حديث صريح عن وهم الطائفية
الجمل ـ عبد الله علي: هل تساءل أحدنا يوماً بينه وبين نفسه ما إذا كان طائفياً أم لا؟ بالأمس وجهت هذا السؤال إلى نفسي وراعني الشعور أنني قبضت على نفسي متلبساً بالجرم المشهود!. أنا طائفيٌّ إذاً!!!!. ولما لا؟ لا أعرف!! دائماً كنت أرى أن الطائفية تتعلق بغيري ولا يمكن أن تتعلق بي، لذلك كانت صدمتي كبيرة وكأنَّ ثقباً من الذهول انفتح في داخلي، عندما تراءت لي ظلال الطائفية في أعماق نفسي. فأنا فعلاً أنتمي إلى طائفة معينة، وأتباهي بهذا الانتماء، وأشعر بوجود حواجز خفية ما، بيني وبين الطوائف الأخرى .... ولكن مهلاً .. عمَّا أتحدث؟ ... أهذه هي الطائفية؟؟؟ أليس من الطبيعي أن أنتمي إلى دين معين وإلى طائفة معينة ضمن هذا الدين المقسم منذ الأزل، وقبل ولادتي، إلى طوائف ومذاهب؟ ألا أنتمي أيضاً إلى مذاهب فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة عن الآخرين؟ ثم هل الحواجز موجودة فقط بيني وبين الطوائف الأخرى؟ ألا أشعر بمثل هذه الحواجز حتى مع فئات من نفس الطائفة التي أنتمي إليها؟ وعلى فرض أن الحواجز مقتصرة على الطوائف الأخرى، فهل يجعلني هذا طائفياً؟ ألا أتعالج عند طبيب من طائفة أخرى؟ ألا أتعامل معهم في يومياتي؟ أليس لي أصدقاء بينهم أحبهم وأحترمهم؟ ... أنظرْ الحواجز تقتصر فقط على مجال ديني خاص، وهذا طبيعي! لأنني أنتمي إلى هذا المجال وأنجذب إلى من ينتمي إليه، كما انجذب إلى من يشاركني في اهتمامي الثقافي العام بغض النظر عن طائفته! .... لا يمكن أن تكون هذه هي الطائفية، بل هي أقرب ما تكون إلى حرية الاعتقاد واحترام معتقدات الآخرين! .. لابدَّ أن الطائفية شيءٌ مختلف عن كل هذا!.
أشعر ببعض الارتياح، إذ يبدو أنني تسرعت في اتهام نفسي!! ... ولكن ماذا عن التاريخ وشخصياته وأحداثه، ومواقفك المسبقة عنها، وميلك الفطري نحو شخصيات، ونفورك من أخرى؟ هل تنكر ذلك؟ لا أنكر، ولكنني لا أصدق أن الطائفية يمكن أن تكون مجرد وجهة نظر في التاريخ وقراءة مختلفة لأحداثه. فأنا في نفس الوقت أختلف مع كثيرين في قراءة أحداث تاريخية لا تمت إلى منطقتنا وديننا بأي صلة، فما الفرق؟.
أنت تبسط الأمور كثيراً، محاولاً أن تنفي عن نفسك التهمة التي لبستها..! أجبني: هل تقبل أن تتزوج ابنتك برجل من طائفة أخرى؟.
بصراحة ..لا ..!!.
أرأيت أنك طائفي!!.
يعاودني الشعور بالصدمة والذهول، لا شكَّ أنني طائفي وإلا لماذا أرفض أن أزوج ابنتي من طائفة أخرى؟ لقد بدت لي الإجابة بـ "لا" بديهية ولا تحتاج إلى تفكير، ولكن لماذا هي بديهية؟ هل سبق أن فكرت في الموضوع بشكل جدي؟. هل أقبل أن أزوج ابنتي من شخص ما لمجرد أنه من طائفتي؟ بالتأكيد ..لا.. هناك شروط يجب أن تتوافر حتى أقبل بشخص معين، وغاية هذه الشروط جميعها أن أضمن لابنتي حياة مستقرة لا معاناة فيها. ومما لاشكَّ فيه أن الزواج من خارج الطائفة يعني الانتقال إلى بيئة جديدة وعادات مختلفة، مما يعني وجود احتمال كبير للمعاناة وانعدام الاستقرار. لذلك أعتقد أن الأمر يتعلق بخوفي على ابنتي أكثر مما يتعلق بخوفي من الطوائف الأخرى، وفي هذا السياق فإنني أعرف الكثير من العائلات التي ترفض تزويج ابنتها لرجل من منطقة بعيدة حتى ولو كان من نفس الطائفة، فهل نقول عن ذلك أنه نوع من الإقليمية؟ أبداً إنه مجرد خوف ورغبة في استمرار حماية الأهل لابنتهم. ومع ذلك، فهل رفض الزواج يمكن أن يكون هو الطائفية؟ وهل أكون طائفياً لمجرد أنني أرفض الزواج من طائفة أخرى؟ لا أعتقد ذلك لأنني أعتبره مجرد ممارسة طبيعية لانتماء من انتماءات الإنسان، وأضع هذه الحالة ضمن القضايا الاجتماعية التي يجب معالجتها أكثر مما أضعه ضمن إطار القضايا الدينية الطائفية. وكمثال على ذلك، لاحظ معي أن الزواج من أجنبية أو أجنبي يعتبر أكثر قبولاً من الزواج من خارج الطائفة، وهذا يدل على أن الرفض أساسه اجتماعي وليس ديني، لأن الأجنبي أيضاً ينتمي إلى طائفة مختلفة!!.
*****
أنت تناور .. خوفاً من أن تثبت عليك تهمة الطائفية.. أنظر إلى حمص حيث الاقتتال الطائفي يظهر في أوضح صوره!.
يا إلهي .. حمص .. هذا الكابوس الرازح على صدري منذ أسابيع!!! هل أستطيع أن أنكر صحة التقارير التي تتحدث عن اقتتال طائفي وقتل على الهوية يدور هناك؟ الأمر واضح فهناك طائفتان تتصارعان وتتذابحان، فكيف يمكنني إنكار الأمر بعد هذا؟. ثم أنظر بألم إلى ما تيسر لي من مقاطع الفيديو وما تتضمنه من مشاهد القتل وسفك الدماء وأسمع الشعارات وأراقب أهل حمص وهم يفنون بعضهم ... لكن لماذا؟ لماذا يفعلون ذلك؟ وما طبيعة الدوافع التي تقف وراء اقتتالهم؟ أبحث هنا وهناك ... فلا أجد إلا جواباً واحداً وهو الموقف السياسي من الأزمة الحالية. فهل يكون اقتتال طائفتين مختلفتين في الموقف السياسي، حرباً طائفية؟ ما علاقة الطائفية إذا كانت السياسة هي التي تشكل دافع هذا الاقتتال؟ وماذا نسمي الاقتتال بين فئات من نفس الطائفة ولكن لها مواقف سياسية مختلفة، سواء في بلدنا أو بلدان أخرى؟ ما يجري في حمص هو صراع سياسي مسلح بامتياز وليس صراعاً طائفياً بأيِّ شكل من الأشكال. ودليل ذلك أنه لو غيرت إحدى الطائفتين المتصارعتين، في حمص، موقفها السياسي لانتهى الصراع بانتهاء سببه. وهذه حقيقة لا أعتقد أن أحداً يشكك بها.
*****
أعتقد أنك بعد هذا سوف تدعي أن النظام غير طائفي!!!. رغم أنه يقوم على طائفة واحدة وكبار شخصياته والمتنفذين به ينتمون إلى تلك الطائفة!!!.
النظام طائفي ..؟؟ النظام طائفي ..؟؟ ولما لا؟ هل أستطيع أن أنكر أن كبار المسؤولين فيه ينتمون إلى طائفة معينة؟ بالتأكيد لا أستطيع .. ولكن هذا يعني أن أي نظام قام في سوريا أو يقوم أو سوف يقوم، لن يكون غير طائفي لأن المسؤولين فيه لا بدَّ أن ينتموا إلى طائفة ما!!! ولا بدَّ أن تكون حصة طائفة معينة أكبر وأقوى من حصص باقي الطوائف!!!. وهذا يستدعي أمران: إما التسليم بأن طائفية أي نظام يقوم في سورية، هو أمر طبيعي. وإما البحث بجدية عن الخصائص التي تجعل من نظام ما طائفياً غير انتماء مسؤوليه.
وسوف نتجاوز موضوع مدى صحة انتماء مسؤولي النظام لطائفة واحدة، ومدى انسجام ذلك مع الواقع، ونناقش فرضية أنه حتى إذا كان جميع المسؤولين ينتمون إلى طائفة واحدة، فهل يجعل هذا من النظام طائفياً بالمعنى الديني؟ وهل يكفي لنفي هذه الصفة عنه وجود شخصيات تنتمي إلى طوائف أخرى ضمن تشكيلة النظام؟.
هنا لا بدَّ من التنبيه إلى أننا لا نناقش مفاهيم الديمقراطية والتعددية والاستبداد واحتكار السلطة، وإنما نركز على مفهوم الطائفية فقط، وطبيعة الممارسات التي يجب توافرها ليصح الحكم على نظام ما أنه طائفي.
أعتقد أنه من السذاجة وصف النظام بأنه طائفي، وأن مثل هذا الوصف تقتصر الغاية منه على استخدام وهم الطائفية بغية تحقيق مكاسب سياسية محضة. فالنظام ورجاله ومسؤولوه ليس لديهم مرجعية دينية طائفية ولا يبغون تحقيق أهداف على أي صعيد ديني طائفي، وبالأحرى فإن أيَّاً منهم لا يبشر بعقيدة دينية معينة ويلزم الناس باتباعها، بل على العكس نلاحظ مثلاً أن المواطنين من هذه الطائفة يخضعون في أحوالهم الشخصية، وهي أقدس ما يملكه الإنسان كالزواج والطلاق والميراث، إلى أحكام فقهية تابعة لطائفة أخرى، وهذا مقنن في قانون الأحوال الشخصية، ولم نسمع اعتراضاً أو شكوى من أحد.
هذا بالإضافة، كما تحفظنا، إلى أن تشكيلة النظام لا توحي بأنها طائفية لأن الكثير من كبار شخصياته ومسؤوليه والمتنفذين فيه ينتمون لطوائف متعددة، ولكن كما قلنا فإن هذا وحده لا يكفي لنفي صفة الطائفية، وإنما ينفيها كون هؤلاء المسؤولين أيضاً ليس لهم مشروع ديني طائفي، وأن تجتمع جهود الجميع منهم بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية لتحقيق مشروع سياسي لا يهم هنا إذا كنا نتفق معه أولا، لكن يهم أن نؤكد على صبغته السياسية الخالية من أي شائبة طائفية.
فالعبرة في وصف النظام بأنه طائفي ليست في انتماء رجاله وشخصياته، وإنما في المشروع الذي يسعى إلى تحقيقه. لأنه كما قلنا إذا كان المعيار هو الانتماء فلن نجد نظاماً إلا طائفياً. هذا مع التأكيد على أننا لا نتحدث هنا عن موافقة ذلك لمعايير الديمقراطية.
*****
في الختام: أعتقد أن الطائفية مجرد وهمٍ يُراد لنا أن نعيش به... نعم مجرد وهم... فالطائفية كانتماء إلى طائفة معينة، هي أمر طبيعي لا يدعو إلى الخوف أو الارتياب بالآخر، بل إنها تدخل أكثر في إطار حرية المعتقد التي نتفق جميعاً على ضرورة صيانتها واحترامها. وإذا كنَّا نتداول مصطلح الطائفية على أنه مرادف للفتنة وخطر الاقتتال ونشوب حرب أهلية، وذلك على نحو بديهي وفطري وكأنه من المسلمات التي لا تحتاج إلى تفكير، فإن علينا التوقف قليلاً والانتباه إلى أن هذا التداول البديهي والفطري لا ينسجم مع حقيقة الواقع ولا مع القراءة العميقة لأحداث التاريخ.
نحن لسنا طائفيون رغم انتمائنا إلى طوائف مختلفة، لأن هذا التعدد في الانتماء هو مصدر غنى وتنوع يجب أن نفخر به وأن نستفيد من الاحتمالات العديدة التي يفتحها أمامنا سواء فكرياً أو ثقافياً أو دينياً أو سياسياً... ونحن لسنا طائفيون رغم وجود حواجز بين بعضنا البعض، لأن هذه الحواجز متأصلة فينا حتى على الصعيد الشخصي أو الفردي، وتمتد إلى العائلة والمنطقة والحزب وغيرها من دوائر الانتماء بما فيها الطائفة، فهذه الحواجز طبيعية من طبيعة أي انتماء ينتسب إليه الفرد ... ونحن لسنا طائفيون حتى ولو اختلفنا وتصارعنا، لأن جميع صراعاتنا عبر التاريخ كانت ذات صبغة سياسية محضة ولم نتصارع يوماً لسبب غير سياسي.
الحالة الوحيدة التي يمكن القول فيها أنها طائفية هي حمل إحدى الطوائف لواء عقيدتها وأن تسعى إلى نشره بالقوة واضعة باقي الطوائف أمام احتمالين إما القتل وإما اعتناق عقيدتها. ومثل هذا الاحتمال لم يحدث في التاريخ ولن يحدث في آتي الأيام، لذلك علينا أن نزيل من رؤوسنا وهم خطر الطائفية، وأن نكون حذرين من مكمن الخطر الحقيقي ألا وهو: السياسة.
التعليقات
سلمت يداك
إضافة تعليق جديد