ما بعد الإسلاموية... الأسلمة والتعدد
رغم أن أطروحة أوليفيه روا حملت عنوان «نحو إسلامٍ أوروبي» (تعريب خليل أحمد خليل، دار المعارف الحكمية، 2010) لدراسة الإسلام المهجري الذي يقلق أوروبا اليوم، لكن الإشكاليات التي صاغها، صاحب «فشل الإسلام السياسي» تتخطى آليات اندماج الجاليات الإسلامية في دار الهجرة. بكثير من اللغة العلمية الدقيقة، من حيث توظيف المصطلحات وكثافة النص، يتحرى الكاتب عن التحولات التي مرت بها الحركات الإسلامية في أوروبا، التي ما عاد يشغلها مشروع إحياء الخلافة، واتجهت نحو نمط آخر، قوامه «الإسلامو ـ قومية» الباحثة بدورها عن أسس تماهي الإسلام مع التعدد الثقافي الاوروبي.
تحت سؤال هل يتوافق الإسلام مع العلمانية؟ يقرأ روا «مصاعب دمج المهاجرين من أصل إسلامي في المجتمعات الأوروبية» بناءً على فرضية المواءمة بين العصرانية ـ أو الحلاّنية على حد تعبير عبد الله العلايلي ـ والإسلام، السؤال التالي هل الاستعصاء ثقافي أم ديني؟ لا يتوانى مجايل آلان روسيون عن تخريج الارهاصات الاولى لـ«العصرانية»؛ فالسلطة السياسية التي عرفها الإسلام التاريخي، لم تكن بمنأى عن متطلبات الواقع، وإن كان المعطى الديني أشد حضوراً.
أوليفيه روا المنتسب الى جيل ما بعد الاستشراق، من أمثال جيل كيبل وآلان روسيون وفرانسوا بورغا، يُعد من أكثر البحاثة الفرنسيين اهتماماً بالمتغيرات التي خبرتها الحركات الإسلامية، والتي أوصلتها الى نمط جديد، يطلق عليه صاحب «عولمة الإسلام» مصطلح ما بعد الإسلاموية.
أوليفيه روا، اليساري، والناشط السابق في الشبيبة البروتستانتية، عاصر عن كثب أزمة الضواحي في فرنسا، ولا يمكن اعتباره من جيل الاستشراق الكلاسيكي، الممثل بماكسيم رودنسون وجاك بيرك وكلود كاهين، إنما يمثل أحد أبرز رواد الدراسات السياسية والاجتماعية، بمعنى أنه لم يدرس الإسلام التاريخي والمصدري، وفق مناهج المستشرقين التقليديين، بل تحرى عن الظاهرة الإسلامية المعاصرة، سوسيولوجياً وأنتروبولوجياً، أو ما يطلق عليه محمد أركون علم الإسلاميات التطبيقية التي تستقي أدواتها من العلوم الحديثة.
يتصدر روا مع فرانسوا بروغا وجيل كيبل وآلان روسيون مبتكر مقولة «العهد الايديولوجي الجديد في ديار الاسلام» الرباعية الفرنسية، التي قدمت قراءات غربية حديثة عن الظاهرة الإسلامية، فتعقبت تطوراتها، سياسياً واجتماعياً، ويمكن اعتباره الأكثر ملاحقة لدراساته مقارنة بزميله كيبل، الذي تلقى طروحات روا حول فشل الإسلام السياسي، وقارن بين الثوريين الشيوعيين ونظرائهم الاسلامويين في كتابه «الجهاد، صعود الحركات الإسلامية وانحدارها». روا الذي وصف الحركات الإسلامية بالتيارات السياسية، خالفه فرانسوا بورغا، فالاخير أدرجها في الاتجاهات الهوياتية المناوئة للاستعمار، والأهم في ما يطرحه هؤلاء الأربعة، موضعة دراساتهم في سياق المناهج الاجتماعية الحديثة.
«ما بعد الإسلاموية» يتصدر هذا مصطلح أطروحة أوليفيه روا «نحو إسلامٍ أوروبي» ويفضي بدوره الى معانٍ متشابكة؛ حركية الإسلام عنده «لا تتلاشى بل تتكيّف مع تطور المشهد السياسي» ؛ و«الانتقال الى السياسي» يقتضي محو التباين بين الاثنيات والأعراق والطبقات، لمصلحة أمة إسلامية متخيلة، أي الدولة ـ الأمة. غير أن الممارسة السياسية أظهرت «إسلاماً سياسياً جديداً» ومتنوعاً، لا يتنافى مع العصرنة ولا يجعل من السلطة هدفه المنشود، كما يلحظ الكاتب، والانتقال «الى الاسلامو ـ قومية» يعني توطيد الديني خارج الهم السلطوي، بمعنى أن الحركات الإسلامية عند روا، عرفت ثلاث مراحل انتقالية في أدبياتها وممارساتها: الدولة ـ الأمة، الاسلامو ـ قومية، الفردانية، والأخيرة أنتجت مفكرين إصلاحيين، وملالي، وأصوليين جدداً. المستفاد من خارطة الطريق التي رسمها روا، أن الإسلام التقليدي تراجع لمصلحة الأسلمة عبر الجمهور، فالدعاة الجدد، والمدارس الدينية والمحطات الفضائية، الآخذة في قولبة الفرد، تنذر بحقبة ما بعد انهيار المشروع السياسي، ما أعادها الى سلفية جديدة، وخطورة هذا المتغير، إخضاعه الحراك المجتمعي للغة الدينية.
على إيقاع العولمة ـ أو التكوير كما ورد في القرآن الكريم، وقد سبق للأب بيار دِ شاردان استعماله في كتابه الظاهرة الإنسانية كما يوضح المعرِّب ـ بدا الإسلام الراهن متنوعاً، وميّالاً نحو القوميات والاثنيات، رغم مركزية الايلاف الاسلامي في خطابه ومرجعياته. والحال هل يمكن الحديث عن إسلامات، عن إسلام الاثنيات أو إسلام الافتراق السُنّي ـ الشيعي؟ الملاحظ كما يلفت روا في كتابه، أن إسلام التعددي بات يمارس عبر أصولييه لعبة «التأكيدات الهوياتية» أي انه يستنهض التنوع العرقي أو الاثني، مخالفاً الاطاريح الكلاسيكية، القائمة على الايلاف أو المتحد الإسلامي.
كيف نتفكر في دمج أقلية مسلمة في تجمع علماني ذي تراث مسيحي ودائماً أكثر ليبرالية وفردانية؟ بناءً على هذه الإشكالية يدخل روا في صلب أطروحته. الإسلام الأوروبي المتبلور خارج «ثقافات المنشأ» إسلام «أقلوي سكانياً وسيبقى كذلك» لكنه إسلام قلق «بدون سلطة سياسية» يبحث عن هويته الدينية في فضاء علماني لا يكترث للدين. والأهم في ما يطرحه روا أن اندماج المسلمين في أوروبا، لا يتأسس على «التطييف الاثني»، ما يعني أنه تخطى الهويات، هويات بلاد المنشأ، بصرف النظر عن الجدل الدائر في الدوائر الاوروبية حول الإسلام الباكستاني أو الهندي أو التركي أو الآسيوي. الى ذلك خلص الكاتب الى أن فتح أبواب الاجتهاد لا يسهم في دمج المسلمين بالحداثة، فالتفكير اللاهوتي/ الفقهي، لا يقدم حلاً لتعدد إسلام المهجر القائم على «تجديد تركيز الدين على الفرد» والقابل لتكييف إيمانه «في الممارسة مع المحيط الجديد»، وعليه تنتج الجاليات الإسلامية في أوروبا علمانيتها الخاصة. فهل انتقل الاسلام الاوروبي الى السياقات الروحية والاخلاقية؟ وهل يعبر هذا الانتقال عن تعثر الاندماج أم انه نسخة منقحة لشمولية الإسلام؟ نحو إسلامٍ أوروبي، يحيلنا الى خلاصات طارق رمضان، مجترح إسلام المحبة، ودار الشهادة، وإنسية الانسان، ما يؤدي الى طرح الفرضية التالية دخول الاسلام الاوروبي في الحقبة التي مرت بها المسيحية الغربية، التي دشنت لاهوتها على الطهورية والخلاص الفردي، لا الجماعي.
«نحو إسلام أوروبي» أطروحة جادة تجبر القارئ على صوغ فرضيات شائكة، تتعدى أسئلة الهوية. وأهميتها تتبلور في تعقب اوليفييه روا للمتغيرات التي خبرتها الحركات الإسلامية في أوروبا وخارج مجالها الجغرافي، بدقة علمية لا تتبنى أدبيات الاستشراق، بل تعمل على التحقق من الظاهرة المدروسة، التي هي فعلاً حقبة ما بعد الإسلاموية.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد