ما يسمى «حرباً اهلية» في العراق حرب الجميع ضد الجميع

25-05-2007

ما يسمى «حرباً اهلية» في العراق حرب الجميع ضد الجميع

شيء ما بدأ يتبدّل في التعامل الأميركي مع العراق.
هذا «الشيء ما» تصفه «واشنطن بوست» بأنه «استراتيجية معدلة للحرب» تهدف الى تسويات سياسية مع القوى المعارضة للاحتلال.
انه انعطاف يبدو, للمرة الاولى منذ اربع سنوات, حقيقياً, وهو بمثابة اعتراف صريح بأن سياسة «اعتقل او اقتل» التي اعتمدتها ادارة جورج بوش طوال السنوات الاربع فاشلة, واذا كان استخدام القوة ضرورياً فضروري ايضاً التفاوض مع الأطراف الراغبة في التفاوض واشراكها في صناعة المستقبل العراقي.
في مواكبة هذا الانعطاف الذي بات يعرف بإعادة تقييم «الخطة الأمنية الجديدة» يتزايد الحديث عن احتمال تبديل نوري المالكي €ومن معه€ إذا ما واصل تجاهل مطالب الاحتلال المتكررة بحل الميليشيات الشيعية وتطهير بعض الوزارات من القيادات التي تمارس التحريض الدائم على العنف الطائفي.
الأيام والأسابيع المقبلة سوف تحمل الدليل الميداني على هذا التحوّل, في الوقت الذي بدأت الفجوة تتقلّص بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في التعامل مع الخطة البوشية لتمويل الحرب التي تم التصويت عليها من دون عقبات.
لماذا هذا الانعطاف بعد تردد طال؟
لن ندخل في تعداد ممل للاملاءات التي دفعت واشنطن الى تغيير سلوكها العراقي قبل حلول الكارثة, لكن ما يبدو واضحاً جداً هو ان العراق تحوّل بقوة الى قضية اميركية داخلية, ومثلما دخل انتخابات الكونغرس بالأمس القريب هو يقتحم اليوم الانتخابات الرئاسية التي لم تعد بعيدة, والاميركيون جمهوريين وديمقراطيين باتوا يشعرون بأن هذه الحرب ليست حربهم, وبأن الفاتورة باهظة جداً ولو ان صدام حسين كان هدفاً سهلاً في البداية.
واضح ايضاً ان الاميركيين الذين يصرون على ان يروا العالم من خلال نظرتهم الخاصة اليه باتوا يسلّمون بأن ما يصلح للولايات المتحدة والدول الغربية لا يصلح بالضرورة للديمقراطيات الشرقية او العربية ­ الاسلامية. الدليل ان واشنطن تريد الديمقراطية لكنها ترفض نتائجها, كما حدث بالأمس في الجزائر, وبالأمس القريب جداً في الاراضي الفلسطينية, وكما سوف يحدث في تركيا بعد شهرين, وكان يمكن ان يحدث في مصر... وغيرها . كثيرون هم صانعو القرار الأميركيون الذين باتوا يقولون ان العالم العربي يسير نحو الحداثة على طريقته ولا بدّ ان نتركه يقرر اي مجتمع يريد واي نظام يريد في هذه المرحلة من تاريخه, واذا كانت الحداثة تجلب الديكتاتورية لردح من الزمن, واذا كان الاسلام يلعب دوراً في صياغة بعض الضوابط الاجتماعية, فلا بدّ من التسليم بهذه الحقيقة وتلك, في انتظار ان تقرر النخب السياسية العربية اي ديمقراطية تريد في النهاية.
وللانعطاف الاميركي اسباب اخرى نذكر منها ان الخطط السياسية والامنية التي طبقت في العراق حتى الآن فشلت فشلاً هائلاً, حتى وصل اليأس بالأميركيين الى الاستعانة بالجدران العازلة والاسلاك الشائكة بين حي وآخر داخل بغداد. و«المنطقة الخضراء» باتت تحت رحمة زخات الصواريخ وقذائف المقاومة €وآخر الشهود عليها بأن كي مون وديك تشيني€, واعضاء البرلمان يتعرضون للتفتيش عند دخولهم هذه المنطقة عن طريق الكلاب البوليسية فضلاً عن قوات الحماية الأميركية, وحتى المسؤولون الحكوميون يحاذرون دخول مكاتبهم احياناً... وكل هذا يعني ان الاحتلال وأعوانه صاروا في حاجة الى قوات احتلال رديفة تحميهم من خططهم الامنية البائسة التي أدخلت العراق في حرب اهلية غير تقليدية, متداخلة ومتشابكة ومعقدة الى حد بعيد.
ما يسمى «حرباً اهلية» في العراق ليس حرباً بين السنة والشيعة, او بين العرب والاكراد, او بين الاكراد والتركمان. انها حرب الجميع ضد الجميع, وحرب بين الشعب والاحتلال في الوقت نفسه, وبين الذين يدخلون العملية السياسية والذين يعارضونها, وبين الارهاب والقوى الرافضة له... وهي حرب يلعب فيها امراء الطوائف دوراً كبيراً, ودول الجوار دوراً آخر, و«الموساد» دوراً غير مرئي لكنه ذو تأثير مباشر في القرار الأميركي.
هل يقود الانعطاف الأميركي في النهاية الى إعادة بناء العراق على أسس اكثر توازناً واكثر واقعية؟
الجواب لا يزال صعباً حتى اللحظة لأن الاخطاء التي ارتكبت مركبة والعراقيون تربوا منذ عقود طويلة على ثقافة رفض الاحتلال والولاء للاجنبي, والمخرج الوحيد من الورطة هو ان يحكم العراق في النهاية ابناؤه الليبراليون المعتدلون الذين يؤمنون باستقلاله وسيادته ووحدته ويرفضون كل اشكال الاحتلال والتقسيم, وان تخرج القيادات التي تستعين بالاحتلال من اجل ممارسة «حقها» في اضطهاد فئات واسعة من العراقيين. ومعركة ما بعد خروج الاحتلال قد تكون اكثر قسوة من معركة التحرير في حد ذاتها, لأنها مواجهة مريرة مع المتطرفين والتكفيريين والعنصريين الذين يرفضون «الرأي الآخر» ويصرون على سياسة الالغاء والالغاء المتبادل.
بلوغ هذه المرحلة لا يزال بعيداً لسببين على الأقل: الاول ان الديمقراطيين الاميركيين لا يسعون الى انسحاب نهائي من العراق, وانما الى ضمان انكفاء الجيش الاميركي الى داخل قواعده والتخلي عن دور الشرطي في الشارع. والثاني, الأكثر اهمية, هو ان عدداً غير قليل من جنرالات البنتاغون لا يزالون يعتقدون ان جورج بوش على حق, وانه «في الحرب لا توجد جائزة لمن يحتل المرتبة الثانية في السباق» ومن الخطر «الدخول في حرب من دون امتلاك العزيمة الكاملة لكسبها», وهنا وجه الخطورة الحقيقية على مستقبل العراق. والتاريخ, في اي حال, لا ينظر بعين الرأفة الى الحروب المحدودة التي لا تحسم الحرب ولا تحقق الانتصار. هؤلاء الجنرالات يعتقدون ان مشكلة اميركا في العراق في انها تخوض مجموعة حروب ضيقة ومحدودة منذ اعلنت «انتهاء الحرب» في حين ان المقاومين يخوضون حرباً شاملة بلا قيود اقتناعاً منهم ان ما هو غير اخلاقي فعلاً في الحرب هو الحرب نفسها واذا ما حاول أحد أنسنتها فانه سيخسرها في نهاية المطاف.
وفي انتظار نتائج «الانعطاف» سوف يظل العراق جحيماً.


فؤاد حبيقة
المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...