حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (4-7)
الجمل: ظهرت في العصر الحديث مدارس جديدة في التفسير سلكت طرقاً جديدة في الكشف عن معاني النصوص، وركزت على أبعاد جديدة نادراً ما نجد نتفاً منها في التفاسير القديمة.
وأبرز هذه المدارس:
1- مدرسة محمد عبده ـ رشيد رضا :
وقد ظهرت في تفسير المنار لرشيد رضا، وتفسير جزء عم لمحمد عبده. وركزت على جانب الهداية في القرآن، وما عرضه القرآن من سنن نمو الأمم والمجتمعات وترقيها، أو انحدارها وتدهورها، وحملت حملاً عنيفاً على الإسرائيليات والانحرافات المبثوثة في أغلب التفاسير القديمة، وعلى إخضاع النص القرآني للمصطلحات التي ظهرت عند الفلاسفة والمتكلمين إثر الاختلاط الثقافي بين المسلمين وغيرهم، وعلى إخضاع النص القرآني لآراء الفلاسفة والمتكلمين وإشارات الصوفية ونحو ذلك. وحل محل هذا كلّه مواكبة التفكير العقلي الجديد الذي عاصره رواد هذه المدرسة.
أما من الوجهة المذهبية فقد جهد صاحب (المنار) أن ينتصر لمذهبه كلما وجد لذلك مسوغاً، حتى لو اضطره الأمر إلى أن يستدل لقوله بأحاديث ضعيفة أو موضوعة أحياناً، كما هاجم المذاهب الأخرى بعنف لا ينسجم مع أجواء التفسير. وعلى العموم فقد ظهر صاحب (المنار) في تفسيره داعية إصلاح كبير، وليس مفسراً وحسب.
2- مدرسة سيد قطب :
في تفسيره (في ظلال القرآن) الذي استفاد من البعد الأدبي في تصوير المعاني القرآنية تصويراً حياً ومتحركاً، وتفاعل مع الهدف القرآني الأكبر، وهو الهداية، ليتحرك مع النصوص في قيادة التغيير الاجتماعي الثوري، وقيادة الإصلاح الديني الأمثل فالقرآن كتاب يقود الحياة، ويعنى بنظام المجتمع، وليس هو مفردات جامدة محدودة تحيط بها كتب التفسير.
لقد كان الشهيد سيد قطب موفقاً في تحقيق نظريته في التفسير والتي جعلت من تفسير القرآن « حياةً، وليست حكاية الحياة » كما عبر عنها هو. كل ذلك بعيداً عن التعقيدات اللغوية والتأويلات البعيدة، بعيداً عن الخرافات والإسرائيليات، بعيداً عن البواطن والإشارات، بعيداً عن المشاحنات المذهبية.
3- مدرسة التفسير العلمي للقرآن :
هكذا اصطلحوا على التفاسير التي عُنيت بمواكبة النظريات العلمية الحديثة في الفلك والطب والكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والنبات وطبقات الأرض ونحوها. والحق أن هذا الاصطلاح غير دقيق، فوصف المنهج بأنه « علمي » أعمّ من هذا...إنه ينبغي إعادة النظر في هذا الاصطلاح.
لقد حاولت هذه التفاسير أن تجعل من النظريات والكشوف الحديثة تأويلات أو مصاديق للنصوص القرآنية، كما انطلقت في ظلال المفردات القرآنية لتسوق ما توصل إليه العلم الحديث حول هذه المفردات، من قبيل: السماء، الأرض، الذرة، النحل، النبات ونحوها.
ولعل أتم أمثلة هذه التفاسير هو تفسير (الجواهر) للطنطاوي. ولكن لا يفهم من هذا أن هذا التفسير قد اقتصر على الكشوف التجريبية والنظريات الحديثة، بل هو تفسير يعطي المعنى المبسط الموجز للنص القرآني أولاً. ثم بدلاً من أن يستغرق في البحوث الفقهية والكلامية أخذ يستغرق في البحوث العلمية الحديثة، كشواهد على الآيات مرة، ونماذج من النِعَم والآلاء مرةً أخرى، ولقد رأى أن هذا المنهج هو الذي يجب أن يميز تفاسيرنا العصرية عن تفاسير المتقدمين، فيقول مثلاً متسائلاً: كيف ساغ للمسلمين أن يناموا بعد الأولين السابقين من الأئمة الأعلام ؟ لقد ظنوا أن الأئمة رضوان الله عليهم ما تركوا قولاً لقائل في جميع العلوم، لكن فاتهم أن الأئمة اعتنوا أشد العناية بما هو أمس بالعبادة، اتكالاً منهم على عقول الأمة في الباقي...
وإذا كنا نرى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إن الترتيب واجب في الوضوء، مستنتجاً ذلك من ترتيب الأعضاء في القرآن، ويوجب النية مستنتجاً ذلك من آية في آخر القرآن ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين )... ونرى أبو حنيفة يقول : لا نية للوضوء، لأنها لم تذكر في القرآن... ونرى أنهم اختلفوا في اثنتي عشرة مسألة في فرائض الوضوء، فانظر كيف كان جدهم واجتهادهم وحرصهم على الدين وعلى ارتقاء الإنسان في أموره الدينية... فهلا نظر المتأخرون في ما أودعه الله في القرآن وحققوا كما حقق آباؤنا وأجدادنا ؟
حرّضت السُّنة على قتل كل حيوان يؤذينا، فليبحث علماء الأمة في المكروبات القاتلة لنا قياساً على ما عُلِم من الكلب العقور والفأرة... ولو أننا وجدنا كلباً يعقر الناس لوجب علينا قتله، هكذا يجب علينا أن نبحث في الكلاب المستترة تحت أجسامنا، وهي المكروبات والحيوانات الذرية الصغيرة، ولنخصص لها الأطباء(1). إنه يؤكد على أن تفسيره قد اتحدت فيه مطالب الدين والدنيا والعقل والنقل، كما اتحدت أضواء الشمس السبعة فصارت لوناً واحداً فأشرقت الأرض بها(2).
ويحمل بشدة على الذين يظنون أن هناك تناقضاً بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فيقول: ذلك ناجم من قلة العلم ووفرة الجهل، فمن جهل شيئاً عاداه، فالمتبحر في العلوم ينفر من الدين لجهله به، ظناً أنه ينافي علمه، والعالم بالدين الجاهل بما حوله الغافل عن خلق السماوات والأرض وعجائبها يظن المسكين أن من عرف هذه العجائب كان عدواً لله، وأن الله يغضب عليه، وما درى المسكين أن هذه السماوات وهذه الأرض من خلق الله، والله لا يحب المعرض عن التفرج على صنعه، ويحب المفكرين ويقول: (إن في خلق السموات والأرض... لآيات لقومٍ يعقلون )(3).
ولم يقف عند هذا المدى من العلوم، بل تناول أيضاً ما يتصل بعلوم النفس وآدابها في مواضعه، فعند المرور على بعض المعجزات ينتقل إلى أثرها في التربية مع مقارنة بالتجارب التربوية الحديثة(4).
وعند ذكر مريم وعيسى (ع) في آيات آل عمران يقول ـ بعد التفسير ونقل موجز لقول بعض المفسرين ـ : أعلم أيها الذكي أني لا أريد من هذا التفسير إلا ارتقاء عقلك وسمو فكرك ونبوغ قواك وشرفك، فلتعلم أن المسيح وأمه لم يُذكرا في القرآن لمجرد الإيمان، ولا للتاريخ، وإنما هما عظةُ ومَثَل لنا، إن عيسى ومريم قد ذكرهما الله عفيفين زاهدين مبرأين من الشيطان ومن المادة التي غمرتنا، وكان عروجهما إلى الملأ الأعلى وإلى الله ليكون ذلك القول داعياً إلى أن تفكر في نفسك أن العالم الإنساني من أصل روحي، وجهاده في الدنيا ليخرج يوماً ما من سجنها إلى فسيح الجنان، ثم عالم الملائكة والأرواح... فلتجد في العلم والحكمة حتى تصبر فوق هذه الأرض وتعشق الخروج من سجن المادة، فإنك يوماً ما ستكون ( في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر ) (5).
تفاسير حديثة أخرى
هنا مجموعة من التفاسير الحديثة التي التزمت بعض مناهج المتقدمين، فجاءت فيها تلك المناهج بثوب جديد تحلى بمحاسن كثيرة، منها:
1- سهولة اللغة وملائمتها للعصر، وبعدها عن التعقيدات النحوية والكلامية ونحوها.
2- نقاؤها من الإسرائيليات والخرافات والأوهام الباطنية والتأويلات البعيدة إلى حد كبير.
3- احتفاظها بمصادر القوة في التفسير، من اللغة، والمصادر النقلية الأكثر ثقةً في الغالب، والرأي الملتزم بأصول الاجتهاد الصحيح.
4- نجاح بعض هذه التفاسير في التخلص من العصبيات المذهبية إلى حد بعيد، بل استطاع بعضها أن يخطو خطوات واسعة جداً في اتجاه التقريب بين المسلمين، وهذه فاتحة عهد جديد في التفسير.
يقول محمد جواد مغنية في تفسيره (الكاشف) عند تفسير قوله تعالى:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ...) (البقرة 2/113)
إذا كان اليهود والنصارى بحكم الطائفة الواحدة لأن التوراة تعترف بعيسى والإنجيل يعترف بموسى، فبالأولى أن تكون السنة والشيعة طائفة واحدة حقيقيةً وواقعاً، لأن كتابهم واحد، وهو القرآن، لا قرآنان... ونبيهم واحد، وهو محمد، لا محمدان... فكيف إذن كفَّر بعض الفريقين إخوانهم في الدين ؟! ولو نظرنا إلى هذه الآية بالمعنى الذي بيناه واتفق عليه جميع المفسرين، ثم قسنا من يرمي بالكفر أخاه المسلم، لكان أسوأ حالاً ألف مرة من اليهود والنصارى !! لقد كفر اليهود النصارى، وكفر النصارى اليهود، وهم يتلون الكتاب، أي التوراة والإنجيل، فكيف بالمسلم يكفر أخاه المسلم، وهو يتلو القرآن ؟! فليتق الله الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقلوبهم عمي عن معانيه ومراميه (6).
وفي تفسير هذه الآية نفسها نقل الشيخ محمد جمال الدين القاسمي (ت 1914م) في تفسيره ( محاسن التأويل ) تعليقة الرازي هنا :
قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد (ص) فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن.
ثم عقب القاسمي قائلاً : فها هنا تُسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراجل العصبية في الدين تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين...
يأبى الفتى إلا إتّباع الهوى ومنهج الحق له واضحُ
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى:
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ...) (آل عمران 3/103)
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام 9/159)
مؤاخذات على المدارس الحديثة :
تعرضت المدارس الحديثة لكثير من الانتقادات والطعون من قبل كثير من العلماء والدارسين ومن تلك الطعون:
1- إنها ظهرت بأنواع من التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية.
2- إنها انساقت وراء الاتجاه العقلي الحديث، فغاب فيها البعد الروحي أو كاد يغيب.
3- إن التفاسير العلمية خاصة أساءت حين جعلت النص القرآني مقيداً بهذه الكشوفات العلمية، لأن هذه الكشوفات عرضة للتغير والنقض، فعندئذٍ سنكون ملزمين في توجيه النص توجيها آخر لمتابعة الكشف الجديد، وليس ببعيد أيضاً أن تصبح بعض هذه الكشوفات العلمية المعتمدة اليوم، تصبح غداً في عداد الخرافات وأخطاء الذهن البشري.
4- طعون أخرى منشأها الاختلاف في المصادر النقلية.
دفاع عن المدارس الحديثة :
ينبغي أن يقال انسجاماً مع الموقف العلمي الدقيق : إنه حين تكون هذه الانتقادات دقيقة ووجيهة وجديرة بالاعتبار، فلا يعني ذلك ضرورة إبطال هذه التفاسير الحديثة بالكامل، وذلك لعدة أسباب :
1- إذا نظرنا إلى هذه التفاسير على أنها محاولات جديدة في فهم معاني القرآن وأهدافه، من غير أن تكون بدائل حتمية عن التفاسير القديمة.
2- إن القرآن الكريم لم يكن وقفاً على عصر واحد أو عصور محددة، بل هو كتاب الهداية إلى يوم الدين، ولقد نجحت التفاسير الحديثة في مخاطبة أبناء عصرها باللغة التي تناسب الأغلبية الساحقة من أبناء الوسط القارئ، إذ لا ينكر أن التفاسير القديمة تكاد تكون محصورة بين أصحاب التخصص والتحصيل العالي لما اشتملت عليه من بحوث معقدة في اللغة أو الفقه أو الكلام.
ومن المسائل الجديرة بكل عناية هي مخاطبة عموم الأمة لا خصوص طبقة معينة فيها، وهذه المزية تعد من أهم مزايا التفاسير الحديثة.
3- التفاسير الحديثة نقية من الإسرائيليات والخرافات التي ابتليت بها جل التفاسير القديمة.
4- استطاعت التفاسير الحديثة إلى حد كبير أن تتخلص من العصبيات المذهبية، وإن كانت الهوية المذهبية لكل واحد من هذه التفاسير ظاهرة دائماً، غير أنها أقل حدةً وأهدأ لهجةً وأضيق مساحةً مما هي عليه في تفاسير المتقدمين، وهذا وجه إيجابي ممتاز.
5- إذا كان يؤخذ على التفاسير ( العلمية ) إغراقها في متابعة الكشوفات العلمية والنظريات الحديثة، فلِمَ لا يُقال : أيّما أبعد عن أهداف القرآن وأشد ضرراً على الإسلام والمسلمين؛ هذه المتابعات العلمية، أم تلك النزاعات الطائفية ؟
إنه لو لم يكن في هذه التفاسير ( العلمية ) إلا إعراضها عن تلك النزاعات، لكفاها حسناً.
6- أضف إلى ذلك أثرها الملموس في إعادة الثقة بالنفس وبهذا الدين إلى جيل الشباب الذي يتابع كل يوم، وبانشداد ولهفة، نتائج التسابق العلمي الحديث، الذي يمس الحياة الفردية والاجتماعية مساً مباشراً بلا شك، وهذه حسنة أخرى يجب أن نعرفها لأهلها.
د – الدراسات النقدية وأثرها في التقريب
لم يكن النقد في التفسير موضوعاً حديث الولادة، فلقد عُرف النقد عند المتقدمين من شيوخ التفسير، فكثيراً ما يتناول المفسر أقوال غيره من المفسرين بالدرس والتحليل، مفنداً أو مؤيداً أو مقارناً. والنقد بهذا المدى ما زال شائعاً في كتب التفسير الحديثة أيضاً، وربما لا يخلو واحد من التفاسير من وقفات نقدية موزعة على جوانب متعددة. غير أن هذا الموضوع قد أصبح حديثاً موضوعاً مستقلاً قائماً بذاته، وقد صنفت فيه كتب عديدة اتسم بعضها بالشمول، وتخصص بعضها بباب معين، أو طبقة معينة. لكن الغالب على هذه الدراسات أنها اتخذت طابعاً مذهبياً بحتاً سلبها كثيراً من الموضوعية في الدراسة، والدقة في التقييم، فهي في الأغلب الأعم لا تتناول تفاسير المسلمين على حد سواء لتزنها بميزان واحد، وتقوم بدراستها وفق قواعد ثابتة مشتركة.
إذن عادت الآراء المذهبية لتفرض نفسها على المنهج النقدي أيضاً، وهذه مشكلة كبيرة تحول دون وقوف القارئ المسلم وغير المسلم على الحقيقة المجرَّدة من الأهواء والنزعات الطائفية.
إنها ظاهرة انتقلت إلى المنهج النقدي الذي كان ينبغي أن يكون علمياً نزيهاً، فجعلت منه فناً جديداً من فنون الطائفية، وطريقاً جديداً لظهورها !
ولعل أبرز عيوب هذه الدراسات النقدية، ما يلي :
1- اعتماد بعضها التصنيف المذهبي الطائفي للتفاسير، بدلاً من التصنيف على أساس الطبقات، أو على أساس المناهج المعتمدة في التفسير. مثال ذلك: كتاب ( التفسير والمفسرون) للشيخ محمد حسين الذهبي.
2- حين اعتمد بعضها التصنيف على أساس المناهج المعتمدة في التفسير، عاد فحصر الدراسة في تفاسير طائفة واحدة من طوائف المسلمين وهي طائفة أهل السنة، مثال ذلك : (كتاب تطور تفسير القرآن) للدكتور محسن عبد الحميد.
بملاحظة أن جل الدراسات النقدية في هذا الفن قام بها أساتذة من هذه الطائفة، والحق أني بحدود إطلاعي لم أقف على دراسة نقدية تتسم بالشمول لأحد من الأساتذة الشيعة باستثناء دراسة الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتاب ( المبادئ العامة لتفسير القرآن ) وقد سلك فيه هذا الأسلوب، فدرس المناهج ولم ينظر إلى الطوائف.
وإنه ينبغي لأجل الأمانة ولتمام الدقة أن يقال: إن الدكتور محمد حسين علي الصغير قد كان موفقاً جداً في كتابه هذا في قهر النزعة الطائفية ونسفها إلى الوراء حين قدم عرضاً متزناً موضوعياً دقيقاً تحكمت فيه النظرة العلمية وحدها فلم تدع للبعد الطائفي موضع قدم، فدرس التفاسير على اختلافها درساً علمياً لا ميل فيه لطائفة ولا تحامل على أخرى.
وإني لأرجو أن تعنى جمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية بهذا الكتاب، فهو تجربة ناجحة ورائدة على هذا الطريق.
3- حين عُني بعضهم بدراسة التفاسير لدى طبقة واحدة من طبقات المفسرين، خضعت أيضاً للمنظار المذهبي، فعُنيت بالتفاسير التي تعود في الحقيقة إلى طائفة واحدة وتركت غيرها من التفاسير بالمرة، مثال ذلك : كتاب ( اتجاهات التفسير في العصر الراهن ) للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب.
فلم ير الدكتور المحتسب فيه من تفاسير العصر الراهن سوى: ( محاسن التأويل ) للقاسمي، و( التفسير الحديث ) لمحمد عزة دروزة، و ( التفسير القرآني للقرآن ) لعبد الكريم الخطيب، و( المنار ) الذي جمع مدرسة محمد عبده ورشيد رضا، ثم تناول التفاسير العلمية.
في حين حفل العصر الحديث بتفاسير أخرى جدية بالدراسة عاصرت تلك التي ذكرها، أو هي أحدث منها، ومن هذه التفاسير: ( آلاء الرحمن ) لمحمد جواد البلاغي، و ( الميزان ) للسيد الطباطبائي، و( الكاشف ) لمحمد جواد مغنية، و ( البيان ) للسيد الخوئي الذي وضع فيه معالم منهجه في التفسير بشكل نهائي.
4- تسليط الضوء على واحد أو أكثر من تفاسير هذه الطائفة أو تلك – بغض النظر عن قيمته العلمية التحقيقية ـ وإطلاق الوصف عليه بأنه يمثل المنهج التفسيري عند هذه الطائفة.
إنه لا يوفق للصواب من ينتخب تفسير الثعلبي مثلاً ليحدد من خلاله منهج أهل السنة في التفسير، إن صح هذا التعبير، ومن خلال موقفه من هذا التفسير يطلق أحكامه فيقول : إن أهل السنة لم يتخطوا التفسير بالمأثور، وأنهم أغرقوا في الإسرائيليات، وتذبذبوا بين الظاهر والباطن والتنزيه والتجسيم، ونحو هذه الأحكام التي قد تصدق على تفسير الثعلبي، لكنها لا تصدق على غيره.
ونفس القدر من الخطأ يرتكبه من يجعل المنهج الإمامي في التفسير ممثلاً بتفسير القمي مثلاً أو تفسير العياشي، من دون أن يلتفت إلى أن هذين التفسيرين وتفاسير أخرى مثلها هي من التفاسير الروائية التي يجمع فيها أصحابها الغث والسمين بدون نظر ولا تحقيق. وأشدُّ من هذا يرتكبه من يعتمد تفسيراً أجمع أهل العلم والمحققون أنه مكذوب مردود لا اعتداد به ولا يجوز الرجوع إليه. هذا ما فعله بعضهم حين يسلط الضوء على التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ويطيل فيه الكلام دون أن يعرِّج على أقوال أهل التحقيق من أئمة المذهب فيه وفي قيمته العلمية. هذا النوع من الدرس ليس هو من صنف النقد العلمي، ولا التحقيق، بل قد لا يكون منشأه إلا إثارة النزعات الطائفية.
فخلاصة قول علماء الإمامية في هذا التفسير أوجزها السيد الخوئي بقوله: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع) إنما هو برواية علي بن محمد بن سيار وزميله يوسف بن محمد بن زياد، وكلاهما مجهول الحال، هذا مع أن الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنه موضوع، وَجلَّ مقامُ عالمٍ محقق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام (ع) (7).
وذكر الشيخ البلاغي في الفقرة الأخيرة من مقدمته على تفسيره ( آلاء الرحمن ) أنه صنف رسالة خاصة في إثبات أن هذا التفسير موضوع مكذوب على الإمام، فقال :
وأما التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع) فقد أوضحنا في رسالة منفردة في شأنه أنه مكذوب موضوع، ومما يدل على ذلك نفس ما في التفسير من التناقض والتهافت في كلام الراويين وما يزعمان أنه رواية، وما فيه من مخالفة الكتاب المجيد ومعلوم التاريخ، كما أشار إليه العلامة في الخلاصة (8).
وقال السيد الفاني الأصفهاني : إن كافة علماء الشيعة المدققين أنكروا صحة إسناد التفسير المذكور إلى الإمام (ع).(9)
إن المواقف المبنية على لاتحقيق العلمي هي التي يجب أن تعتمد في الدراسة النقدية، لا غير.
في مثل هذا الموضوع وقف الدكتور محسن عبد الحميد موقفاً علمياً رصيناً حين تعرض لبعض الروايات الباطنية في بعض كتب الشيعة ففندها، لكن لا من وجهة نظر طائفية يحمل فيها على شطر الأمة، بل كان علمياً في موقفه حين قدم آراء كبار علماء الإمامية بتلك الأخبار الباطنية المعتمدة في التفسير وغيره، كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي والطبرسي ومن مضى على طريقتهم من أهل التحقيق. وهكذا ينبغي أن يكون النقد العلمي.
5- هنا نقطة هامة غابت عن أذهان الكثير من الدارسين، وهي أنه لا مفسرو أهل السنة قد التزموا منهجاً واحداً بعينه فلا يتخطاه أحدهم، ليقال هذا هو منهج أهل السنة في التفسير، ولا مفسرو الشيعة كانوا كذلك. بل الصحيح أن هناك مدارس ومناهج في التفسير توزع عليها المفسرون بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية، وعلى أساس هذا الفهم يجب أن تُدرس مناهج التفسير.
فكما كان في أهل السنة مفسرون وقفوا عند المأثور، كذلك كان في الشيعة، وكما ظهر الاتجاه الباطني عند بعض مفسِّري الشيعة، فقد ظهر مثله عند بعض مفسّري أهل الُسنَّة.
وكما ذهب بعض مفسري الشيعة إلى التفسير بالقرآن أو بالرأي الملتزم، فقد ذهب بعض مفسري أهل السنة إلى هذا أيضاً.
فهناك مدارس في التفسير، لا طوائف؛ لذا فإن محاولة الدكتور صبري المتولي في كتابه ( منهج أهل السنة في تفسير القرآن الكريم ) لا تزيد على كونها محاولة قسرية تعسفية في حصر مذهب أهل السنة في منهج ابن القيم وشيخه ابن تيمية، رغم العلم القطعي بأنهما سلكا مسلكاً مختلفاً في معالمه الأساسية عن مناهج أكابر مفسري أهل السنة كأبي حاتم الرازي، والطبري، والثعلبي، والواحدي، والثعالبي، والبغوي، والسيوطي، والآلوسي وغيرهم، فلا يصح بغير القسر والتعسف إخراج هذه التفاسير كلها عن إطار أهل السنة، كما لا يصح ـ بغير القسر والتعسف ـ توحيد مناهج هؤلاء المفسرين كلهم وغيرهم في منهج واحد محدد وواضح المعالم.
6- فيما فرض التراث المعتزلي وجوده من خلال التفسير الكشاف للزمخشري وتفسير القاضي عبد الجبار، يلاحظ أن التراث الزيدي قد أُهمِل بالكامل حتى في أوسع الدراسات النقدية، وهذا بلا شك تفريط بقدر لا يستهان به من التراث الإسلامي.
لا بد أن يشار هنا إلى أن السيد جمال الدين القاسمي قد تدارك هذا التفريط فعرف للزيدية بعض حقهم، فذكر شيئاً من أقوال بعض مفسريهم في جملة ما ذكره من كلام المفسرين عند بعض الآيات، لكنه في الحقيقة قد اكتفى بذكر بعض ما علقوه على تلك الآيات من أحكام وفوائد، دون التفسير...
ففي تفسير سورة المائدة ـ على سبيل المثال ـ ذكر أقوالهم في عدة مواضع، منها :
- عند الآية ( 2 ) قال : قال بعض الزيدية : ـ من ثمرات الآية : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يجوز إعانة مُتعِّد ولا عاصٍ، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجهٍ من قولٍ أو فعلٍ أو أخذ بولاية أو مساكنة(10).
- وعند الآيات ( 48-50 ) قال :قال بعض مفسري الزيدية : ـ اشتمل قوله تعالى ـ الآيات ـ على عشرين وجهاً من التأكيد في ملازمة شريعة نبينا (ص) التي أنزلها الله تعالى واختارها لأمته...الخ(11).
- وعند الآية ( 55 ) قال : قال بعض الزيدية : ـ ثمرة الآية : تأكيد موالاة المؤمنين، وبيان فضل من نزلت فيه، وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة، وتُنوى ، وكذا نية الصيام في الصلاة تصح ، وأن الفعل القليل لا يُفسد الصلاة. وهذا مأخوذ من سبب نزولها، لا من لفظها... الخ(12) .
وهكذا يلاحظ أنه اقتصر على ما استحصلوه من ثمرات، دون التفسير، ومع هذا فهو خير من الترك أو التناسي الذي فعله عامة المفسرين.
الهوامش:
(1) الجواهر 3: 138-139.
(2) الجواهر 1: 139.
(3) الجواهر 1: 139.
(4) الجواهر 3: 115.
(5) الجواهر 3: 118.
(6) الكاشف 1: 180.
(7) معجم رجال الحديث 12 : 147.
(8) آلاء الرحمن 1: 49، وأنظر رجال العلامة الحلي: 256/60 ترجمة محمد بن القاسم المفسر.
(9) آراء حول القرآن: 43. وانظر في قاموس الرجال للمحقق التستري، ترجمة: ابن الغضائري ومحمد بن القاسم المفسر، وعلي بن محمد بن سيار، ويوسف بن محمد بن زياد.
(10) تطور تفسير القرآن : 199-202.
(11) محاسن التأويل 6: 24.
(12) محاسن التأويل 6: 238.
(13) محاسن التأويل 6: 260.
صائب عبد الحميد
الجمل
إضافة تعليق جديد