حمص: قلعة المثقفين مقهى
تأتي «قمر» على عَجلْ، تطلب قهوتها السادة وتفتح أوراقها محاولةً كتابة قصيدة جديدة، فالمكان هنا هادئ لا وجود فيه للنارجيلة ولا لورق اللعب، فيروز فقط... حتى إن صوتها يوحّد رنات الموبايل، وبعض من موسيقى زياد الرحباني أو موزارت أو بتهوفن، وصوت مياه من بعيد، فالنافورة المغطاة بنبات «المديدة» بالكاد تُرَى، وكذلك السقف المغطى بالعريشة. تلك أهم ميزات مقهى الفنون في مقر اتحاد الفنانين التشكيليين في شارع عبد الحميد الدروبي وسط مدينة حمص. البناء مكوّن من طبقتين، خُصصت الأولى صالة لعرض لوحات الفن التشكيلي، وسميت على اسم الفنان صبحي شعيب، وتعرف باسم صالة الشعب أيام انتشار أسماء كالشعب والحرية والثورة على الأمكنة وصالات العروض والسينما، وتضم الصالة بعض المكاتب. أما الطبقة الثانية ففيها معهد لتعليم الرسم حمل الاسم ذاته «صبحي شعيب».
الحديقة هي الجزء الأخضر الوحيد من البناء وسط شارع تجاري لا وجود فيه إلا لأصوات السيارات وحركة السوق، هذه الحديقة أصبحت مع مرور الزمن مقهى للمثقفين في المدينة، فمن يزرها مرة فلا بد من أن يدمنها. ولا يقتصر زوار المقهى على الرسامين فقط (لكونه تابعاً لنقابة الفنانين التشكيليين)، بل يضم الموسيقيين والشعراء والصحافيين، و«كل من يبحث عن الهدوء» كما يقول الفنان التشكيلي محمود شيخاني، وضيف: «المكان هنا يفرز ناسه، إنّ من يأتي باحثاً عن النارجيلة أو لعب الورق، ولا يعجبه المكان لا يعيد الزيارة، ويبقى من يبحث عن «قعدة رايقة» كما يقول الحماصنة».
يعود تاريخ البناء إلى نحو 80 عاماً، ويسمى «قصر سليمان»، وهو مبني على الطراز الفرنسي، شيّده المهندس عبد الحميد الدروبي الذي سمي الشارع باسمه.
العشوائية هي النظام الوحيد هنا، فالنباتات المتسلقة على الجدران هي مزروعات بلدية نمت وحدها أو لا تحتاج إلى عناية دقيقة، وقد جرب القائمون على الحديقة زراعة العديد من الزهور ونباتات الزينة، إلا أنها ماتت ولم يبقَ منها سوى «البلدي».
مقهى الفنانين التشكيليين سُمّي «الركوكو» حين إنشائه تيمناً بالركوكو نفسه، وهو نوع من فن العمارة يضم زخرفات دقيقة، كانت موجودة في هذا المكان. المستثمرون المولعون بتدمير كل ما هو ثقافي سيحرفون الكلمة، ويسمون المكان «مقهى الركاكة»، وذلك كي يضعفوا من تعلق الفنانين به.
بسام جبيلي فنان اعتاد الذهاب إلى المقهى يومياً، ويقول: «نوعيّة الرواد تتحدد بدون قصد من خلال خدمات المقهى. إذ ليس فيه نارجيلة أو موسيقى هابطة أو لعب ورق، وبشكل طبيعي نرى الناس يستمعون إلى الموسيقى الهادئة أو إلى عزف حيّ على الغيتار أو العود. وفي المقهى مَن يرغب في النقاش، التفاعل يعطي المقهى شخصيته، منذ عشرات السنين أنا آتي إلى هنا، تابعت تحوّل المكان تدريجاً إلى منتدى ثقافي... إلى هنا يأتي أناس للكتابة أو القراءة، حتى إن هناك طلاب يأتون للدراسة».
تفتقر حمص إلى أمكنة لقاء هادئة، وقد انتشرت المقاهي التجارية الفاخرة، لذا مثّل مقهى الفنانين متنفساً رئيسياً ووحيداً لمثقفي المدينة. هذا ما حدثنا به الفنان محمود شيخاني الذي اتفق مع الجبيلي على أن ظاهرة المقاهي الثقافية لا تخلق مباشرة بأمر من مستثمر المقهى، الزمن هو من يخلقها، وهو من يخلق الحميمية والجو الراقي. المقهى الثقافي يُنشأ بدون قانون، فقد جرت محاولات كثيرة لتأسيس منتديات أو مقاهٍ ثقافية ونوادٍ، لكن أصحاب هذه المشاريع كانوا يفشلون، أما هذا المقهى فقد أخذ شكله وحده كمجرى النهر.
وعن التفاعل بين رواد المقهى يضيف جبيلي: «يجلس الناس مجموعات، مثلاً جماعة الشعر أو جماعة الموسيقى... وبالتأكيد يحصل احتكاك وتفاعل كبير بينهم، وعلى المدى الطويل الزبائن يعرفون بعضهم، وهذه ميزة كبيرة، تريد أن تلتقي شخصاً ما فتواعده هنا، حتى الأجانب عندما يأتون مرة واحدة، يأتون مرة أخرى مصطحبين معهم رفاقهم، ويتفاعلون مع المكان لأنه محافظ على جماليته وعلى الجزء الباقي من التراث والنبات والعشوائية بكل شيء، كلها لها انعكاسات ثقافية تشعر بالراحة».
نظّمت إدارة المقهى عدداً من القراءات الشعرية، والنشاطات الموسيقية، كذلك تُعرض أحياناً بعض المسرحيات في فضاء المقهى.
لا أحد يراقب أحداً، المشروبات مسموحة بأنواعها فمشهد صبية تشرب البيرة مثلاً مستهجن في كل مقاهي المدينة إلا هنا، فالجو مفتوح للفنانين ولا أحد ينظر بارتياب لحبيبين يمسك أحدهما يد الآخر.
يتحدث أبو حسين، وهو العامل في المقهى منذ إنشائه فيقول: «70 % من وجوه الحاضرين لا تتغير، أنا أعرف الزائر من عينيه إذا كان جدياً بدخوله إلى المقهى، أو يدخل للبحث عن صيد فتاة أو تعكير أجواء الهدوء». أبو حسين يقول إنه مرتاح للتعامل مع الفنانين على الرغم مما يعرف عنهم من مزاجية و«عقل صعب»، لكنهم في الحقيقة راقون جدا كما يصفهم، وأحياناً يطلبون منه الجلوس للحديث عندما لا يكون لديه «ضغط عمل». صداقات حقيقية نشأت بين أبو حسين والرواد، فهذه الطاولة لدكاترة الجامعة، وتلك للشعراء، وفي الزاوية للراسمين، وهناك للصحافيين، والجميع يعرفون أبو حسين وأحياناً يسألونه رأيه بأعمالهم.
التهديد بالاستملاك
منذ أكثر من عشرين عاماً، يُسيل المقهى لعاب كل مستثمر يمرّ قربه، ورغم وعود وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار بإبقاء الحديقة، إلا أن الفنانين التشكيليين لم يهدأ لهم بال، لذا قاموا بجمع أكثر من ألف توقيع خلال أيام قليلة للوقوف دون قرار استملاك وتحويلها إلى مجمع تجاري، رغم أن المسؤولين المعنيين عرضوا أكثر من حل، مثل إبقاء الطابق الأرضي على ما هو عليه والبناء فوقه، إلا أن الفنانين رفضوا ذلك.
همام كدر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد