سبع نساء عبرن حياة السياب

16-12-2007

سبع نساء عبرن حياة السياب

حين نتتبع الحياة العاطفية للشاعر بدر شاكر السياب (1926-1964) فإن الانطباع الأول الذي يتشكل عندنا هو ان شخصية هذا الشاعر الفذ في تاريخ الشعر العربي الحديث كانت نسيجاً من الأحلام والأوهام، بحسب اعترافه في إحدى قصائده الأخيرة. فهو عاش أحلامه ونسج حولها من صور الخيال ما جعله يبدو في لحظةٍ من لحظات التعبير عن تلك الحياة الأكثر سعادة بها، وفي لحظة أُخرى الأشدّ انكساراً وخيبة وهزيمة عاطفية.

في بداياته، أيام كان طالباً في «دار المعلمين العالية» في بغداد، يكتب العام 1944 «الى مستعيرات ديوان شعره»: «ديوانُ شعرٍ ملؤه غَزَلُ/ بين العذارى باتَ ينتقلُ/ أنفاسيَ الحرّى تهيمُ على/صفحاتهِ، والحُبُّ والأملُ/ وستلتقي أنفاسُهنَّ بها/ وترفُّ في جنباته القُبَلُ».

إلاّ أن الأمر سرعان ما تبدى له «سعادة ناقصة». فالاهتمام هو بالديوان، وليس بصاحبه، وهنّ يقرأنه مستعيدات، أو مؤملات، تجارب عاطفية، ولكن مع سواه وليس معه. وهنا تنشأ الغيرة والحسد، ويكون الاعتراف بالهزيمة: «يا ليتني أصبحتُ ديواني/ لأفرَّ من صدرٍ الى ثانِ/ قد بتُّ من حسد أقول لهُ/ يا ليت من تهواك تهواني».

فقد كان قادراً على أن يثير أجمل النساء، ولكن بشعره، لا بشخصه. ومن هذا الإعجاب به شاعراً، أو الاهتمام بشعره نبعت أسماء «حبيباته» اللواتي أحصى سبعاً منهن وهو يعود الى ذكرياته الأولى في قصيدة «أحبيني» (من ديوان شناشيل أبنة الجلبي)، متوقفاً أطول وقفة عند واحدة منهنّ هي الشاعرة لميعة عباس عمارة.

كانت المرحلة التي بدأ السياب فيها تجاربه الشعرية الأولى مرحلة رومانسية بامتياز، وكان هو نفسه واقعاً، شعراً وتكويناً ذاتياً وعاطفياً عكسه ذلك الشعر، تحت تأثيرات التيار الرومانسي الذي طبع الحياة الشخصية لجيله، ذلك الجيل الذي جمع بين مثالية النظرة وعاطفية الشعور والأحاسيس. فوجد شاعرنا نفسه يهفو الى كل من تبادله نظرة أو تحية، حتى ما كان دافعها الإعجاب بشعره، فإذا هو أمام هذه اللفتة أو تلك متعلق بمن يضفي عليها من الدلالات، أو يمنحها من المعاني. ما ليس فيها، لنجد الكثير مما في مجموعتيه الشعريتين «أزهار ذابلة (1947) و «أساطير» (1950) نتاجاً لتلك الأحلام وارتداداً عن تلك الأوهام. ولعل ذلك التوسع في نطاق «تجارب الحب» هو ما جعله يقف، في ذكرياته واستعاداته الأخيرة إبان سنوات المرض، أمام سبع منهنّ من دون ان يحظى من بينهن إلاّ بزوجته «أم غيلان»، وهو ما سيسلمه الى شعور بالخيبة كان من انعكاساته ذلك الهجاء المتأخر لهن، وإن كان قد سبقه هجاء أعنف لاثنتين منهن في أيام انكساراته أمام تلك التجارب.

ما الذي دعاه الى مثل هذه العودة الى الخيبة، وكتابة ما كتب بفعل استرجاع أثرها في نفسه وهو على سرير المرض؟ هل هو الفراغ العاطفي الذي عاشه في تلك السنوات الصعبة التي انتهت بوفاته في 24 كانون الأول (ديسمبر) 1964؟ أم انها «شرارة عاطفية» أحيت ما في نفسه من مواجد الخيبة راح يرجو بها التعويض وهو في الهزيع الأخير من الحياة؟

- تؤكد معظم الروايات، مدّونة وشفوية متداولة، أن المخاطبة في القصيدة هي الشاعرة البلجيكية لوك نوران التي يذكر الناقد عيسى بلاطة (وهو من أكثر الباحثين الذين اهتموا بالسياب شاعراً استقصاء لمجريات حياته الخاصة) أنه تعرف إليها في بيروت سنة 1960، واهتمت بترجمة بعض قصائده الى الفرنسية. وكان التقى بها المرة الأولى في مكتب مجلة «شعر» البيروتية، ثم اجتمع بها على حدة في مقهى «أنكل سام» وسواه في بيروت ليترجم لها شعره الى الإنكليزية كي تنقله هي الى لغتها. وقد أعجبه منها ثقافتها ورقتها وذكاؤها. لكنه لم يلتقِ بها ثانية إلاّ في باريس، في طريق عودته الى العراق من بريطانيا (والقصيدة كتبها في باريس ومؤرخة في 19 /3 /1963) وقد مكث السياب في باريس أُسبوعاً قضى معظمه في الفندق، لأنه لم يكن يستطيع المشي ولم يرد أن يعرض نفسه للبرد الشديد في الخارج. فكان أصدقاؤه يزورونه في غرفته. وكانت الآنسة لوك تمرّ على مكتب الفندق كل صباح فتترك للسياب فيه باقة من الأزهار وهي في طريقها الى عملها، ثم تزوره في المساء. وكان السياب يظن أن الأزهار من صاحبة الفندق. فلما علم انها من لوك أكبر لها هذا العمل، وكتب فيها قصيدة «ليلة في باريس» في تاريخ 18/3/1963. وعندما قرأها عليها مترجمة الى الإنكليزية ووصل الى نهايتها حيث يقول: «وذهبتِ فانسحب الضياء (...)/ لم يبق منك سوى عبير/ يبكي وغير صدى الوداع: «الى اللقاء/ وتركتِ لي شفقاً من الزهرات جمّعها إناء».

أغرورقت عينا لوك بالدموع، وعانقته وهي تردد: «أأستحقّ أنا كل هذا يا بدر؟» وتوهم في هذا الموقف حباً جديداً، أو دعوة الى حب ليكتب بعد يوم واحد على «ليلة في باريس» قصيدة أخرى هي «أحبيني» وفيها يخاطب «لوك نوران»: «وما من عادتي نكرانُ ماضيَّ الذي كانا/ ولكنْ.. كلُّ من أحببتُ قبلكِ ما أحبّوني/ ولا عطفوا عليَّ، عشقت سبعاً كنّ أحياناً/ ترفّ شعورهنَّ عليَّ، تحملني الى الصين/ (...) فأبحثُ بين أكوام المحار، لعل لؤلؤة ستبزغُ منه كالنجمهْ،/ وإذْ تدمى يدايَ وتُنزَعُ الأظفارُ عنها لا ينزّ هناك غيرُ الماء/ وغيرُ الطين من صَدَفِ المحار، فتقطرُ البسمةْ/ على ثغري دموعاً من قرار القلب تنبثقُ،/ لأن جميع من أحببتُ قبلكِ ما أحبّوني».

ومن لم يحببنه كثيرات: الصفات، لا الأسماء فقط (التي ظل يتكتم عليها في معظم ما كتب): فهذه باعته «بمأفونِ، لأجل المال. ثم صحا فطلقها وخلاّها». «وتلك لأنها في العمر أكبر أم لأنَّ الحسنَ أغراها/ بأني غيرُ كُفْءٍ، خلفتني كلّما شربَ الندى وَرَق/ وفتّح برعمٌ مثّلتها وشممتُ رباها!/ «وتلك كأنَّ في غمّازتيها يفتحُ السَّحَرُ/ عيون الفُلّ واللّبلاب، عافتني الى قصرٍ وسيارةْ...»/ «وتلك وزوجُها عبدا مظاهر ليلُها سهر/ وخمرٌ أو خمار...».

- وإذا ما جاء الى شاعرته – كما دعاها – لميعة عباس عمارة، توقف معها أطول من وقفته مع أي من الأُخريات، بمن فيهنّ زوجته، أو لوك نوران، فهي التي حظيت بقصائد من ديوانيه الأولين «أزهار ذابلة» و «أساطير» وإن لم تسلم، هي الأخرى، من هجاء عندما انتهت العلاقة بالخيبة والافتراق، بعد أن وجد في بداية علاقته معها أن الحظ يبتسم له هذه المرة. إلاّ أن ذلك لم يمنعه، أو يحل بينه وبين أن يذكرها في هذه القصيدة بأجمل الصفات وأقربها الى الروح، إذ يقول عنها: «وتلك؟ وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها،/ شربتُ الشعرَ من أحداقها ونعستُ في أفياء/ تُنشّرُها قصائدها عليَّ: فكلُّ ماضيها/ وكل شبابها كان انتظاراً لي علي شطِّ يهوِّم فوقة َالقمرُ/ وتنعسُ في حِماه الطيرُ رشَّ نُعاسَها المطرُ/ فنبهها فطارت تملأ الآفاق بالأصداء ناعسةً/ تؤجّ النورَ مرتعشاً قوادمُها، وتخفقُ في خوافيها/ ظلال الليل. أين أصيلنا الصيفيُّ في جيكور؟/ وسار بنا يوسوس زورقٌ في مائه البلور!/ وأقرأ وهي تصغي والربى والنخلُ والأعناب تحلم في دواليها!/ تفرّقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعَهْ...».

وقد أكدت لي الشاعرة عمارة أنها فعلاً زارته ذات صيف في قريته الجنوبية «جيكور» بصحبة خالها، وأمضوا بضعة أيام في «ضيافة بصرية» – نسبة الى مدينة البصرة – على حدّ وصفها.

في نهاية القصيدة يعود الى نقطة البداية فيها، أو ما عده حبه الجديد، والأخير للبلجيكية لوك نوران. غير أن هناك خاصية معنوية في هذه القصيدة بما تعتمد من إحالات، وبما تحيل إليه من مواقف، أو تشير إليه من تبدلات. فإذا كان الشاعر لم يحصد سوى الخيبة من حبه، فإن كل واحدة منهن كانت لها خيبتها من بعده. وإذا كانت الأولى منهن قد حصدت الطلاق لمن عافته إليه، والذي وصفه بالمأفون، فإنه يوم رأى الأخرى في موقف للباص تنتظر (في إشارة الى ما هي فيه من رقة الحال) ما كان منه إلاّ أن باعد الخطى، نائياً عنها: «لا أُريدُ القرب منها، هذه الشمطاء». أما ذات الغمازتين التي عافتهُ «الى قصر وسيارة» فيكمل الصورة التي انتهت إليها: «... الى رجل تبدّل منه حالٌ، فهو في الحاره/ فقير يقرأ الصحفَ القديمة عند باب الدار في استحياءْ/ يحدثها عن الأمس الذي ولّى فيأكل قلبها الضجرُ».

حتى شاعرته التي كانت له الدنيا وما فيها لم تسلم من الإشارات القاسية. فبعد ان تفرقت الدروب بهما «الى غير ما رجعةٍ» كان أن اعتقلت العام 1963 لاعتناقها الشيوعية. وهنا يقول السياب مصوراً خيبتها، ولكن تشفيّه ايضاً: «وغيّبها ظلام السجن تؤنسُ ليلها شمعهْ/ فتذكرني وتبكي. غير اني لستُ أبكيها».

بقي ان نقول إن الشاعر في قصيدته هذه، التي نجدها تمثل خلاصة لمواقفه العاطفية، سواء بالنسبة الى الحاضر أو الماضي، يعود بتوافقات الماضي وخصوماته الى الحاضر ليصفي حسابه الأخير معها. فهو غير آسف على ما ذهب، نجده يحوّل الأسف والندم الى الطرف الآخر. إنه يستعيد «تاريخاً»، أو ما أضحى من التاريخ، مع انه تاريخ شخصي. معيداً إنشاءه وفاقاً لما تقتضيه حساباته معه.

تتحدث هذه القصيدة عن سبع «حبيبات» أو سبع تجارب حب مرّ بها الشاعر، تشير الى أن تلك التجارب كانت تجارب مهمة، وذات اثر في حياته من حيث قوّتها العاطفية.

إلاّ أنه يحول تلك القوة في مسارين جديدين: الهجاء، أو الرثاء، أو الاثنين معاً في بعض الحالات، فكان قاسياً على عاطفته التي دفعته الى حبّ من أحب، كما كان قاسياً على من أحبّ.

ولكن حتى في هذا الحب الذي أغضبه كل هذا الغضب بسبب فشله تجربة، لم يمنعه من أن يصرّح هو نفسه بأنه كان يمضي وراء وهمه - توهماته؟ والقصيدة تسجل اعترافه بذلك.

ماجد السامرائي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...