حكاية حمص الجريحة
يلهو محمد ومصطفى وأترابهما بالكرة في حديقة عكرمة. «5 ضد 5» والقسمة لا تحتمل انسحاب أي لاعب رغم حلول الظلام. الكهرباء المقطوعة لا تؤثرّ في حركة الأرجل بين الأشجار وعلى العشب. الموسم الدراسي افتُتح والأطفال «يمتصّون» الساعات الأخيرة كأول لُعبة تصل إلى أيديهم.
مدرسة عكرمة الشهيرة على بعد أمتار من الحديقة ستستقبل معظمهم. ليسوا مستعجلين، خصوصاً بعد إدخال «جبهة النصرة» وأخواتها السيارات المفخخة أمام المدارس الحمصية مقرّراً رسمياً في المناهج الدراسية.
على بعد مئات الأمتار داخل السوق المزدحم في وادي الذهب، يحاول خضر المستحيل ليحصل على حقيبة «سبايدر مان». الأم تحاول دفعه نحو حقيبة أخرى «تتّسع أكثر». لكن الولد يعاند كعِناد البائعة التي «وقفت على سعر وما عادت تنزل». زحمة أحياء حمص استعادت شيئاً من نبضها القديم. لم تعد تقفل المدينة يوم الجمعة. الأسواق مفتوحة والناس في الشوارع... كأنهم يتحركون بمفعول رجعي عن سنتين من حظر التجوال الذي فرضته المعارك.
عاد فرن المناقيش لينتظرك حتى الفجر... كما المطاعم والدكاكين. ما زالت حمص «أم الفقير»، وارتفاع الأسعار لا يقارن بالمناطق السورية الأخرى.
7 أيام من الأسبوع تعيش المدينة إثر «إقفال» أحياء وفتح الأحياء الباقية أذرعها للجميع. حيّ الزهراء والحضارة ووادي الذهب والحمرا والغوطة وغيرها، بتنوعها، فرضت على قاطنيها الحياة «بما بقي».
الزحمة «المزدوجة» في هذه الأحياء بفعل الدمار في «أحياء الحرب» التي ما زالت على حالها، مع خروقات في «شبه عودة» إلى حيّ الحميدية ومئات العائلات في حيّ باب عمرو.
الأحياء التي عاشت المعارك الشهيرة شبه مقفرة... عشرات العائدين بين الركام يتركزون في بيوت عادت صالحة للحياة على عجل. بضع محلات فُتحت دون أبوابها. السقف وحده يكفي لبيع الخضر والفواكة مثلاً.
اليوم 35 حيّاً في مدينة حمص تحت سيطرة الدولة، ما عدا حيّ الوعر حيث فتح باب التسوية فيه منذ مدة طويلة، ولتفشل في كل مرة. 300000 مدني يحكمهم مئات من المسلّحين. الجبهة الهادئة في الوعر تقطعها طلقات قنص ومحاولات تسلّل، ما يستوجب رداً موضعياً أعنف... ليعود الهدوء.
دماء راكبي الباص على حائط مدرسة يوسف العظمة لا تزال المدينة تذكرها
الحكاية ليست كما جاءت في الإعلام السائد. أيلول 2015 هذا صنعه آذار 2011 مختلف. «عاصمة الثورة» وهتافات ساعة حمص الشهيرة كانت جميلة على قناة «الجزيرة» ومواقع التواصل الاجتماعي. الإعلام السوري الرسمي ـ على عادته ـ لم يكن على الموعد، والسلطات الرسمية تأخّرت في فهم الشارع. نداءات الأهالي كانت تواجه بطلب التروّي علّ «الأمور تعود إلى طبيعتها»... لكن داخل حمص اختلفت الرواية.
آذار 2011
في البدء كان الشهيد عادل فندي ثمّ ظهر الرصاص... فغابت الكاميرات. حكاية «حمص الثورة» كانت أسهل للتصديق من أيّ سردية أخرى. السوريون والمتابعون لم يعرفوا سوى التظاهرات الليلية والهتافات الرنّانة التي هتفت بها حناجر حمصيين طالبين الحرية.
في النهار غابت الصورة خوفاً من الأمن، يروي من عاش المرحلة بمعركتها السابقة وسلمها الحالي. في النهار ذاته كان جزء كبير من أهالي المدينة يطالب الجيش والقوى الأمنية بالتدخّل. لا جدوى. كُتب الموت على أهالي حمص كما كتب الصمت». بعد أيام من «السِّلمية» كان المُستخدَم المَدَني في نادي الضباط عادل فندي على موعد مع المتظاهرين ليلاً أمام مدخل النادي عقب تظاهرة حاولت اقتحام النادي. ضربات العصي على رأس الرجل لم تمنحه حياة جديدة. كان التوقيت آنذاك «الأسبوع الثاني من الثورة».
رجال الليل خرجوا بتظاهرة ثانية، والنتجية شرطي المرور عصام حسن شهيداً بالحجارة والعصي أيضاً. دخلنا «شهر ثاني ثورة»... وانشغل الجميع «بالإصلاحات».
على «هامش» الهتافات كان العميد عبدو تلاوي يمرّ مع طفليه وابن أخيه في شارع كرم اللوز.
كان السابع عشر من نيسان 2011. «حاجز طيار» تكفّل برشقهم بـ«رديّة» رصاص، ثمّ تكفّل «الكورال» بتقطيع أوصال الأربعة.
فجر اليوم التالي انتقلت بعض المساجد إلى موجة «حيّ على الجهاد». «اقتلوا النصيريين» خرجت من دائرة الهمس. صباحاً كان أزيز الرصاص يُسمع في كل زاوية في المدينة. تسلّح من تسلّح... وفي «أوقات الفراغ» كانت بعض البيوت يدمغ عليها عبارة: «مُلك الثورة». تعرّف الأهالي إلى «الشيخ» عدنان العرعور... كان معظمهم بين خيارين «التابوت وبيروت»، أو نزوح «المرتدّين» إلى مناطق «العدو». إلى جانب التظاهرات، والدوام الجزئي بالسلاح، قضى المخترع عيسى عبود شهيداً. أطلق النار عليه وعلى ابن عمه وهما على طريق العودة إلى قريتهما من حمص، ومُثّل بجثتيهما أيضاً. كان ذات نيسان... هو «ربيع حمص». في شهر تموز كانت أحياء حمص تتداعى بأيدي «المتظاهرين»... وحرق علم حزب الله دخل «الكارنفال».
خلف الاحتفال، خطف 3 شباب من مؤسسي فعالية «أكبر هوية»... قتلوا وسملت أعينهم. لا اعتراف بهوية كهذه. في وادي السايح خطف عامل نظافة وأُرسلت جثته إلى حيّ الزهراء. أكرم خضور، موزع جريدة «الوسيلة»، كان له النصيب ذاته. رائد عاشور، مثلاً، شرطي مرور في الحميدية لا يزال فيديو قتله على «يوتيوب» ومواقع التواصل الاجتماعي.
في آب اشتعلت المعارك وخسرت الدولة 28 حيّاً من أحياء المدينة الـ36. من عشيري إلى الخالدية، مروراً بجب الجندلي وباب عمرو وأحياء عديدة أخرى.
في الوقت المستقطع بين التظاهرات والمعارك، خُطف في تشرين الثاني باص يقل 14 موظفاً وطالباً من حيّ الزهراء. دماؤهم على حائط مدرسة يوسف العظمة لا تزال المدينة تذكرها جيداً.
التطوّر النوعي في «الاحتجاج»، عرفته 4 ممرضات خُطفن من المشفى الوطني في حيّ الخالدية. فرض عليهنّ المشي عاريات بعد ضربهن، لتنكّل أجسادهن بالسكاكين، ويبقر بطن إحداهن الحامل.
سكاكين الخالدية استحالت سواطير بين رقاب ركاب باص متوجّه نحو قرية جب عباس شرق حمص.
يوم 6 شباط بدأ الجيش معركة استعادة باب عمرو. صباح ذلك اليوم قطعت الاتصالات في حمص 3 أشهر، ثم سقط الحميدية بالكامل. لتكرّ بعدها سبحة تحرير الأحياء منذ آذار 2012 (باب عمرو والنازحين وعشيري وجب الجندلي)، وباب السباع في أيار والشماس في تموز، والبياضة في تشرين الأول، ثم دير بعلبة في كانون الثاني 2013، وباب عمرو في آذار (بعد خرق جديد في الحيّ المحرر)، واتفاق حمص القديمة في أيار (خروج المسلحين نحو الريف الشمالي)، والخالدية في تموز...
حمص «المحرّرة من الثورة» خرّجت أمراء حرب شهيرين كجاسم عفّارة، وطلال حمشو، وعبد الباسط الساروت (حارس مرمى نادي الكرامة ومنتخب سوريا للشباب، الذي بايع «داعش» أخيراً)، وبلال الكن، والملازم الأول المنشق عبد الرزاق طلاس، والناشطين الإعلاميين الشهيرين خالد أبو صلاح، وأبو جعفر المغربل، وهادي العبدالله.
--------------------------------------------------------------------------------
عبد الرزاق طلاس... من «بطل حمص» إلى رجل أعمال
يُعَدّ عبد الرزاق طلاس واحداً من أشهر وجوه حمص المعارضة. الملازم الأول المنشق عام 2011، أسّس «كتائب الفاروق» انطلاقاً من مقرّه في حيّ الخالدية. بعد ضربات الجيش السوري الموجعة لمسلحي حمص، والصيت الذائع لطلاس في سرقة الأموال والذهب، هرب الرجل إلى مسقط رأسه الرستن في الريف الشمالي. بعدها ظهرت «الفضيحة الجنسية» لطلاس بعد نشر فيديو «محادثاته» مع إحدى الفتيات عبر «سكايب». «هرْول» مجدداً شمالاً، نحو ريف إدلب هذه المرة، حيث عَلم بمقتل أبيه في الرستن. رجع إلى مدينته لينتقم من القتلة ونجح بذلك، حسب متابعين. رغم أنّ الأخبار المتناقلة تفيد بأنّ والده محمد قتل في «عملية اغتيال غامضة على أيدي خونة وعملاء». بعد الانتقام عاد إلى إدلب، حيث دفع مبالغ طائلة لتهريبه نحو تركيا... ليستقر فيها ويصبح صاحب معمل نسيج.
إيلي حنا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد