شركة شق طريق بلودان. بهذه المصادفة علمنا بأمر الطريق يعد أن كاد يصل إلى غايته، بلودان من جهة الشرق.
طلبت مقابلة وزير الدفاع، وفهمت منه أن السيد الرئيس أمر بشق الطريق، فسألته ألم تعترض مؤسسة مياه الفيجة، فنفى علمه بذلك يومئذٍ. فذهبت لمقابلة مديرها وقال لي أنه بعث اعتراضه في تقرير إلى رئيس مجلس الوزراء ولم يتلقَّ رداً، فسألته منذ متى أرسل التقرير، فأجابني من نحو ستة أشهر، فأعلمته أن الآليات الهندسية وصلت إلى مشارف بلودان وينبغي العمل بسرعة لتدارك الأمر.
كنت أعرف أن الصديق حسين العودات يعمل في مكتب رئيس مجلس الوزراء الأستاذ محمود الأيوبي يومئذٍ، فذهبت إليه وشرحت له الموقف، طالباً معرفة قرار رئيس الوزراء على مذكرة مدير مؤسسة الفيجة، فتبين أن المذكرة لما تدرس بعد ووعدني الصديق العودات بعرضها فوراً. تحركت القضية بعدئذٍ وعُقد اجتماع في مكتب وزير الدفاع ضم مندوبي مؤسسة المياه ومعامل الدفاع (لجنة استثمار المياه المعدنية) والجهة العسكرية المسؤولة عن الطريق.
احتدم الجدل بين أهل الطريق وبين أهل الماء، هؤلاء يتذرعون بحتمية تعرض النبعين للتلوث ونتائجه الخطيرة وأولئك يتذرعون بضرورة تنفيذ أمر الرئيس القائد العام وتخفيف الازدحام عن مدخل دمشق الغربي. وتشبث كل طرف بموقفه فاقترح ممثلو مؤسسة الفيجة الاحتكام إلى خبرة أجنبية تضع الاحتمالات كلها في الميزان وتقترح الحل.
منذ بدايات إنشائها تتعاون مؤسسة الفيجة مع جهة فرنسية ذات خبرة كبيرة في موضوع المياه. ويعرف خبراء الجانب الفرنسي منطقة الفيجة معرفة دقيقة، وطلب مندوبو الفيجة إلى الاجتماع الاستعانة بالخبرة الفرنسية. وافق الحاضرون على الاقتراح، إلا أن أحداً لم يقبل تحمل نفقات دعوة اثنين من الخبراء الفرنسيين لدراسة الإشكال وتقديم الحل، لأنه لا توجد مخصصات.
عندئذٍ اقترحت أن تتحمل معامل الدفاع هذه النفقات، وقّدّرت أن بطاقتي سفر بالطائرة من باريس إلى دمشق ذهاباً وإياباً على الخطوط السورية، ونفقات إقامة شخصين في واحد من فنادق دمشق قبل ظهور ذوات النجوم التي تساوي أو تزيد على أصابع اليد، مع "إكرامية" الخبيرين لن تشكل رقماً مهماً أمام خطورة المسألة المطروحة.
(إذا لم تخني ذاكرتي فإن فاتورة تلك الخبرة لم تصل يومئذٍ إلى ثمانين ألف ليرة سورية).
المهم جاء الخبيران، وما زلت أذكر اسم أحدهما البروفيسور Sauvager الذي كان لفترة طويلة واحداً من خبراء الأمم المتحدة في مسألة المياه. وقاما فوراً بجولة مطولة على منطقة العمل والتقيا المسؤولين التنفيذيين ووضعا مشروع الحل.
عقد اجتماع حاسم في مكتب وزير الدفاع بحضور "أطراف النزاع" وكنت المترجم "المحلّف" لذلك بقيت في ذاكرتي صورة موضوعية عما جرى فيه.
توجه الجانب الفرنسي بسؤال أولي إلى أهل الطريق مؤَداه: هل اطلعتم أو استعنتم بالخريطة الجيوفيزيائية لمنطقة العمل، لدى دراسة محور الطريق؟ صمتَ أهل الطريق صمتاً أقلق الخبيرين الأجنبيين، فما كان من السيد «سوﭭاجيه» إلا أن أخرج من حقيبته تلك الخريطة وفرشها أمام الحضور، وبدأ شرحاً دقيقاً عن جيولوجية حوض المياه، وعن الفالق البازلتي الحاجز بين وادي بردى وبين حوض الفيجة الممتد طولاً إلى تخوم النبك وقارة، والذي يتغذى من الثلوج التي تهطل على تلك المرتفعات، أكثر من اعتماده على الأمطار. ونَوّه بأن الحوض يكاد يكون خالياً من مصادر التلوث، فلا صناعات ولا طرق ولا نشاطات زراعية وبشرية كثيفة، حيث لا تمثل هريرة وإفري إلا احتمال تلوث لا يكاد يذكر. وتساءل الخبير الفرنسي عن الحكمة في جعل الطريق يخترق هضبة حوض الفيجة بينما الأفضل توسيع الطريق التي تجتاز وادي بردى أو "صحراء" الديماس.
هنا تدخل الضابط مدير مشروع الطريق، (وهو العقيد المتقاعد محي الدين الحجار) من قُدامى سلاح المهندسين وكان وهو برتبة ملازم أول قد أُوفد لمدة عام دراسي إلى مدرسة المهندسين العسكريين في فرنسا، وسأل الخبيرين الفرنسيين: أليس في ﭭيسي الشهيرة بمياهها المعدنية طُرقاً؟
رد السيد سوﭭاجيه: صحيح يوجد في ﭭيشي طرقات، ولكن بصرف النظر عن اختلاف طبيعة المكانين، هل لديك فكرة عن الأعمال الهندسية التي نُفذت هناك منذ أواخر القرن التاسع عشر لحماية الينابيع؟ وهل تعرف أن بعضها تم إكساؤه حتى عمق تسعين متراً بآبار من الإسمنت المعالج بشكل خاص تصل سماكة جدرانها إلى المتر، بالإضافة إلى تدابير أخرى فرضتها جغرافية المكان؟
طبعاً ما كان بين الحضور من يعرف، مع أن بعضهم شرب مراراً مياه ﭭيشي المعبأة. لما اكتشف الخبيران الفرنسيان الارتجال وعدم المعرفة في دراسة الطريق وتنفيذه تغيرت لهجتهما. فسألا مدير المشروع: إن وجود الطريق في أي مكان ما يجذب البناء وما يجره من تلوث حتى بوجود شبكات صرف صحي فكيف بغيابها؟ ولما قال مدير المشروع وأيده بعض الحاضرين: سنمنع البناء، قلت لهم لنفترض أن الجهة الفلانية وغيرها استفادت من وجود الطريق وأقامت معسكرات تدريب شتوية وصيفية فمن سيمنعها؟ عاد السيد سوﭭاجيه إلى التدخل قائلاً: نفترض أن صهريجاً ينقل وقوداً إلى الزبداني أوبلودان أو غيرهما تعرض أثناء سيره على الطريق إلى حادثة مرور، أو أن جراراً زراعياً يسحب وراءه خزان مازوت سعته ألف ليتر تَعرَّض إلى اصطدام، فهل تعرفون إذا تسرب المازوت إلى التربة وبالتالي إلى الماء كم تبقى مادة الفينول PHENOL فيهما؟ إنها تحتاج إلى أكثر من سبعين سنة لكي تزول آثارها وطعمها من الماء.
أمام صمت الحاضرين الذي كشف عن تفكيرهم بالآثار الكامنة بعد تنفيذ أي عمل، وهي قاعدة معروفة في علم إدارة المشاريع، توجه السيد سوﭭاجيه إلى العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع ورئيس الجلسة بكلمات ما زال صداها يرن في مسمعي إلى اليوم: "إكسيلانس، عليك أن تختار بين الطريق وبين دمشق". فرد العماد فوراً: "أختار دمشق". بعد هذا القرار الحاسم أسهب الخبيران الفرنسيان في شرح تمتع دمشق دون كثير من عواصم العالم بالشرب من مياه نبع طبيعي بعيد عن مصادر التلوث، وشددا على ضرورة اتخاذ كل إجراء لحماية هذا الكنز، واستهجنا جذب التلوث إلى حوض المياه عبر إقامة طريق سيؤدي حتماً إلى إقامة المساكن والمزارع وحوادث المرور وإلى ما لا يحصى من مسببات التلوث.
بعد انفضاض الاجتماع أعلم وزير الدفاع السيد الرئيس بما دار فيه. وبعدئذٍ اتصل بي اللواء زهير غزال من القصر الجمهوري وسألني عن موضوع الطريق وطلب مني الحضور إلى مكتبه مزوداً بخريطة الطريق وتقرير عن الاجتماع استناداً إلى تعليمات السيد الرئيس. ذهبت في الموعد المحدد وعرضت الأمر من بدايته إلى نهايته وتركت لدى اللواء غزال الوثائق الضرورية لعرضها. وبعد مدة وجيزة اتصل بي وأعلمني أن السيد الرئيس أمر بوقف العمل في الطريق فوراً وصرف النظر عن المشروع.
زال الكابوس عن المؤسستين العامتين اللتان تستثمران نبعي الفيجة وبقين. ولكن جهات ما على ما يبدو لم يعجبها قرار السيد الرئيس. والدليل بعد أسابيع انقضت على توقف المشروع علمت أن خريطة مشروع الطريق التي وصلت إلى مجلس الوزراء مع تقرير مدير عام الفيجة على الأرجح لما اعترض على المشروع ولم يتلق رداً، هذه الخريطة قد اختفت من الملف بعد عدة أسابيع، وأن عمليات شراء أراضي تجري في الخفاء. لم أعر الأمر أهمية لأن قرار السيد الرئيس كان حاسماً.
بعد عدة أشهر على صدور القرار عاود اللواء زهير غزال الاتصال بي طالباً حضوري إلى مكتبه مع وثائق الطريق، فدهشتُ وذهبت إليه، وأعاد سؤالي عن ملابسات الموضوع، فأعدت شرح معلوماتي التي لم تتغير بالطبع. كما ذكّرتهُ بأنني شرحت له كل شيء منذ أشهر. على أية حال، سرعان ما اتصل بي مُجدِّداً قرار السيد رئيس الجمهورية بإلغاء الطريق.
هناك نقطة تفصيلية تؤكد حدوث عمليات شراء الأرض من أصحابها الذين كانوا لا يعرفون ما سيجري في جوارهم. ففي معمل تعبئة بقين وُجد بعض العمال العاديين من سكان هريرة وإفري، وكانوا يتهافتون على العمل هناك، ولو موسمياً بسبب فقرهم. وذات يوم كما حدثني مدير المعمل، جاء واحد من هؤلاء العمال مقدماً استقالته، فتعجب مدير المعمل لمعرفته بحاجة هذا العامل إلى مصدر دخله، ولما سأله لماذا تريد الاستقالة؟ أجابه: عندنا بعض "القصبات" من الأرض في القرية بعناها بثمن جيد لذلك أريد الاستقالة.
بعد صدور قرار رئيس الجمهورية الأول سألني واحد من المطلعين على بواطن الأمور: هل تعرف من اشترى أراضٍ قبل بدء العمل بالطريق؟ أجبت فعلاً لا أعرف.. ضحك وقال لي: خير لك ألا تعرف.. والحقيقة أنني لم أسأل ومازلت لا أعرف.
عادت هذه الحكاية إلى ذاكرتي بعد أن قرأت منذ أيام في صفحتنا المحلية نبأ عودة حكاية الطريق إلى بلودان عبر حوض الفيجة وبقين. وأن هناك من اقترح بناء نفق أو أكثر على بعض أقسام الطريق لمنع البناء.
أود تذكير هؤلاء أن السيد رئيس الجمهورية الراحل الذي أمر بشق الطريق أمر هو نفسه بإلغائه مرتين بعد أن اتضح له مدى الضرر بل الكارثة الكامنة من وراء هذا المشروع المؤذي..
الجمل
التعليقات
المعهد العالي للدراسات و البحوث ال
أرجو أن يصل الأمر للدكتور بشار
إضافة تعليق جديد