رداً على وزير الثقافة في معنى الاستراتيجية الثقافية :
الجمل ـ فيصل علوش :لا تتفق القواميس المعروفة على تعريف محدد لمصطلح (استراتيجية) ويشيع استخدامه في القضايا العسكرية والسياسية، أكثر من استخدامه في شؤون الأدب والثقافة، وبهذا المعنى، قد يبدو للوهلة الأولى، أن سيادة وزير الثقافة د.رياض نعسان آغا محق في ميله وتبنّيه للرأي القائل بأن (لا استراتيجية في العمل الثقافي)، وهو خلاصة ما جاء في مقالته المعنونة بـ(بين ثقافة الإعلام.. وإعلام الثقافة) في العدد الأول من (شرفات) الصادرة حديثاً عن وزارة الثقافة، حيث كان يرد على تحقيق صحافي نشرته جريدة (الثورة) مؤخراً تحت عنوان (استراتيجية ثقافية أم مشاريع متفرقة؟).
بيد أنّ من يتأمّل حال الثقافة والواقع الثقافي في بلدنا سيدرك دونما عناء أو مشقة أن الأمور ليست على ما يرام أبداً، وإن أحوال الثقافة تشهد تراجعاً وانحداراً واضحين، يمكننا تلمسهما في غير ميدان. وإذا أخذنا ما قاله السيد الوزير بنفسه، لوضعنا يدنا على أول الخيط الموصل إلى هذه الأحوال، فهو يقرّ بان (إعلام الثقافة محدود الإمكانات) وأن (الصحافة الثقافية السورية عامة تحتاج إلى تطوّر نوعي، فقد تراجع دور النقد العميق فيها. وكادت الكتابات التي تعنى بشؤون الثقافة تقتصر على الأخبار والمتابعات السريعة...). ويضيف بأن كثيراً من المراكز الثقافية (ليس فيها مديرون أو عاملون أكفاء) ولا ينكر كذلك بأن كثيرين ممن يحتلون المواقع الثقافية (ليس لهم حضور ثقافي متميز).
ولي أن أزعم أن الملاحظات النقدية السابقة توفرت على قدر كبير من المجاملة والاستحياء بحكم الموقع الذي يشغله صاحبها، أما إذا أردنا التعمق أكثر في قراءة واقعنا والوقوف على حقيقته بكل جرأة ووضوح لأمكننا مقاربة ملاحظات أهم وأخطر وأكثر قسوة بكل تأكيد.
فالإشارة إلى (الإمكانات المحدودة) لا تكفي أبداً لتفسير أو تبرير واقع حال ما يسميه الوزير بـ(إعلام الثقافة) عندنا، بل لابدّ ممن السؤال عن الموازنات المخصصة لوزارة الثقافة، لكي تستطيع الاضطلاع بدعم وتشجيع الأنشطة الثقافية المختلفة، والنهوض بها، خصوصاً، في ظل الركود وانعدام أو قلة المردودية المادية والمعنوية لهذه الأنشطة (كتاب، مسرح، سينما.. الخ).
والسيد الوزير هو أدرى بحجم الموازنة السنوية المخصصة، خصوصاً بالمقارنة مع موازنة وزارات أخرى، لأن الإنفاق المبذول والموارد المخصصة تدلل على نحو واضح ومباشر على مدى الاهتمام والقيمة اللتين توليهما الحكومة لهذه الوزارة أو تلك، وحقل النشاط الذي يُناط بها، وثمة شعور عام يعتري الكثيرين من مثقفي بلدنا بأن (الثقافة) عموماً تقع في أسفل سلّم اهتمامات وأولويات حكوماتنا المتعاقبة (وإذا كان الأمر ليس كذلك، فأرجو أن يصحح لنا الوزير ذلك، ولكن استناداً إلى أرقام وإحصاءات واضحة؟). في حين أن وزارات أخرى (كوزارة الإعلام مثلاً) تخصص لها موازنة محترمة، ولا تعاني أبداً من قلّة الإنفاق والموارد، على الرغم من أن ثمة نزوعاً دولياً للاستغناء عن وزارة الإعلام وخدماتها، وهناك دول عربية جبّبت ذلك وفعلتهّ.
ولعلّ ذلك هو ما يرجّح على نحو كاسح، كفة (ثقافة الإعلام) على حساب (إعلام الثقافة) وفق المصطلحات التي يستخدمها السيد الوزير، وإذا توخينا الدقّة لقلنا (ثقافة الإعلام الموجّه) ضد الثقافة عموماً، لأن الأخيرة تتعارض في بدئها وجوهرها مع الأحادية والتوجيه والضبط القسري، وتنطوي لا محالة على التعدد والتنوع والاختلاف وهي سمات مواصفات غير مستحبّة طبعاً، أو مرفوضة لدى أولي الأمر فينا، وقد تتعارض، بل ستتعارض حتماً، مع المادة الثامنة من الدستور، التي تنصّ على (قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع). فهل نحتاج، بعد ذلك، إلى كبير جهد لنعرف، أو لنعاين على أرض الواقع كيف يجري التوفيق بين هذه وتلك، أي بين الثقافة (عموماً) وبين (الثقافة) التي يتوخى حزب ما، مطلق حزب، أن يقود من خلالها الدولة والمجتمع؟. وهل تلزم الإشارة إلى تجارب مشابهة للوقوف على مدى الخلل أو الانفصام الذي أصاب المجتمعات التي مرّت بتلك التجارب؟
وهل يمكننا أن نطمح فعلاً إلى تطوير نوعي يمس الصحافة الثقافة السورية وتعميق دور النقد، في ظل واقع الضبط والتقييد القانوني والدستوري، فضلاً عن السياسي والأمني وقانون الطوارئ الذي يظللنا بجناحيه؟ ألا يلاحظ الجميع غياب، أو محدودية النقد (الذي يتعلق بحياتنا وبالظواهر السلبية المتوطّنة فيها، ثقافياً، اجتماعياً، سياسياً، واقتصادياً) المتاح والذي يمكن أن يرى النور في صحافتنا وسائل إعلامنا المحلية؟ وهل بمقدور الثقافة أن تنهض دون إفساح المجال أمام الحرية كاملة لممارسة النقد الواجب واللازم؟ ولو كان الأمر خلاف ذلك، فلم إذاً هذه العلاقة المتوترة، أو العدائية، بين مثقفينا، أقله أصحاب الرأي الآخر والمختلف، وبين السلطة عندنا؟ وهل ثمة خلاف على فائض التسييس، والمحاولات الدؤوبة وغير المنقطعة لإلحاق الثقافة كلياً بالسياسة المعمول بها في بلدنا؟
هل يصعب على أحد أن يتكهن بسرّ موقف رئيس (اتحاد الكتّاب العرب) الحالي ومحامي (الاتحاد) من الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس، وامتناع (الاتحاد) عن صرف راتبه التقاعدي؟ وهل يعقل أنّ في سورية، أو لدى (اتحاد الكتّاب) (لا يوجد عشرة أشخاص يعترفون بونوس كاتباً مسرحياً) كيما يعترف به د.حسين جمعة بدوره؟.
واللافت في هذا الأمر هو تراجع (الاتحاد) عن قرار جماعي سابق بوجوب القيام بذلك، وهو ما يشكل نكوصاً وارتداداً بيّناً على صعيد العلاقة مع المثقف، لصالح مزيد من إجراءات التهميش وإبعاده عن التدخل في شؤون الوطن والمواطنين، وهذه كلها ثقافة، أو ثقافة السياسة التي تُدار بها أحوال البلاد والعباد!.
فهل بمثل هذه المؤشرات (المشجعة) يمكننا أن نتفاءل بـ(توظيف طاقات المثقفين أنفسهم في قيادة العمل الثقافية) كما يخبرنا السيد الوزير؟.
هل أجازف بالاعتقاد بأن السيد الوزير يعرف، مثل أغلب المثقفين السوريين أن قليلاً، وقليلاً جداً من مراكزنا الثقافية يتوفر فيها مديرون أكفاء، وهو يعرف أيضاً، الآلية التي يتم بها تعيين هؤلاء المديرين، والمواصفات المطلوبة منهم، حتى يصبحوا مؤهلين للوصول إلى مراكزهم، فهل سيجري نسف هذه الآلية، واعتماد آلية بديلة وجديدة، استناداً إلى مبد (وجود الرجل المناسب في المكان المناسب) وإتاحة الفرصة والحرية كاملتين أمامه لإطلاق طاقاته ومواهبه وخياله؟ لكم نودّ أن يحصل ذلك؟!
نفيد من ذلك كلّه إذاً، بوجود استراتيجية ثقافية يُعمل بها عندنا، وهذه الاستراتيجية تحكم مجمل أوجه النشاط الثقافي في سورية، على عكس ما يودّ أن يوحي به وزير الثقافة. وهي تتمثل وتتجسد أساساً في آليات ووسائل الضبط والمنع والرقابة المعمول بموجبها، (والخطوط الحمر) الكثيرة، التي يُمنع الاقتراب منها وتناولها، تحت طائلة المسؤولية والعقاب الرادع. وأي حديث أو دفع بعدم وجود هذه الاستراتيجية، وهو ذرّ للرماد في العيون، أو سعي، لا طائل منه، لإيهامنا بعدم وجودها، أو تقديمها تحت يافطة (لا استراتيجية)!.
وقد يقع حديث البعض عن أن (الحياد أكثر تعقيداً ومرونة من أن تُعاش وفق خطة مرسومة مسبقاً) في (شبهة) رفض هذه (الاستراتيجية) تحت عنوان رفض أيّ، وكل استراتيجية مسبقة. أما الحديث عن (استراتيجية) تكليف كتّاب بتأليف روايات عن المرأة أو الطفولة أو العمال والحب والثأر، فهو قول مرفوض وغير مستساغ، الغرض منه تسخيف القضية برمتها، عبر الخلط بين العمل الثقافي، والعمل الإبداعي الذي لا يمكن أن يخضع قطعاً، لأي ضبط أو توجيه.
ولكن هل ثمة ما يمنع مثلاً من إخضاع الترجمة إلى (خطة مسبقة) تركّز على عناوين أو قضايا محددة، لتشجيع المترجمين على تناولها وتقديمها للقارئ السوري والعربي؟ وهو ما قامت به وزارة الثقافة مشكورة فيما مضى.
وهل ثمة ما يمنع من التركيز على مشاريع ثقافية محددة، وتشجيع الباحثين أو دور النشر على الخوض فيها بتشجيع من الوزارة أيضاً.
وإذا أخذنا بتعريف مصطلح (الاستراتيجية) الذي يقول بأنها (علم وفن توظيف القوى السياسية، الاقتصادية، النفسية والعسكرية لأمة ما، لتوفير أقصى الدعم لسياسات محددة في السلم والحرب) لأمكننا استناداً إليه اشتقاق تعريف خاص بالاستراتيجية الثقافية، لمجتمع أو دولة أو أمة ما، وهو ما لا يمكن فصله على أية حال، عن مجمل السياسات المعمول بها في الحقول كافة، لدى هذا المجتمع أو الدولة.
أما إشارة السيد الوزير إلى (الصروح التي كلّفت المليارات)، فبصرف النظر عن أنها أُهملت، أو أُهدرت أموالها، (ولست من أنصار هذا الرأي)، فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن تشييد الصروح والمنشآت، على أهميته، لا يكفل وحده أن يصنع ثقافة أو ينهض بها، مثله مثل الصروح والمنشآت الرياضية، التي كلفت المليارات أيضاً، لكنها لم تصنع رياضة، ولم تنهض بالواقع الرياضي في بلدناّ. فالبحث عن (العلّة) يجب أن يكون في مكان آخر إذاً؟!
الجمل
إضافة تعليق جديد