رحيل البريطاني كريستوفر لي.. 70 عاماً من التمثيل المدهش
من أين يبدأ الكلام عن البريطانيّ كريستوفر لي؟ التمثيل، أو الإنتاج، أو الغناء، أو الموسيقى، أو التصوير الفوتوغرافي، أو الخطابة؟ من أين يدخل المرء في الحياة المديدة لفنان تنتهي حياته بعد 16 يوماً فقط على بلوغه الـ 93 عاماً؟ أي نوع سينمائي يُمكن أن يكون مفتتح نصّ يستعيد بعض سيرته المهنية: شخصيتا دراكولا وتشارلوك هولمز، أو الأدوار المنضوية في خانة الإنتاج الضخم، أو تمثيلٌ ممتدّ على 225 فيلماً؟
يرحل كريستوفر لي في 7 حزيران 2015. أهو تقصيرٌ صحافيّ، أو تأخّر في إعلان النهاية؟ المسألة مرتبطة بتاريخ عالَمٍ وصناعة، يمتلك الفنان البريطاني (مواليد لندن، 27 أيار 1922) قوّة التأثير فيهما، بطريقة أو بأخرى. يُقال إن كثرة الأفلام تُشكّل عائقاً أمام استعادة سينمائية لمهنيّ محترف في تقديم أدوار، وفي منح شخصيات أساسية في سيرته الفنية ملامح بشرية راقية. يُقال إن لاشتغالاته الأخرى تفاصيلها الإبداعية المتوافقة ومزاجاً شخصيا في تعبير وبوح. يُقال إن التنوّع الفني تمرينٌ على ابتكار منافذ لطاقة تضجّ حياة ورغبات وانفعالات، وتحتاج إلى أدوات ترسم للفنان نفسه مسارب تعكس شيئاً منه. لكن الأهمّ كامنٌ في أن لكريستوفر لي الممثل تناقضات في ممارسته التمثيل، تبرز في تناقضات الشخصيات.
حكايته مع دراكولا مروية على لسانه. تُفرَض الشخصية فرضاً عليه. يأنف منها أو من ترجمتها السينمائية. لا يريد تبديل الشخصية الأساسية المكتوبة. لكن السيناريوهات لا تأبه بالمكتوب الروائيّ، لأنها تجارة وصناعة وأعمال ومال. الزميل هوفيك حبشيان ينقل عنه كلاماً يقوله له ذات مرة في مراكش، فيتحوّل الكلام إلى شهادة مرتبطة بمعنى صناعة الصورة وتجارتها. يروي أن منتجين يقترحون عليه 5 أو 6 حلقات من «دراكولا»، وأن الجزء الأول لم يكن جيداً، «لأن الكونت دراكولا في الكتاب رجل عجوز بشاربين، ولا يُلقي معطفاً على كتفيه». يُعلن عدم تحبيذه التحوّل الشكليّ في الشخصية. يُصرّون عليه. يرفض ويتعنّت، لكنهم يستمرّون في الضغط: «هذا غير ممكن. هذا مستحيل. يجب عليك أن تلعب هذا الدور». يعترف أنه بعد حين يكتشف سرّ الإصرار، مشيراً إلى بيعهم الفيلم من الأميركيين مع اسمه مكتوباً في أعلى الملصق الافتراضي. يتشدّدون إزاء رفضه، فيقولون له: «هل تريد أن تكون مسؤولاً عن بطالة 90 شخصاً؟». لكن، ألا يجدر التنبّه إلى ناحية أخرى في الإصرار، لعل المنتجين أنفسهم لم يفهموها جيداً، أو لم يُعبّروا عنها؟ ألا يمتلك كريستوفر لي ملامح تمثيلية تتيح له إبداع الشخصية هذه على الشاشة الكبيرة؟ ألا تؤكّد تأديته الشخصية نفسها في أفلام عديدة منتجة بفضل أموال شركة «أفلام هامّر للإنتاج» صوابية هذا التوجّه؟
يمتهن كريستوفر لي التمثيل كأي مهنة يُمكن للمرء أن يُشغَف بها. التنويع المتراوح بين أفلام شخصيات وأفلام ذات ميزانية ضخمة وأفلام معقودة على فنّ التمثيل، يريد أن يجعل التنويع ملاذاً يحتمي به من روتينية الأداء. من «حرب النجوم» بأفلامها الجديدة الثلاثة (أول فيلمين لجورج لوكاش في العامين 2002 و2005، والثالث بتوقيع دايف فيلوني في العام 2008، مانحاً صوته فيه لشخصية الكونت دوكو) إلى «سيّد الخواتم» (5 أفلام للمخرج النيوزيلندي بيتر جاكسون مُنجزة بين العامين 2001 و 2014) تتوضّح تلك الصورة التمثيلية القادرة على الاحتماء من تكرار يجتهد الممثل للخروج منه إلى مناحٍ أدائية تجديدية، من دون أن يتوصّل دائماً إلى تحقيق مبتغاه. لعلّ هذا كلّه متأتٍ من منابع متفرّقة: دراسة الأدب الكلاسيكي واللغتين اليونانية واللاتينية، ثم تجربة عسكرية تفضي به إلى التمثيل. لكن المنبع الأهمّ اشتغاله العملي في أعمال مستلّة من مسرحيات شكسبير.
في العام 1948، يُطلّ كريستوفر لي على الشاشة الكبيرة للمرّة الأولى في حياته: «رواق المرايا» لتيرينس يونغ. في العام 2014، يظهر للمرّة الأخيرة على الشاشة نفسها، بفضل «هوبيت: معركة الجيوش الخمسة» لبيتر جاكسون. 70 عاماً من التمثيل، يتخلّلها إصدار أسطوانات عديدة. حياة ممهورة بأختام سينمائيين ذوي براعة في التفنّن باللعب البصريّ عبر كاميرات تخترق المحجوب مرّة أولى، وتلعن خمول الدنيا مرّة ثانية، وتُخلخل أركان سكينة مسطّحة أو مبتذلة مرّة ثالثة، أو توثّق معنى جميلاً للإنتاجات الضخمة مرة رابعة.
نديم جرجوره
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد