رحلة الألف إلى النون: نص أدبي صوفي لنبيل صالح
المخاطبة
سلاماً أيها السكون، سلاماً أيها الخريف، يا صمتاً مليئاً بالأشباح الخافتة لغلالات الموت البيضاء... كتاب ممتلئ بأنواع الفاكهة المقطوفة: رمانة مكتظة بالزحام، كمدينتي. ثمرة تين يسيل العسل منها كفم الأنوثة المندّاة لحظة الحب. إجاصة ترتدي سروالاً ضيّقاً. تفاحة حمراء لمجد الخطيئة. عنقود من عنب المحبّة. أتناول حبّة وأضغطها بين الإبهام والسبابة فتدمع عينها رحيقاً كالروح «الله رعشة ودمعة لطيفة» أواصل هصر المحبة، أقصد الحبة؛ تخرج بذرتها ريانة كالحياة في راحة يدي:
ـ أيتها البذرة، أيتها البذرة، أنت بي، أم أنا بك؟
ـ هو الموت يفصلنا والرغبة توحدنا.
ـ ولكن، ما أنت تحت حجاب الرؤية؟
ـ الحرف.
ـ وما وراء الحرف؟
ـ ليس للحرف وراء ولا أمام. ليس للحرف مكان يحدده أو زمان يجمده، فهو منها كالماء ودويه، هذا من ذا. وذا من هذا، ثم كالزبد يطفو المعنى على وجه الماء.
ـ كيف أصل؟
ـ بالمجاهدة والارتحال تصل إلى شجرة المعرفة.
ـ ومن أين أبدأ؟
ـ تمسك بحبل «نون والقلم وما يسطرون»
أطبقت راحتي على البذرة ثم رفعتها إلى مستوى فمي وتركتها تتدحرج ساقطة في حلقي: الكون بي وأنا في الكون.
الارتحال
من «السقوط الثاني» بدأت رحلتي متحرراً من قيد الجهات. فمشيت يوماً وليلة. وكان الوقت أرخى كآبته على قدميّ، وكنت أسمع هسهسة الأورق المتساقطة وأنا أطؤها في المّمر الطويل والضيق، تشاركني طريقي هذه البزّاقة اللزجة. وأنا أعلم أن الشمس على وشك الانطفاء فأسرع في ضمّ الحروف نحو نفسها حتى أكاد أعرف نفسي لحظة الغروب.
ها غدت الحروف أشدّ كثافة فوق زجاج روحي، ونقاط الكلام لما تهطل على ظمأي بعد.. متى أنتهي من عبور هذا الرواق الذي يمتد إلى حيث ينتظرني قطار الشرق بعرباته المليئة بالحكايا.. ألف عربة، وعربة تقودها. وكل أولئك المسافرين وهم يتسلّون بشرنقة بذور النحو ويلعبون بأحجار العروض والجناس والطباق ومن ثمّ يرمون بقايا القشور والعلب الفارغة على هامش الطريق فيأتي كل هؤلاء البلهاء والمغفلين بمعاولهم جامعين ومصنفين بقايا الركام والخطايا..
هاتبلّج الفجر على مشارف بيداء الكلام والعتمة تتناءى عن قلبي.. ولم أتهيّب من دخول هذا التيه الذي بي.
التيه
كان الرمل يخطو من تحتي بنعومة تاركاً سخونته اللذيذة في باطن قدميّ. تيه أملس وقاع أخرس يمرّ بين ساقيّ، وأنا واقف أرتحل بلا رحيل، والبلاد تأتيني كماء ينسرب من بين أصابعي فلا تبتل، وأنا بين الحقيقة والوهم أسافر قاصداً سيّد الحروف: «أيها القلب، يا قلبُ، ذهب الأمس والمستقبل في صلب الزمن وهذي ساعة اللذة.. أريد حبّاً لهذا اليوم..» وجاءني هاتف من جانب التيه أن «اقتل ظرف الزمان والمكان تثمر نفسك»، فناديت: إنما في القتل أعيش. بوركت يا قايين يا سيّد الحرف في أول تجلٍّ، وليقدس اسم أبي تراب في آخر تجلٍّ. «بالدم نتطهر من الموت» وتغدو الأرض إقليماً يعج بالحياة..
ومازالت البيد تطوى من تحتي إلى أن لاحت من بعيد تباشير مئذنة وقبتها فقلت لذاتي: هي ذي ألفٌ ونونها! ومشيت إليها دون أن أخطو حتى صرت بالباب، ثم قرعته، بأصابع فضولي قرعت؛ ثم ولجت صحن المسجد وحفيف ثيابي يذكرني بعريي. وإذا بشيخ واقف كأنه يشبهني منذ الأزل. هكذا خيّل لي. بادرته بالكلام:
ـ ما كنت أظن نهاية تعبي تقودني إلى طريق السماء أيها السيد!.
أجابني: ـ لا تسيء الظن بنا قبلما تسمعنا أيها الطالب، فإنما رمز الألف والنون متصل بالأرض لا السماء. ولا تأخذنك الظواهر عندما تبحث عن باطنك..
ـ حسناً قلت. ولكن كيف يمكنني الخروج من الرمز إلى المدلول ومن المجرّد إلى المحسوس؟
(وكنت قد جلست على حافة بركة الماء وكانت برودته في فؤادي وزرقته في عينيّ فأحسست انتعاشاً في جسدي وبدأت أتلوى كسمكة جذلى).
قال لي: ـ اقرأ الماء!
قلت: ـ أنا القارئ والمقروء.
ردّد: ـ اقرأ سورة الماء.
فقرأت: ـ من الماء خرجت، وإلى الماء أعود، الماء زماني الذي أسبح فيه؛ أغرق فيه. وهذا الطمي مدينتي: حلازين ورخويات وعلق «إنا خلقنا الإنسان من علق».
البحر مليء بالكائنات، وأنا واحدها: قرش فتاك نهاراً وفي الليل قنديل بحر.. قلبي يخفق موجاً، يخفق نوءاً والقاع ساكن. قواقع الحلم تطفو زبداً يصطخب موجاً عارماً.. موجي يلاقح موجهُ، وروحي القلقة تعنق بين الماء والزبد. داخل ماء المشيمة المغتلم أسبح متكوّراً على نفسي. أيتها الأم «تيامات» افتحي شدقيك وابتلعيني. اهتزازات الظلام المائي تصطفق مع نفسها. صراعاً يتعالى نشيدها. صراع طبقات صوتية، طبقات مائية، أرضية، جلدية، وحفيف النشوة بين ثناياها، دلفين مرح يهوي نحو أعماق ضوئية كابية والأسماك جذلى في أنوثة الماء.. وهذا السلمون مازال يمضي رحلة الشتاء والصيف ولا جدوى!.
تبسم الشيخ وقال:
ـ الآن قل ما بدا لك فأنت مجاب إليه مادمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك وإصابة غرضنا بك.
فقلت: ـ «يؤذن لي في كاف المخاطبة وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض وأركب جدد القول من غير تقيّة ولا تحاش».
أجاب: ـ لك ذلك وأنت المأذون فيه.
قلت: ـ ما الصوت؟
قال: ـ إنما الأصوات روح الإنسان مجتمعة في حلقه متفرقة في الأسماع. فإذا أردت سبر سرائر البشر فانظر خصائص طبقاتهم الصوتية.. ألا ترى فعل هدير الفحل بأنثاه وصوت المطرب بالمرأة؟ إذ هناك حالة من المزاوجة بين اللسان والأذن، فإذا صادف وكان السمع في حالة أنوثة والصوت في حالة ذكورة فإنها تنتج معرفة.
وأعلم أن لكل حرف ملايين لا تحصى من الطبقات الصوتية ومن خلالها تقرأ المرء عندما يطلق كلمته: كلمة سوية، كلمة منحرفة، غامضة، واضحة، مهموسة، مهجورة، باردة، نارية، عاقلة، مجنونة.. يطلقها من عقالها فتأخذ شكل الجوف الذي خرجت منه، لذلك ترى أن اضطراب اللسان إنما ينتج عن اضطراب في النفس.
قلت: ـ ما النقطة التي تتولد عنها الأصوات جميعاً؟
قال: ـ نقطة الهمزة عندما تمتد وتستطيل حتى تغدو ألفاً. إذ لا سبيل للنطق بأي حرف مجرداً من الهمزة، ساكناً كان أم متحركاً؛ فالألف حرف غريزي يخرج من أعمق أعماق اللهاة كالروح.. لذلك كان أول شيء عبده الإنسان.
ـ وكيف تثبت ذلك؟
ـ الله ـ الآه ـ آه ـ آ ـ ء.
ـ وما هو سرّ الألف؟
ـ جوابك ليس عندي.
ـ وأين أطلبه؟
ـ أذهب إلى بلاد الشام وتوجه نحو باب الأربعين في حلب الشهباء ثم اسأل عن مرقد السيد أبي عبد الله الحروفي.
ـ ولكن، كيف أتتلمذ على يد ميت؟!.
ـ كل شيء يبدده الزمن سوى الكلمة فهي حيّة لا تموت، وأبو عبد الله يسري في حروفها، فاستنطق تربته تراه ظاهراً في المحادثة باطن في التخاطر، قديم في الدهر حديث في اللسان.
المفازة
رمحت نفسي في الشوط الثاني، والأرض تنسحب من تحتي كبساط من الفصول. الزمان لعبة. حبيبات الرمل الحادّة تجرّح قدمي تاركة أثراً من الألم يقودني إلى خشبة الألف. إنه الطريق إلى أبي عبد الله لأقرأ على يديه كتاب الخلود.
ومررت في طريقي بفزّاعة ترتدي جبّة سوداء من ماركة «زرادشت» فقلت: ـ ما أنت أيها الشيء؟.
فأجاب: ـ أنا المكان والزمان. أنا نهر الليل والكواكب أسماكي، وهذا القمر قلبي الذي فرّ مني احتجاجاً على السدود الكثيرة فوق منعطفاتي الوهمية!
ـ وما هي حكايتك؟
إنما نحن نتفٌ من حكاية نرويها ويروونها، وهذا الرويّ لا يكتمل، لأن القصيدة مطلقة خارج الزمان والمكان، وأنا لم أغدُ المطلق بعد. فكيف أخرج القصيدة من جراب أصغر حجماً منها؟.
ـ إذن وبعد؟
ـ لا بعد ولا قبل، كل شيء يتكرر داخل دائرة مفرغة، وهؤلاء الفارغون يشعرون بالامتلاء. الامتلاء بالفراغ، وأنا ممتلئ بالخواء.. لم أعد راغباً بالشراب والطعام. مللت النساء. لا أومن بالله ولا أحب الشيطان، ولكن، ولكني أبحث عن شيء ما، خارج الكفر والإيمان، خارج الأبيض والأسود، متحرراً من جدلية الأشياء واللعب..
ـ عليك بالحرف..
ـ ماذا!! إنما أنا على شفا حرف هارٍ وها قد جاء الغروب فاتحاً شدقيه، النهار عن يساره والليل عن يمينه، وأنا داخل في فم الخراب...
تركته ومضيت متعجباً: يا لهذا الشيخ، أما يعلم أن الحرف حيّ لا يموت!؟
قاب قوسين
كنت على صراط الكشف أسير، وأنا عالمٌ بأن الألف اسم لسرّ موجود، قد ضُرب من دونه حجاب، وأُغلق عليه الباب، وعليه بالكتمان والطيّ مسحة من العدم، وهو مع ذلك موجود العين، ثابت الذات، محصّل الجوهر. فباتصال الزمان وامتداد حركة المادة يتوجه نحو غاية كماله، ولابد له إذاً من النموّ والظهور، لأن انتهاءه إليهما ووقوفه عليهما. ولو بقي مكتوماً خافياً أبداً لكان والمعدوم سواء، وهذا غير سائغ، أعني أن يكون الموجود معدوماً.
وأوغلت متفكراً في «نون والقلم» حتى تداعت إلى ذاكرتي صورة المئذنة والقبة فأدركت أني هو الألف، أحمل موتي والهاوية تسبقني. أقفز فوقها فتفرُّ من تحتي، لأني أطلب الموت ولا أريده، فأنزعج من طلبي وأتحد بإرادتي. وهذه النون هاويتي منذ الأزل، ألتفت إليها وعنها، لأنها باب الأبواب، أمرّ فيها ومنها، داخلاً وخارجاً، حيث تستوي الحالتان في الجوهر وتختلفان بالتلوين، ويكون التفصيل في قوس قزح، عندما يشكل نوناً مقلوبة خارج حدود البصر وظواهر الممكنات...
ولما دخلت مخدع الحروف، تلجلجت في أسرّتها؛ الحروف تلجلجت وتأوّهت وكلٌ منها تطلبني بصوت مختلف كيما أجتمع بها، فاحترت ووقفت كالمجذوب في مجمع البحرين، ليس لعجزٍ وإنما لأمرٍ آخر لا يوصف إلاّ بالمعاينة...
وعندما وقفت للمراقبة والمطالعة لمعرفة غيب الهوية وغيب المطلق، وكانت الألف وقتها ترتعش بانتظار الفيض الأقدس، انزاح عني الحجاب ورأيت اللوامع في اللوح المحفوظ داخل الغلالة.. ثم طرف لحظي ورأيت النون كالأميرة بين الحروف تنقبض وتنبسط كالقلب؛ فتدانيت منها حتى صرت قاب قوسين وأدنى، ثم تفرّست في عين اليقين المغتلم وشممت رائحة التراب فيه. إلى أن انتبهت إلى برعم النقطة المتفتح في يومه الرابع عشر، وكأنما يدعوني إلى أن أنفخ فيه من روحي، فدنوت وتدانيت في لحظة كان القلم سيترك نقطته على لوح النون، وفجأة تراخت أصابع الموت الأبيض وهوى القلم في الفراغ، فعرفت أن النون خنثى وأني القاتل والمقتول..
اليقين
ومازلت أهوي نحوي، إلى القوة المباطنة للأشياء المخلوقة، حتى استقريت في حضرة القطب فاتصلت معه بوحي التخاطر مناجياً:
ـ أيها السيد، يا أبا عبد الله، من أعبد؟
أجابني: ـ اعبد نفسك في غيرك واعبد غيرك في نفسك، فالإنسان بداخلك هو قدس الأقداس والجسد كعبته.
فتساءلت: ـ ولكن ما هو رمزي؟
فأجابني: ـ الحرف رمزك والنقطة سرّك. فأنت حرف الألف في استقامته.
فقلت: ـ قد علمت ذلك، وإني أريد زوجاً أسكن إليه.
فمدّ يده إلى جوفي وأخرج ضلعي من فؤادي ثم قال: ـ هذه النون فافن فيها فهي نفسك وضدك، ولا تنسى أن الفناء غير الحلول فالتفت إلى التفريد ساعة الخلوة.
ـ الآن أدركت أن النون إنما هي ألف محنية، ولكن ما هو سرّ الألف أيها السيد؟.
ـ «لما شاء الألف سبحانه من حيث أصواته الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله لكونه متصفاً بالوجود ويظهر به سرّه إليه: فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة. وقد كان الألف قد أوجد الحروف كلها وجود شبح غير مسّوى لا روح فيها فكانت كمرآة غير مجلوّة. ومن شأن الحكم الألفي أنه ما سوى محلاً إلا ويقبل روحاً إنسانية عبَّر عنها بالنفخ فيها؛ وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوّاة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولما يزل. فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم فكانت النون عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة.. وكانت النقطة هي القوة التي نفخها داخل النون، فارتعشت النون واضطربت أحشاؤها طرباً بعدما انضوى الوجود بداخلها... فالنقطة في النون هي بمنزلة إنسان العين من العين، والألف داخل في، أو خارج من حجاب النقطة بدون أي كيفية لأنه أرسل نفسه بنفسه لنفسه لإدراك نفسيته الباطنة من خلال مظهره الوجودي في كلية الحروف، فسمي هذا المذكور إنساناً وخليفة لعموم نشأته وحصره حقائق الحروف داخل الكلم. فسبحان من خلق الحروف وهو عينها، وعين الألف والنون نقطتها».
قلت: ـ فالألف هو العلة المباشرة لكل تغيير يطرأ على الجواهر والأعراض؟.
قال: ـ وليس هناك غير مبدأ واحد للوجود هو الألف الذي هو نور الأنوار، وعتمة النون هي الدرجة الأخيرة من الوجود النوراني للألف.
قلت: ـ ونقطتها؟
قال: ـ النقطة أصل كل حرف والحروف كلها نقط مجتمعة فلا غنى للخط عن النقطة ولا للنقطة عن الخط، وكل خط مستقيم أو متحرّف فهو متحرك عن النقطة بعينها.
النون
ثم أني التفتّ إلى النون اللدنة وهي تزداد التصاقاً بي وأنفاسها الساخنة تهبّ على وجهي فأسمع تنوينها المصوّت كصليل الخمر في كأس من الفضة.. انحني أيتها القوس انحني وأطلقي سهمك الألفّي نحو الأفق، وأنا هو الأفق.. فتأوّدت وتمايلت ثم أطلقت من فمها العذب تنويناً موحياً:
النون: ـ ما يجدله الحرف تأخذه الكلمة ـ حزمة من الأصوات المتينة ـ إلى مدينة الكلام.
الألف: ـ أنت المدينة وأنا بابها، فكم أنك قريبة إلى نفسي أيتها الناعمة كموجٍ رَهوٍ..
النون: ـ أنا من السلالة الرابعة بعد العاشرة في ترتيب العائلة الأبجدية، والابنة الأخيرة في أسرة (كلمن) ولهذا غدوت الإطلاق الأخير لروح الكلم وصوت اللاشعور الجمعي في شرايين الكون.
الألف: ـ وأنا المُحدَّد، ولدت من اللامحدد ثم خنته بتعددي اللانهائي، وخيانتي نتاج حتمي لشهوة المعرفة التي تسكنني.. وأنا حرف غريزي أتجلّى في حنجرة كل المخلوقات عند حالات الألم والخوف واللذة...
النون: ـ ما أصدق هذا الشيء الوحشي فيك، وقتما أسمعك تستسلم أطرافي وتسري الرعشة كالنسغ في شراييني فأجدني مطواعة في حالات، الجرّ والنصب والرفع.. وأطلق آهات كتلك التي تخرج من جرس الكنيسة نحو السماء كيما تعطي مطرها..
الألف: ـ عندما يهطل المطر يلامسني النعاس فتأخذني سنة من النوم وأتكور على نفسي حتى آخذ شكل الهمزة ـ ء ـ في الحلم عندما تحتويني أيتها النون.
النون: ـ أنت ذو النون إذن؟.
الألف: ـ وأنت حوت يونس، إلى حوائك مرجعي ونعم المصير.
ثم أني تناءيت عنها ثم تدانيت واستقمت ثم انحنيت كيما أوقظ روح الحرف وأسمع نشيده الأزلي بداخلي... إلى أن سألني أبو عبد الله. أبو عبد الله الحروفي سألني:
ـ ما الذي تفعله؟
ـ إني أصلّي لأجل رفعة مقامك!
ـ لا حاجة للصلاة من أجلي لأن ذلك يثير غضبي!
ـ ولمن أصليّ إذن.
ـ «صلي لنفسك، للصلاة ذاتها...» فما وحَّد الألف غير الألف وما عرف حقيقة التوحيد سوى النون.
وعندها عرفت أني أنا هي وهي أنا في جوهر واحد وما النون سوى ألف ملويّة. ثم أدركت أن رحلتي كانت منّي إليّ، فشكرت سيّد الحرف وخططت فوق شاهدته المنتصبة عند باب الأربعين:
«على الأرض ستتمدد الكلمة، على التراب سترتمي، لتأخذ شكل البذرة وتتنامى خارجة من الأعماق، إلى أن يتفتح برعم الألف وتنمو شجرة المعرفة وتفيء بني البشر».
* النص من مجموعة "حارس الليل" للكاتب نبيل صالح الحائزة على جائزة الإبداع العربي بالقاهرة سنة 1998
ـ نشر النص في " مجلة ألف للكتابة الجديدة" التي أسسناها في دمشق أنا ومجموعة من كتاب الحداثة تحت اسم "جماعة ألف" عام 1990 وكنا نفتتح كل عدد من أعدادها ال 23 بجملة النفري التي تقول: "ياعبد، كل الحروف مرضى إلا الألف أما تراه قائما لايميل"
إضافة تعليق جديد