تنزيه الله وتحرير الإنسان في النص القرآني
تبدو مساحة الفجوة الوجودية بين الله والإنسان كأحد الأمثلة الواضحة على التداخل بالتشابه والاختلاف بين الأديان السماوية الثلاث. فاليهودية والمسيحية تسلمان بما جاء في التوراة «سفر التكوين 1: 26 – 27 «من أن الله قد خلق الإنسان على صورته». أما الإسلام فيتحاشى النزعة التشبيهية ويفزع منها قطعاً للطريق على التجسد. وعلى رغم أن عبارة وردت في صورة حديث شريف جاء فيه ما معناه أن الله خلق آدم على صورته، فإن التيار الغالب من فقهاء المسلمين أوَّل النص، بأن الله سبحانه اختار أن يسوي آدم على إحدى الصور التي في علمه جل شأنه، كما أوَّل آية الاستواء على الكرسي بما يقطع الطريق على أي نزعة تجسيدية. وهكذا بقيت الآية الكريمة من سورة الشورى «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» فوق كل، وأي، نقاش.
قد يكون صحيحاً القول بأن العلاقة بين الله والإنسان، تشهد نوعاً من التقارب عبوراً على تلك الفجوة الحاسمة بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين خصوصاً بين أكثر التيارات اليهودية توحيداً، والتي نمت في عصر النبي أشعيا، وأكثر التيارات تنزيهاً في المسيحية والتي ترى أن خلق الإنسان على صورة الله، لا يمكن أن يفهم منه التشابه في الشكل، بل يجب أن يفسر بوصفه استعارة تدل على علاقة وثيقة وحميمة هي علاقة القرب من الله، وبين أقل تيارات الفكر الإسلامي تنزيهاً، وهي التيارات الباطنية التي أخذت التصوف الإسلامي إلى أكثر مناحيه تطرفاً فقالت بإمكانية الحلول(...)، إلا أن التيار العام السائد في الديانتين السابقتين يبقى تشبيهياً بالأساس خصوصاً في المسيحية، بعكس التيار العام الساحق في الإسلام والذي يبقى تنزيهياً، ينفي نفياً قاطعاً أي مشابهة أو مماثلة فلا يكون الإنسان إلهاً، أو الإله إنساناً قط، كما ينفي أي تداخل يقلص من الفجوة الوجودية أو يطمس معالمها.
وهكذا تؤسس عقيدة التوحيد نوعاً من الفصل الوجودي الكامل بين الله الخالق المريد، الفعال، سيد الملكوت، الذي يملك الوجود من الأزل إلى الأبد من ناحية، وبين الإنسان الذي يسري عليه قانون الوجود وقرينه أي العدم: خلق فحياة، فموت، ثم بعث من ناحية أخرى. هذه الثنائية الوجودية بمثابة جذر أو أصل الحرية لدى الإنسان المستخلف الذي ينزع إلى التوفيق بين متطلبات عالم الغيب كمخلوق عابد لله من ناحية، وبين احتياجات عالم الشهادة كخليفة على الأرض أسبغ الله عليه إمكانات عمارتها من ناحية أخرى، فكلما أذعن الإنسان لله، أي لمتطلبات عالم الغيب، واستبطن عميقاً معنى التوحيد، كانت إرادته أكثر تحرراً من قيود الشرك والخرافة والأساطير، وأكثر فاعلية في مواجهة تحديات عالم الشهادة.
ولأن القرآن الكريم هو أكثر الكتب السماوية إعلاناً وأوضحها تنويهاً بأن الله هو الحاكم المطلق الوحيد لهذا الكون «إن الحكم إلا لله»، وأن له وحده أن يحكم بما يشاء ويختار «إن الله يحكم ما يريد»، وأنه وحده الحاكم الذي ليس لغيره أن يعترض على أمر من أوامره «لا يُسأل عما يفعل». وأنه وحده مسموع القول واجب الطاعة والإذعان في جميع أوامره ونواهيه، إذ لم يخلق الإنسان إلا لعبادته وحده «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون»، فإنه كذلك أكثر هذه الكتب تحذيراً للإنسان من أن يكون عبداً لغيره، فالتوحيد الإسلامي إذن يعتق الإنسان من العبودية لكل الأغيار في ذات اللحظة التي يُفرِد فيها الله سبحانه بخالص العبودية. فطالما كان خالق كل الكائنات البشرية إلهاً واحداً، فإنها لذلك أشخاص متساوية في ما بينها، وليس هناك فرق نوعي بينها كما عند أرسطو الذي يجعل من الأرقاء مجرد «آلات حية» مشيئة، بل أنه فرق كيفي فحسب بين المؤمنين وغير المؤمنين، والرسالة الإلهية إذ تخاطب المؤمنين وغير المؤمنين، دونما فرق، تعترف لهؤلاء، وأولئك بتساو نوعي لكل البشر. فليس هناك «أنا» وضيع و»أنا» رفيع، وإنما هي ذوات متساوية أمام الله، ولا تختلف إلا بعملها المختار بإرادتها الواعية.
والتوحيد على هذا النحو، ذو أثر بالغ في بنية النفس الداخلية، بفعل قدرته على تجميع طاقات الإنسان، وتحرير وجدانه من كل قيد عدا القدرة الإلهية الرحيمة والبصيرة معاً. ففي لفظ الشهادة نفسه، وهو عتبة الإسلام، يكمن جذر عميق للتحرر الوجداني سواء في فعل النفي «لا إله» حيث تنتفي كل سطوة أخرى غير سطوة الله الواحد، أو في إرادة الإيجاب «إلا الله»، حيث تتأكد شمولية القيم وتتضح معالم الأخلاق التي ترجع في أصلها إلى المنبع الواحد. فالتوحيد، إذن، ليس مجرد كلمة ينطق بها اللسان في شهادته، بل هو ذلك الانتماء العميق الذي يقي الإنسان كل ألوان الذل والضعف التي تدفع به إلى هاوية الاغتراب، وبهذه الطاقة تنمو شخصية الفرد المسلم وتصمد أمام كل المصاعب والمحن والأعباء.
وفي هذا السياق تتبدى إيجابية «الحضور الإلهي في العالم» حسب الرؤية الإسلامية للوجود، تلك التي يكشف عنها النص القرآني، والتي تجعل هذا الحضور حائزاً لكل الشروط الكافية للعناية بالإنسان، فـ «الله» ليس هو تلك الصورة السلبية التي جالت في تصور أرسطو عن «المحرك الأول» الذي لا يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها. ويتنزه عن الإرادة لأن الإرادة طلب في رأيه، والله كمال لا يطلب شيئاً غير ذاته، ويجِلّ عن علم الكليات والجزئيات لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعني بالخلق رحمة ولا قسوة لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه. وصفاته ليست مقصورة على بعض جوانب الخلق والتدبير كما تصور الفرس في صفات «هرمز» إله النور والخير، واختصاصاته وصفات «أهرمان» إله الظلام والشر واختصاصاته. وليست محدودة بدرجة من درجات الخلق كتصور أفلوطين. وليست محدودة بشعب كتصورات بني إسرائيل. وليست مختلطة أو متلبسة بكينونة أخرى، كبعض التصورات المسيحية.
والعناية الإلهية ليست مرحلية مرتبطة بلحظة خلق الإنسان فقط، غافلة عن وجوده في ما بعدها كما في الرؤية المكية الوثنية «الجاهلية» للعالم، والتي تصورت أن الإنسان حالما يخلقه الله يقطع روابطه مع خالقه، ليصبح في قبضة سيد آخر، أكثر قوة وهو «الدهر» أو «الزمن» الذي يظل متحكماً في الإنسان حتى لحظة موته. ولأن الله يعلم أهمية قضية الرزق للوجود الإنساني، وأن السعي إليه قد يذل أنف الإنسان، فقد سمى نفسه - جل شأنه - بـ «الرازق والرزاق» حتى لا يبقى للإنسان حجة في طاعة من يتصور انه «رازق» لمجرد أنه من أولي اليسار، فالقرآن الكريم يرفع من شأن الإنسان وكرامته إذ يخلص المفردة من مضمونها الإنساني، ويرسي القضية كلها على قاعدتها الإلهية: «وفي السماء رزقكم وما توعدون» (الذاريات : 22).
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد