مركز بومبيدو: 30 عاماً على افتتاحه
يحتفل «مركز بومبيدو» الثقافي بذكرى ميلاده الثلاثين. افتتحه عام 1977 الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان وزوجة الرئيس الأسبق جورج بومبيدو صاحب المشروع وهو الذي كان مسحوراً بالفن المعاصر. فقد ناضل من أجل بناء المركز منذ أن كان رئيساً للوزراء في عهد شارل ديغول، وبالتحديد منذ عام 1962، وأصبح القرار رسمياً عام 1969. موقعه في قلب باريس القديمة، في سوق الهال الذي هُدم عام 1936 بسبب تلويثه العاصمة.
وصية بومبيدو اكتملت بتعيين لجنة تحكيم دولية مؤلفة من عشرة أعضاء (تضمه أيضاً) وذلك من أجل امتحان مشاريع المسابقة العالمية. واختير المشروع الناجح من أصل 686 مشروعاً، وهو المشروع الذي صممه مهندسان شابان هما: رانز بيانو وريشار روجير وذلك بإجماع تسعة أعضاء من أصل عشرة من اللجنة.
تناغم المشروع المنتخب مع طموح بومبيدو الى جعله مركزاً نموذجياً في العمارة والوظيفة للمعاصرة والحداثة المستقبلية، لافتاً في أكثر من مناسبة الى ضرورة حفاظ باريس على طليعيتها في هذا الميدان، وانه يشعر بالأسى لانتقال هذا الدور الى وراء البحر.
وعند خطب في المجلس النيابي قبل انتزاع القرار بإنشائه اعترف بأن «المشروع مكلف لذلك من الواجب إنجازه خلال سنوات كافية، ولكنه إذا نجح من الناحية التثقيفية فسيكون أكبر تعويض».
كان بومبيدو تخيله مسبقاً مركبة فضائية تهبط في الحي القديم تمثل ساحة بحوث تجريبية وهي متحف الفن المعاصر (الذي يحوي اليوم 35 ألف قطعة فنية ولا يوازيه عالمياً سوى متحف نيويورك)، والمكتبة العامة (التي ارتادها حتى اليوم أكثر منه خمسين مليون زائر)، ومركز بحوث للموسيقى المعاصرة، ومركز بحوث سينمائي.
عكست العمارة هذا الهاجس بطرد الباحة من داخل العمارة الى خارجها، لتصبح على احتكاك بالجمهور العابر، والمسرح التجريبي الإيحائي وسواه، أو شتى أنواع «البرفورمانس».
اختار بومبيدو في شكل مبكر مديراً للفن المعاصر هو روبير بورداز بسبب سعة نشاطه في المعارض الشمولية التي عرف بها ما بين أوروبا والولايات المتحدة.
لعل أبرز صفة لعمارته اليوم أنها النموذج الصريح في «الطراز الوظيفي». فهي عمارة من دون جدران بألوان أربعة تعبر عن وظيفة، فهي أشبه بالأحشاء الأنبوبية التي لا تخجل من الاستخدامات والخدمات الظاهرة، تتحرك المصاعد ضمن ميكانيكية معاصرة، متقاطعة مع المسار المائل للواجهة التي يقطعها السلم الكهربائي للطبقات الخمس. يتمتع الزائر بإطلاله على أجمل حنايا باريس القديمة. يتصل بالبناء «محترف برانكوسي» إضافة الى بحيرة سترافنسكي المقابلة للكنيسة الغوطية، تعربد في صفحة مائها الوحوش الميكانيكية التي تتحرك بسخرية، والتي أنجزها النحاتان تانغلي ونيكي.
عمارة المركز متحركة تتأقلم حواجزها مع «سينوغرافية» العرض.
وتوفي بومبيدو عام 1974، ولم ير مشروعه النور بعد، فأُطلق اسمه على المركز وأنجز الفنان فازاريلي صورة له بأسلوب الفن البصري تحولت رمزاً عاماً مع الأيام، أي ان مركز بومبيدو أخذ هذا الاسم بعد وفاته وليس أثناء حياته.
لم يلق أي مشروع في ذلك الوقت النقد الذي عانى منه هذا المركز، فقد تحالف اليمين المتطرف واليسار المتطرف في معارضته: الأول باعتباره يتناقض مع العمارة التقليدية للحي، والثاني بصفته «نخبوياً حتى الفضائحية».
توقف المشروع بعد وفاة بومبيدو بسبب الدعوى القضائية المقامة ضد تشييده بصفته تشويهاً للمدينة، ولكن المشروع تجاوز هذه المحنة لاحقاً بإعادة تأهيله أقساماً من النسيج العمراني في المنطقة بحيث يتأقلم مع العمارة التقليدية والحديثة. وكأنه بذلك اعتمد على تسجيل أصداء عمارة المركز في نسيج المدينة القديمة.
لا شك في أن الاحتفال بذكرى افتتاحه اليوم يعتبر حدثاً ثقافياً يتناغم مع اعتباره أهم متحف للفن المعاصر، يتجاوز في سلطته دوكومانتا (ألمانيا) وبينالي فينيسيا (إيطاليا) وسواهما.
ولكن تضيق اليوم مساحته على طموحاته بعد ثلاثين عاماً من تضخم برامجه، فقد كرس منذ البداية 15 ألفاً من الأمتار المربعة للمجموعة الدائمة وخمسة آلاف للمعارض الموقتة وعشرة آلاف للمكتبة، لذلك يبدأ المركز اليوم في التمدّد خارج عمارته بنقل بعض أقسام الموظفين (1350 موظفاً).
من هنا أتت خطة نقل قسم منه الى شنغهاي (الصين) وذلك على خطى مشروع متحف اللوفر في أبو ظبي.
أسعد عرابي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد