عندما تؤجر عقلك لشيخك
الجمل : يمسك سبحته الطويلة صغيرة الأحجار, يحرّكها وكأنه يعدّها ويتمتم بكلمات تتسابق للخروج صامتة مكتومة. هذا ما يفعله سامر أثناء قيادته السيارة, ما يغيظ صديقه الذي يسأله مستفزاً: شو كيف الوضع فوق ، ركز على الطريق. ليس سامر من متبعي موضة "الأسلمة" حديثا, لكنه يبدو في تصرفاته الظاهرية الحديثة العهد كمن حدّث أو قام بعملية upgrade لطقوسه القديمة.
سامر آخر متزوج وأنعم الله عليه بالخلف, كان شابا رياضيا يتبع دورات في بناء الأجسام, واليوم يرتدي "كرشاً " ولا يختلي بامرأته عاريا الا تحت اللحاف إتباعا لفتوى in أي آخر صرعة.
كثيرون هم أنسال وأمثال سامر هذا, حتى أن هناك سامرات, كتلك التي توقف تعليمها عند الصف التاسع الإعدادي ويرتاد دار أهلها أطفال الحي في إحدى ضواحي دمشق لتدرسهم وتعلمهم (الدين), وكأنها وكما يقول العامّة "أكّـسـت" على كلية الشريعة جملة وتفصيلا.
نخوض في هذا الموضوع بعدما بات الحديث عنه "بالمفتشر" كما يقول أهل مصر, وبعدما أضحى مسلّـطا – من سلطة – ومسموحا, وباتت الأسلمة ومظاهرها من المسموحات والمباحات بل والمرغوبات رسميا.فبالأمس القريب حاضر رجال دين وألقوا مواعظ ومطالب على رجال من السلطة, وكأن "مؤسسة السياسة" التابعة للسلطة أرادت أن تأخذ قيلولة وتصحّي بالتالي "المؤسسة الدينية"..واذ بنا نراها تسمح لها بنفخ عضلاتها علينا مجتمعيا وإعلاميا!
قد تفسر هذه السياسة للحق ومراعاة للإنصاف بأن الدولة معذورة ربما في اجتهادها هذا بالانفتاح المدروس على المؤسسة الدينية الاجتماعية, فالمزاج العربي عموما قد انقلب كما وكيفا الى الأسلمة والتدين الإسلامي (الإسلام هو الحل).فمن الطبيعي أن مجتمعات كمجتمعاتنا تمأسس فكرها وتقولب على مكونين فقط (العروبة – الإسلام) من جملة مكوناتها الأساسية الأخرى التي كبتت في غياهب اللاوعي الجماعي. ستستبدل من خفت بريقه بالآخذ بالوقت الراهن بالمعّية والمستأئر بالتركيز الإعلامي وكثير من الداعين والداعيات والدعوات اليه.غاب عن هذين المكونين أعمال الفكر فيهما وتأطيرهما بالأطر الثقافية السويّة بعيدا عن أدلجتها وتقييدها بمنظومة تفكير وتفسير محددتين ثابتتين.
قد يقول البعض أنهم يريدون أن يكون "الإسلام المعتدل" هو السائد في المجتمع وليس "الإسلام المتطرف",وهذا القول بحد ذاته نابع من تطرف وجهل وافلاس ثقافي. فلا وجود لإسلام معتدل أو وسطي أو متطرف, لا تحتمل الأديان أن تكون يمينية طورا ويسارية طورا آخر,هناك ببساطة إسلام.هو خلاصة روحية عالية غالية..فوق بشرية..تماهي مع الإله الأوحد وذوبان نفسي في الخير الآتي من عنده.أما توصيفات الاعتدال والتطرف والتبسيط فتصح على المؤسسة الفكرية الحاكمة الناظمة والتابعة لجماعات وجماعات تسوس جماعاتها بالغطاء الديني الرعوي.
هناك جهل مدقع,احتكام للبشر قبل العقل..مرجعيتك شيخك في كل الأمور من(هل يجوز تناول الطعام باليد اليسرى, إلى هل يحل إيداع الأموال في البنوك حلال!).تغيب الثقافة غيابا مخيفا أليما,وحضور التعلم هنا واصطفاف الشهادات لا يعني شيئاً للأسف.
عثمان شاب مربوع القامة, ينضح شبابا وحركة, يدير مكتبا للتخليص الجمركي في درعا يدر عليه مالا وفيرا.تشعر إذا ما تجاوزت الدردشة معه حد المجاملات أنه يعاني بشدة من إحساس بالذنب والدونيّة لعدم إكماله تعليمه, هذا ما تستنتجه عندما تسمعه يقص عليك حكاية رجل رفيع المقام عال المستوى من أهل العلم كيف أنه استجدى الناس من على فراش موته أن يحفظوه شيئا من القرآن! عبرة الحكاية هذه يرميها في وجهك مباغتا دون أن ينتظر منك الوصول إليها:ما أفاد الرجل علمه الوفير وقد أوشك أن يموت شبه كافر..
سأل صبي أستاذه الشاب في "الحلقة الدينية" : ماذا سنفعل عندما نموت وندخل الجنة؟ ألن نشعر بالملل لعدم وجود تعب بعده راحة, ورغبة بعدها انجاز؟أجابه أستاذه وكأنه تضاءل حجما أمام عملقة سؤال تلميذه اليافع:تنظر إلى الأمام فترى منظرا طبيعيا ساحرا أخاذا وتسرح فيه عشرة آلاف سنة,بعدها تنظر إلى يمينك وترى منظرا آخر وتسرح عشرة آلاف سنة أيضا, ثم تلتفت إلى يسارك وترى منظرا جديدا...وهكذا دواليك!..كانت تلك آخر "جلسة" يحضرها الفتى الذي تنبأ له أستاذه بمستقبل باهر في "الدعوة" إذا ما استطاع تطويعه والسيطرة عليه, والحمد لله أنه لم يفعل.
عشرة من الشباب الجهّل أثاروا بلبلة أمنية في البلاد يوم الجمعة الماضي,خمسة منهم قتلوا, مع أن وصفهم بالتخريبيين والإرهابيين محق, إلا أنهم قبل ذلك ضحية مجتمع متخلّف ثقافيا لأبعد حد, ضحية فقر مادي واجتماعي وحضاري, ضحية "دعاة" و"رجال طرق" ليس هناك من يناقشهم ويعلمهم و الأخزى أنه ليس هناك من الناس من يتحداهم..فالتكفير لك بالمرصاد.
حسان عمر القالش
إضافة تعليق جديد