ليبيا تستعيد يهودها
... اتيحت للرئيس الليبي معمر القذافي فرصة مشاهدة المدن الإسرائيلية نتانيا والخضيرة وأور يهودا ومدينة حيفا أثناء احتفالات تقليدية في هذه المدن، ليست غريبة عنه، بل ليبية جداً، وذلك عبر شريط مصور وصله من إسرائيل. الشريط أعدته مجموعة من اليهود الليبيين الذين كانوا هاجروا الى إسرائيل قبل عشرات السنين، ويبحثون اليوم عن الوسائل التي تمكنهم من الوصول الى ليبيا وتضمن حصولهم على تعويضات عن الممتلكات التي تركوها في الخمسينات والستينات.
داخل المغلف الذي وضع فيه الشريط أرفقت شهادات تتحدث بتفاصيل أكثر عن رغبة اليهود الليبيين في زيارة ليبيا. ويؤكد مرسلو الشريط المسجل: «لا نبحث عن المال... نريد أن نزور البلد الذي ولدنا وكبرنا فيه». هذا ما قاله نائب رئيس تنظيم «من أجل يهود ليبيا»، مئير كحلون، الإسرائيلي الذي ساهم في كتابة الرسالة وتحضير الشريط. واسم كحلون بات معروفاً بالنسبة الى القذافي، فهو لا يترك مناسبة تتيح له إمكان إيصال رسالة الى الرئيس الليبي إلا ويجرب حظه فيها. وموقع القذافي على الانترنت مملوء بهذه الرسائل: «أرسلت له الكثير من الرسائل عبر موقعه الخاص. تأملنا أن نتلقى رداً بعد إرسال الشريط المسجل والرسالة ومن بعدها بعثنا برسائل أخرى مباشرة، لكننا لم نتلق أي رد وكل ما نريده هو ان نعلمه بتطور العلاقة بيننا وبين ليبيا من خلال يهود ليبيا في إيطاليا الذين يبذلون الجهود من أجلنا نحن هنا».
كحلون متفائل جداً. وعلى رغم ان التصريحات التي أطلقها القذافي حول التعويضات لليهود الذين طردوا من بيوتهم في ليبيا، ما زالت مجرد تصريحات ويرى بعضهم انها ليست أكثر من ترويج إعلامي، فإن الليبيين في إسرائيل يتناولون الموضوع بمنتهى الجدية ويكثفون هذه الأيام من نشاطهم لضمان طرح قضيتهم في شكل قانوني. ولدى مجموعة كبيرة من اليهود الليبيين في إسرائيل مستندات ووثائق رسمية تثبت ملكياتهم، وفي هذه الأيام تنشغل مجموعة منهم، معظمهم من رجال القانون، بتجميع الوثائق التي تثبت حقهم في الممتلكات في ليبيا لتكون وثائق معتمدة في الملف الذي يعده «التنظيم من اجل يهود ليبيا» لرفعه الى السلطات الليبية والمطالبة بدفع التعويضات عن ممتلكات وبيوت ومؤسسات تربوية واجتماعية وكنس وأراض. ويقول وجهاء الجالية ان ممتلكاتهم في ليبيا تقدر بنحو 500 مليون دولار إضافة الى مئة مليون دولار أخرى للمنشآت العامة اليهودية كالمعابد والمقابر.
والمطالبة بالتعويضات ليست جديدة بالنسبة الى يهود ليبيا في اسرائيل وإيطاليا ومختلف الدول. ولكن ليبيي إسرائيل يرون ان قضيتهم اكثر تعقيداً من غيرهم نظراً لطبيعة العلاقة بين إسرائيل وليبيا ولعدم مقدرتهم على الوصول الى ليبيا. وقد دفعهم هذا الى البحث عن سبل أخرى تضمن لهم التعويضات. وكحلون الذي يعول كثيراً على الحكومة الإسرائيلية الجديدة، برئاسة ايهود اولمرت، ويتفاءل بما نشرته وسائل الإعلام عن نيات العقيد القذافي، يقول: «آمل ان تحقق حكومتنا الجديدة الهدف الذي انطلقت لتحقيقه وزارة الخارجية في زمن حكومة آرييل شارون، عبر وزير الخارجية السابق سلفان شالوم، الذي كان يطمح الى علاقات جديدة مع دول عربية ومن بينها ليبيا. وعلى رغم كل ما حصل من تراجع في العلاقة مع الحكومة الفلسطينية، فإن السياسة الواضحة لهذه الحكومة تبشرنا بمستقبل افضل للمنطقة كلها». يتحدث مئير كحلون بتفاؤل لكنه يضيف: «المشكلة عندنا ان أحداً لا يفكر بالإنسان كإنسان. الكل يفكر بالحرب والقتل والمصالح وهذا أمر مؤلم. الحاجة اليوم تتطلب التوصل الى حالة من الهدوء والسلام بين اسرائيل والفلسطينيين. لا أقول هذا لأننا على قناعة بأن وضعاً كهذا سيحقق امنيتنا بزيارة ليبيا بل سيبعث السلام ويضع حداً لسفك الدماء».
... خلافاً لبقية المجموعات اليهودية التي وصلت الى إسرائيل من الدول العربية، وخصوصاً العراق وسورية والمغرب واليمن، فان الليبيين اندمجوا في شكل كبير في المجتمع الإسرائيلي وليس من السهل التمييز بينهم وبين الآخرين. مناطق سكنهم غير محصورة في بلدة أو منطقة معينة، ويمكنك ان تجدهم في المركز والشمال، وفي تل أبيب وحيفا ونتانيا. لا تجمعهم أحياء معينة او مبان خاصة بل يندمجون في شكل متكامل مع بقية اليهود. وخلافاً للآخرين القادمين من الدول العربية، فقد حرصوا على الحفاظ على كل ما يملكونه فأقاموا متحفاً خاصاً بهم يشرح تاريخهم ويعرضون فيه الصور من داخل ليبيا في سنوات الخمسينات والستينات وكذلك الملابس والمعدات التي تعكس عاداتهم وتقاليدهم.
وعلى رغم الصعوبات التي واجهتهم عند وصولهم الى اسرائيل، تمكنوا اكثر من غيرهم، من الاستقرار والعمل وأقاموا 18 تجمعاً سكانياً واندمجوا في التعليم وعينوا مديرين ومعلمين وسيطروا على مواقع كثيرة في مختلف المهن، في الصناعة والتجارة والسياحة، وأيضاً في السياسة اذ تبوأ الكثير منهم مناصب مهمة في الكنيست والسلطات المحلية. وأقاموا منظمة خاصة بهم أطلقوا عليها «المنظمة الدولية من أجل يهود ليبيا».
وأنشأ يهود ليبيا اكثر من مركز أبحاث، وكما بقية اليهود القادمين من الدول العربية، حرصوا على مواصلة احتفالاتهم الدينية والاجتماعية بالنمط نفسه الذي اعتادوه في ليبيا، وهم بذلك يشبهون يهود المغرب خصوصاً في احتفالاتهم المعروفة بـ «ليلة النوار» وهي الليلة الأخيرة في عيد الفصح والمعروفة بـ «الميمونة». في هذه الليلة، ووفق تقاليدهم في ليبيا، تلبس الفتيات ثياباً خاصة ثم يختار الشاب فتاة تعجبه ويقدم لها الوردة فإن أمسكت بها تكون موافقة على الاقتران به، ثم تأتي الموافقة الأخيرة من الأم، التي إذا أخذت الوردة من ابنتها تكون تعلن موافقتها على الزواج.
وهناك العديد من الاحتفالات والعادات والتقاليد التي ما زال يهود ليبيا محتفظين بها، بل يصر كبار السن منهم على تعليمها لأبنائهم وأحفادهم، ومثل هذه الاحتفالات شاهدها القذافي في الشريط المصور.
الفوج الأول من يهود ليبيا وصل الى إسرائيل في الخمسينات وكانت تلك الموجة الأكبر للهجرة. وفي 1967 سعت الوكالة اليهودية الى إخراج اليهود من ليبيا، لكن العدد الأكبر منهم اختار ان يذهب الى إيطاليا ثم الى الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل. وتعدادهم اليوم في إسرائيل حوالى 120 ألفاً.
بقيت قضية الحصول على تعويضات لممتلكات اليهود الليبيين التي تركوها في ليبيا قيد البحث الداخلي بين يهود ليبيا ولدى مؤسسات الدولة العبرية، حتى الثالث من آذار (مارس) 2002، عندما قررت الحكومة الاسرائيلية تسجيل جميع ممتلكات اليهود في الدول العربية وأقامت لجنة خاصة للاهتمام بالموضوع وتسجيل كل الممتلكات مع الاحتفاظ بالوثائق التي كانت بحوزة اصحابها. وكان ليهود ليبيا دور كبير في هذا المجال فهم يعتبرون أنفسهم اكبر مجموعة من اليهود غادرت الدول العربية وتركت خلفها أملاكاً كثيرة، بخاصة في مجال التجارة والمؤسسات الخاصة. وقد اهتم الليبيون بتوثيق الممتلكات الخاصة والعامة، مع بقية يهود ليبيا، الى أن تطورت الاحداث في اعقاب تصريح الرئيس الليبي معمر القذافي، الذي اوضح فيه عدم معارضته تعويض يهود ليبيا مشترطاً ألا يكون هؤلاء قد استولوا على بيوت الفلسطينيين.
من جهتهم، رأى اليهود الليبيون بهذا التصريح بادرة أمل في توفير فرصة لزيارة بيوتهم وممتلكاتهم وبالتالي حقهم في الحصول على تعويضات. وقال مئير كحلون ان الكثيرين من يهود إيطاليا حصلوا على تعويضات من السلطات الليبية وهذا مؤشر الى إمكان حصولنا نحن أيضاً على تعويضات، لكن الأمر يتطلب عملاً وجهوداً ومثابرة ومحاولات مستمرة.
العمل على جمع شهادات ومستندات من يهود ليبيا لا يقتصر على اللجنة الخاصة التي تكثف نشاطها هذه الأيام، بل تجندت وسائل الإعلام وفي شكل بارز مجلة «عادة» التي يصدرها يهود ليبيا وهي متخصصة بنشر تحقيقات عن حياة الليبيين وتوزع في اسرائيل وفي الخارج. وقد لعبت هذه المجلة دوراً كبيراً في إثارة المسألة، ما بعث الأمل لدى الغالبية بأنهم سيحصلون على تعويضات، لا بل انهم سيزورون ليبيا قريباً.
الى جانب المجلة، تولى الموقع الخاص بيهود ليبيا على الانترنت نشر التقارير حول أهمية تنظيم الليبيين اليهود في إسرائيل تحت سقف واحد في طلب التعويضات. وخصص الموقع مساحة واسعة للشرح عن وضع اليهود في ليبيا ومن ثم السماح لهم في الوصول الى إسرائيل وذلك في قرار صدر في 19 كانون الثاني (يناير) 1949. وكما يذكر الموقع فان اليهود باعوا ممتلكاتهم قبل الوصول الى اسرائيل في أول دفعة في نيسان (ابريل) 1949 وخلال ثلاث سنوات وصل الى اسرائيل 32 ألف يهودي ثم توالت الهجرة الى اسرائيل بمعدل 600 يهودي كل شهر. وقد حرص الكثيرون، بحسب ما نشر الموقع، على بيع ممتلكاتهم. ويخصص الموقع زوايا نشرت فيها مقالات عن طبيعة العلاقة التي كانت سائدة بين مسلمي ليبيا واليهود. وبحسب أحد كتاب الموقع، فإن اليهود كانوا يسيطرون على الاقتصاد في ليبيا. وأشار كاتب آخر الى ان «العرب فرحوا جداً لهجرة اليهود لأن ذلك أتاح للكثيرين السيطرة على الاقتصاد».
ويقول يهود ليبيون ان الحكومة الليبية «كانت الحكومة العربية الوحيدة التي أتاحت نشاطات للإسرائيليين على أراضيها لتنظيم هجرة اليهود وحددت فترة لذلك هي فترة ما قبل كانون الأول (ديسمبر) 1952 عندما صدر قرار في منع دخول السفن الاسرائيلية الى ليبيا».
وفي الملف الذي يعد للمطالبة بالتعويضات، يشار الى انه في العام 1969، وعندما وقع الانـقـلاب العسكري في ليبيا والذي قاده العقيد معمر القذافي، كان في ليبيا 300 يهودي، وقد صـودرت ممتــلكاتـهم ما دفـع الغالبـيـة الى الهجـرة، وعـنـدها اغـلقـت المؤسسات التعليمية والاجتماعية التابعة لهم.
القيمة الحقيقية للممتلكات غير واضحة والأوضاع السياسية لا تبشر بحل قريب للقضية، ومع هذا فان اليهود الليبيين في اسرائيل يواصلون جهودهم لإنهاء الملف الذي يأملون ان يتم التوصل الى اتفاق حوله من دون اضطرارهم الى التوجه الى المحاكم الدولية.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد