"كن يقظاً": علكة لحماية الأمن القومي الأمريكي
وزعت، أخيرا، اعلانات في شوارع وصحف وحافلات في واشنطن عن انتاج جديد اسمه «ستاي اليرت» (كن يقظا). تتصدر الاعلان صورة دبابة عملاقة في شارع من شوارع بغداد، وعليها جنود اميركيون يمسكون بنادقهم الاتوماتيكية، وهم مستعدون لاطلاق النار في اي لحظة. وفي الاعلان عبارة «فيرست سترايك» (الضربة الاولى). اي ان هؤلاء الجنود مستعدون لاطلاق الضربة الاولى قبل ان يطلق «العدو» ضربته الاولى. وقال الاعلان ان السبب هو «ستاي اليرت»، نوع جديد من اللبان (العلكة) فيه كمية كبيرة من كافيين القهوة. وانه يساعد الجنود الاميركيين على اليقظة. وانه، بهذا، يساهم في جهود تهدئة واستقرار العراق. وفي الحرب ضد الارهاب. وفي حماية الامن القومي الاميركي.
وقالت الشركة التي انتجت «اللبان القهوة» انه يساعد الجنود بأكثر من طريقه: اولا، عدم النوم. ثانيا، الاستعداد لأي طارئ. ثالثا، التركيز على الهدف. رابعا، دقة التصويب.
واذا طور الاميركيون اللبان، وارسلوا نوعا جديدا منه الى الشرق الاوسط، فإنهم، في الحقيقة، اعادوه الى وطنه. لأن اصل اللبان في الشرق الاوسط، وخاصة في اليمن وعمان. واشتهر، عبر التاريخ، «طريق اللبان»، ويعتقد ان مركزه كان محافظة ظفار. ويشاهد زائر المنطقة اكتشافات عمليات تنقيب وبحث عن آثار قديمة: اكتشفت في وبار، وسط اشجار لبان لا تزال قائمة حتى اليوم، اماكن لجمعه، وتنظيفه، وشحنه، ويعتقد ان المنطقة كانت مأهولة منذ العصر الحجري. واكتشفت في خور روري، اثار تعود الى ما قبل ميلاد المسيح بالف سنة، فيها نقوش، وكتابات عربية قديمة، وعملات معدنية، وبقايا لبان وبهارات. واكتشفت قرب مدينة البليد، آثار من العصر الاسلامي، منها جامع كبير به 144 عمودا، وفيه بقايا لبان وبهارات وبخور. ويعتقد ان «إرَمَ ذات العماد»، التي اشار اليها القرآن الكريم، كانت في تلك المنطقة. وان «طريق اللبان» كان يربط ممالك معين، وسبأ، والانباط. وفي التوراة والانجيل اشارات كثيرة الى لبان قادم من تلك المنطقة. في سفر الخروج، «قال الرب لموسى: خذ عطورا ميعة، واظفارا، ولبانا نقيا، اجزاؤه متساوية. واصنع منها بخورا عطرا، صنعة عطار، نقيا، مقدسا». هذه اشارة الى طقوس العبادة في اول معبد يهودي في ارض كنعان، بعد ان قاد موسى خروج اليهود من مصر. وفي سفر ارميا: «لم يسمعوا كلامي، ورفضوا شريعتي. لماذا يأتي اللبان من سبأ؟». وهذه اشارة الى تمرد اليهود على موسى. وفي نفس السفر: «وبعضهم اؤتمنوا على الآنية، وأمتعة القدس، والدقيق، والخمر، واللبان، والاطياب». وفي نشيد الانشاد بالانجيل: «من هو الخارج من البرية، مثل اعمدة دخان معطر بالمر واللبان؟». وفي «انجيل متى»: «رأوا الصبي مع مريم، فخروا، وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم، وقدموا له هدايا، ذهبا، ولبانا، ومرا». واصل كلمة «لبان» هو لبن شجرة الكندر، المعروفة باسم شجرة اللبان في عمان واليمن. ويسميه بعض العرب «علكة»، من «عكك« (مضغ). وتوجد في الادب العربي اشارات الى اللبان: قال اعرابي في مضغ اللبان: «تعب الحنجرة، وخيبة المعدة». وقال الجاحظ: «اعطى قوم اعرابية علكا لتمضغه، لكنها رفضت. سألوها: لماذا؟ اجابت: ليس فيه سوى تعب الاضراس، وخيبة المعدة». ومر اشعب الأكول برجل يمضغ لبانا، وتبعه، يريد ان يقاسمه، حتى عرف انه شيء يمضغ ولا يؤكل. ويعتقد ان الصليبيين نقلوا اللبان الى اوروبا، بعد ان استعملوه كعطور وبخور داخل كنائسهم في فلسطين. ومن اوروبا، نقله المسيحيون الى كنائسهم في العالم الجديد.
لكن، مثل القهوة اليمنية، والبتزا الايطالية، والمقانق الالمانية، والتاكو المكسيكي، حول الاميركيون اللبان الى صناعة اميركية. وطوروه، وصدروه الى بقية العالم، وجعلوه جزءا من ثقافتهم، وجزءا من الثقافة العالمية. طبعا، ليس المضغ جديدا على الناس. بالاضافة الى المضغ في عمان واليمن، ترك الفراعنة، والاغريق، والرومان آثار اعشاب، وجذور، وفروع، وحبوب كانوا يمضغونها. بعضها مسكر، وبعضها مهدئ، وبعضها مهيج.
وكان جون كيرتس (سنة 1848) اول اميركي صنع اللبان: نظفه، وغلاه، وصفاه، وجمده في قطع متساوية، ولفها باوراق، وباعها للناس. وبعد ذلك بعشر سنوات، نجح منافسه توماس ادامز في صناعة لبان اصله شجرة «الشيكليت» في المكسيك (لهذا يسمي بعض الناس اللبان «شيكليت»)، بالاضافة الى اسم «جوينغ غم» (صمغ المضغ). كان ادامز يجري ابحاثا لصناعة المطاط من اشجار في المكسيك، وكان يتعاون مع سانتا انا، دكتاتور المكسيك في ذلك الوقت. لكن، في سنة 1855، قامت ثورة في المكسيك، وخلعت سانتا انا، ففر الى اميركا، واحضر معه لبان شجرة «الشيكليت». وكان هذا سبب تحول ابحاث صديقه الاميركي من المطاط الى اللبان. ويوم 28-12-1869، سجل، في ادارة حقوق الاختراعات والاكتشافات، السجل رقم 89304: لبان «شيكليت». ولا تزال ورقة التسجيل موجودة في دار الوثائق الاميركية. ولفترة من الزمن، حاول اميركيون آخرون انتاج نوع آخر من اللبان من شجرة «المصطكي» التي تنتشر في اليونان وشمال افريقيا. وحاول آخرون الاعتماد على الشمع. او خلط المطاط بمواد بترولية. واشتهر جون كولغان لانه، في سنة 1880، انتج اول لبان بنكهة (استعمل نكهة النعناع، وبعد ان نجحت، استعمل نكهة القرفة). لكن، يعتبر وليام ريغلي هو ابو اللبان الاميركي. اسس سنة 1892، شركة باسمه، وانتج لبان «سبيرمنت» (لا يزال مشهورا حتى اليوم). ونشر في الصحف اعلانات فيها بنات يفرقعن لبانا في افواههن، في غنج واضح. وقالت بعض اعلاناته: «اللبان افضل من قبلة» و«اللبان يطرد الملل» و«اللبان يجعل الشفاه ناعمة» (رغم عدم وجود صلة مباشرة). لكن، اثارت اعلاناته ضجة. وكان المزاج الاميركي محافظا جدا في ذلك الوقت (بالمقارنة مع اليوم)، واعتبر مجرد نشر صورة بنت تضع، في دلع، لبانا في فمها «تابو» (محظورا). وكتبت مجلة «هاربر» سنة 1898: «اذا اقتنعنا بأن البنت تستعمل اللبان لإغراء الرجل، لماذا نشاهد بعض الرجال يستعملونه؟ هل يريدون اغراء النساء؟ وكيف يغري رجل امرأة؟». لكن، انتصر الزمان على المزاج في موضوع الصلة بين مضغ اللبان والجنس وسط الاميركيين. (مثلما انتصر الزمان على المزاج عندما عدل الاميركيون دستورهم، ومنعوا بيع الخمور. ثم، بعد اكثر من عشر سنوات، غيروا رأيهم، وعدلوا الدستور مرة ثانية، وألغوا المنع، سنة 1933). بل وبدأ، منذ ذلك الوقت، علماء في اجراء ابحاث عن الفوائد العلمية لمضغ اللبان. طبعا، قاد هذه الابحاث «معهد ويغلي للعلوم». وأعلن الفوائد الآتية: اولا، تهدئة الاعصاب. ثانيا، تركيز في التفكير. ثالثا، ترطيب الفم الجاف. رابعا، نقل الدواء الى الدم سريعا. واجرى المعهد ثلاثة بحوث اساسية: اجريَّ الاول على تلاميذ وتلميذات مدارس ثانوية. وزع على بعضهم لبان ليمضغونه خلال امتحان، ولم يوزعه على البعض الآخر. واوضح البحث ان الاوائل تفوقوا على الآخرين في الاجابة عن الاسئلة. واوضح البحث الثاني الآتي: يشفي اللبان المخلوط مع عرق السوس آلام الحلق. ويشفي المخلوط مع القرنفل آلام الاسنان. ويشفي المخلوط مع النعناع رائحة الفم الكريهة.
واوضح البحث الثالث ان مضغ اللبان يساعد على تخفيض الوزن (لأنه يلهي عن الاكل). ويساعد على التفكير (لأنه يقلل السرحان). ويقلل التوتر (خاصة عند الانتظار في صفوف التذاكر او المتاجر).
لكن لم تكن كل الابحاث عن فوائد مضغ اللبان في مركز «ويغلي» الوثيق الصلة بشركة ويغلي (اكبر شركة لبان في العالم). فقد اجرى آخرون بحوثا مماثلة، اذ اجرى د. ماريون هيثرنغتون، استاذ في جامعة غلاسغو في بريطانيا، بحثا اكد، نعم، ان مضغ اللبان يخفض الوزن. وقال انه قبل الاكل يقلل الجوع، وبعد الاكل، يقلل اكل الحلويات. واجرى اطباء في «مايو كلنيك» (مركز طبي كبير في ولاية منسوتا) بحثا اوضح ان حركات الفك اثناء مضغ اللبان تستهلك 11 طاقة حرارية في الساعة. ونشرت دورية «نيوانغلاند جورنال اوف ميديسن» ان هناك صلة بين مضغ اللبان والاجترار (مضغ الابقار) في تخفيض الوزن.
ونشرت نفس الدورية نتائج بحث قاس متوسط مضغ اللبان وسط تلاميذ وتلميذات مدرسة ثانوية. ووجد ان المتوسط هو مضغة كل ثانية. كما نشرت دورية «جورنال اوف كلينيكال نيوتريشن» بحثا اكد ان مضغ اللبان يساعد على التوقف عن تدخين السجائر. ونشرت نفس الدورية بحثا اوضح سر مضغ مسافرين للبان عندما تقلع الطائرة او تهبط: يحرك المضغ عضلات الفم، ويفتح هذا انبوبة تربط الانف الداخلي بالاذن، وتفتح هذه انابيب الاذن. وقال د. كابتن غاري كاميموري، مسؤول السلوك البيولوجي في مستشفى «ولتر ريد» في واشنطن (الذي اجرى ابحاث «اللبان القهوة»، قبل ارساله الى الجنود الاميركيين في العراق): «كان هدفنا هو ان نوضح ان اللبان طريقة سهلة، ورخيصة، ومضمونة لمساعدة الجنود على عدم النوم، وعلى تنشيط العضلات، وعلى تركيز خلايا الدماغ. وحققنا الهدف».
وقال ان كل قطعة لبان فيها 100 مليغرام من الكافيين (حجم الكافيين في فنجان قهوة كبير). وقال: «يدخل الكافيين، عندما يمضغ، شرايين الدم بسرعة تزيد بنسبة 500 في المائة عن سرعته عندما يشرب في القهوة. لان القهوة لا بد ان تذهب الى المعدة اولا. ولأن خلايا اللثة تمتص الكافيين وتنقله الى الدم مباشرة». وسبقت بحوث واجراءات كثيرة (بما في ذلك قرار من الكونغرس) اختراع «اللبان القهوة». منها تقرير من لجنة تغذية العسكريين في اكاديمية العلوم الوطنية عنوانه: «الكافين وزيادة اداء الجندي». ومنها تجارب على جنود ظلوا يقظين ليوم، او يوم ونصف يوم، او ثلاثة ايام كاملة. ومنها تجارب على جنود قناصة للتأكد من زيادة تركيزهم، ودقة تصويبهم. ومنها، في مركز «ناتيك» في ولاية ماساشوستس، تجارب على القوات الخاصة، مثل التي تبحث عن اسامة بن لادن في افغانستان. وأخيرا، نال «اللبان القهوة» جائزة من جوائز احسن الاختراعات. وصار مضغ اللبان جزءا من التراث العالمي. ولا يقتصر على النساء، رغم ان اكثر من ثلثي الذين يستعلمونه نساء. واشتهر وسط مدربي الفرق الرياضية. يقف كل واحد على الخط الجانبي للملعب، وينهر اللاعبين، ويمضغ اللبان. واشتهر وسط لاعبي كرة البيسبول (كرة القواعد)، حيث يسمح للاعبين بمضغ اللبان اثناء اللعب. وصور فيلم «شارلي في مصنع الشوكولاته» (صدر سنة 2005) ممثلة سرقت لبانا، فتحول لونها من بنفسجي الى ازرق. وغنى ليوني دونيغان اغنية: «هل تلصق اللبنانة بالسرير؟ هل تفقد طعمها اذا فعلت ذلك؟» وظل مدير السجن في فيلم «طيران فوق عش الوقواق» (صدر سنة 1975) يمضغ اللبان منذ بداية الفيلم وحتى نهايته. ووضع الصبي المشاغب «بارت» في مسلسل «سمبسون» التلفزيوني اللبان في شعر شقيقته «ليزا». وقتلت ممثلة في فيلم «شيكاغو» (صدر سنة 2002) حبيبها لانه رفض التوقف عن فرقعة اللبان عندما كان يمضغه.
محمد علي صالح
المصدر : الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد