تطور الخط الآرامي الى النبطي و نشأة الخط العربي
د. اليان مسعد: اصبح من الثابت تماما اليوم إن نشأة الخط العربي تم من قبل ثلاثة كانوا بدير بقة على بعد فرسخين من الحيرة بالانبار، وهم مرار بن مرة، واسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، انهم وضعوا الخط وقاسوه على هجاء السريانية فتعلمه معظم اهل الانبار و اهل الحيرة وذلك بعد ان اعتمد بالبحث على الروايات و المصادر العربية الأولية، مثل ما كتبه ابن قتيبة (ت 276 هـ ) في الشعر والشعراء، وكتابه (عيون الأخبار)، وما كتبه البلاذري (ت 279 هـ) في كتابه (فتوح البلدان)، وغيرهم ممن أوردوا روايات نشأة الخط العربي في الأنبار باماكن توطن قبيلة اياد. والجمع بين تلك الروايات مع مفردات القواميس العربية والمعاجم السريانية تؤكد في غالبيتها ما ذهب إليه الباحثون من ان الخط العربي نشأ في الانبار وقد نقل إلى الحيرة التي بدورها نشرته في شبه الجزيرة العربية.
وتاريخيا شهد العراق عبر العصور التاريخية القديمة قيام حضارات كالسومرية والآشورية والبابلية والارامية والكلدانية، وقد وضعت هذه الحضارات بما لا يقبل الشك أسبقية العراق عن بقية أصقاع الجزيرة العربية بالمعرفة المتراكمة في علوم الكتابة، لا سيما الكتابة المسمارية والارامية، بدليل ما شهدته أراضي العراق من لقى آثارية في الحضر والحيرة (كتابات آرامية)، وكتابات سريانية في وسط وجنوب العراق.وشهد العراق في عصر ما قبل الإسلام قيام دولة المناذرة التي اعتنقت المسيحية بنسختها النسطورية ذات الثقافة الارامية ، والامارة الغسانية ببادية الشام بنسختها اليعقوبية السريانية و تبنى ملوك كلتا الدولتين نشر الديانة المسيحية في شبه الجزيرة العربية لذلك ارتبط العراق وسوريا بصلات روحية وثقافية وتجارية مع شبه الجزيرة العربية، وخاصة أبناء الحجاز الذين ارتبطوا بالشام والعراق في رحلتي الشتاء والصيف، لذلك نقل الخط العربي إلى الحجاز، وكان أبناء العراق في الانبار والحيرة ممن أخذوا على عاتقهم استنباط ثم تعليم الخط العربي قبل ظهور الإسلام لاسباب تبشيرية و ثلاثة منهم قاموا بوضع هجاء العربية على منوال هجاء السريانية وعملوا الكتابة في الأنبار، وعن هؤلاء تعلمها أهل الحيرة ثم انتقلت إلى مكة والطائف قبل ظهور الإسلام ذلك ان منطقة الانبار قبل الإسلام كانت تقطن من قبل قبائل عربية كقبيلة أياد ومجاميع من الاراميين السريانيين.
وجاء عند الرواة العرب ان الخط العربي ظهر لاول مرة في قبيلة (أياد) التي سكنت العراق (الأنبار)، حيث تعلم أهل الانبار الكتابة، وعنهم أخذته بقية العرب. وهذه القبيلة جاءت من الحجاز في عصر مبكر سبق القرن الثالث الميلادي، حيث فشت بها المسيحية بسرعة و تفيد المعلومات التاريخية التي بين أيدينا ان تلك القبيلة تعرضت بسبب ذلك لاضطهاد الملك الفارسي سابورالثاني (309–379 م) الملقب بـ (ذي الاكتاف) في أوائل حكمه. ودليلنا على ان قبيلة (أياد) كانت أول من استعمل الكتابة العربية ان شاعرها لقيط الايادي كان مترجماً في بلاط فارس، وكان يكتب بالعربية، و قصة تحذيره لقبيلته من بطش سابور وارساله الكتب لقبيلته خير دليل على ذلك.
ونفهم مما تقدم ان لقبيلة أياد العربية التي كانت تسكن في الأنبار دوراً كبيراً في نشر الخط العربي في العراق ولا يخفى ارتباطاتها الاجتماعية مع شبه الجزيرة العربية قد أضافت اليها سمة أخرى وهي سرعة نشر هذا الخط في الحجاز أي مواطن معظم القبائل العربية.
ولكن من كان اول من رسم الحرف العربي لقد اصبح مؤكدا ان ثلاثة كانوا بدير بقة على بعد فرسخين من الحيرة بالانبار، وهم مرار بن مرة، واسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، فقيل انهم وضعوا الخط وقاسوه على هجاء السريانية فتعلمه معظم اهل الانبار و اهل الحيرة ( انظر ياقوت الحموي بن عبد الله / (ت 626هـ) / معجم البلدان / و(البلاذري / أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 هـ) / فتوح البلدان / مطبعة لجنة البيان / مصر / 1937م / وابن عبد ربه / أبو عمر احمد بن محمد الاندلسي (ت 328 هـ) / العقد الفريد / وابن قتيبة / عيون الاخبار / اما ابن نديم / محمد بن اسحاق (ت 385 هـ) / الفهرست / فيضيف ان أول من وضع صور الحروف هو مرار بن مرة، وقد أوصلها اسلم بن سدرة، ووضع عامر بن جدرة الاعجام .
ونستخلص من الروايات أعلاه انصهرت عدة مهارات لوضع شكل الكتابة العربية في الانبار لكونها كانت بودقة صهرت المعرفة اللغوية العربية والسريانية والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة المنطقة التي حوت قبائل عربية وسريانية. وينفرد ابن قتيبة (ت 276 هـ) الذي يعد من أقدم المؤرخين العرب الذين تطرقوا إلى موضوع الخط العربي برأي مفاده ان أصل الخط العربي ينسب إلى واحد من هؤلاء النفر وهو مرار بن مرة، ونسبه آخرون إلى اثنين فقط هما مرار بن مرة واسلم بن سدرة من أهل الانبار. وهذه الرواية هي اسناد للروايات التاريخية التي ذكرناه آنفاً تشير بما لا يقبل الشك إلى اتفاق معظم الرواة والمؤرخين العرب المسلمين وتتوافق تماما مع المصادر السريانية المسيحية من ان بداية نشأة الخط العربي كان في الانبار . واطلالة بسيطة على مسميات الأفراد الثلاثة الذين اجتمعوا حول صهر مهاراتهم اللغوية والفنية تشير إلى معرفتهم بأصول اللغة السريانية وارتباطهم مع القبائل العربية في (الانبار) مما أكسبهم أهمية في التفكر لوضع أسس الخط العربي.
ويرى الباحث المحدث علي الشرقي : بأن تلك الاسماء كانت ألقاباً (تشير إلى أصلهم ومهنهم) وان أسم مرار بن مرة تحريف عربي للاسم الارامي( مارا ماري برْمارا ) ويعني (سيد السيادة، شيخ الشيوخ العلم، أو حامل لواء العلم) . ومعنى أسم أسلم بن سدرة (شْليما بْرسدرا) (سليم اوتام العلم والخطاط في السريانية) ومعنى عامر بن جدرة (عمرايا برجدرا) (العماد الحاذق والجدير بالسريانية) أن هذه الأسماء الثلاثة لأولئك الأشخاص " سريانية الأصل " حُرِّفت إلى العربية و هي في الاصل ألقاب و كنى و مناصب فـ "مرامر بن مرة، لفظ عربي محرف عن اللفظ السرياني(مارا ماري برْمارا) وتعني سيد السادة بن السيد، أو شيخ شيوخ العلم بن حامل لواء العلم. وأسلم بن سدرة، محرف عن (شْليما بْرسدرا) أي: التام العلم بن الخطاط و عامر بن جدرة، محرف عن (عمرايا برجدرا) وتعني: العماد بن الحاذق أو الماهر او الجدير. أنظر : مجلّة " لغة العرب "
انتقل الخط العربي بشكل تلقائي إلى مدينة الحيرة التي كانت تمثل العاصمة السياسية والدينية لملوك المناذرة في تاريخ العراق قبل الإسلام؛ وشاركت الحيرة في نقل هذا الخط إلى شبه الجزيرة العربية ، وكانت مدينة (دومة الجندل) هي المحطة الأولى التي استقبلت الخط العربي من الحيرة. ولعل أبرز الادلة التي نسوقها بشأن تنازع الهيمنة بين امراء الغساسنة وملوك المناذرة على مدن الحجاز بما فيها يثرب ففي عهد النعمان بن المنذر تروي المصادر التاريخية انه عيَّن موظفين لاستيفاء الضرائب من أهالي يثرب المذكورة واما حسان ابن ثابت شاعر النبي فكان مسيحيا قبل الاسلام ويقضي الصيف والخريف ببلاط الغساسنة وكان يعرف الكتابة وهذا يشير بما لا يقبل الشك إلى تبعية يثرب للحيرة من الناحية السياسية والادارة وما تبعها من تبعية ثقافية تتسم بانتقال أسس الخط العربي إلى الحجاز.إذن ان الادلة اللغوية والروايات التاريخية وغيرها تشير بما لا يقبل الشك من أن أصل نشأة الخط العربي كان في العراق، في الأنبار ثم الحيرة وبعدها انتقل إلى دومة الجندل المدينة التجارية، وعن طريق التجارة والتبشير بالديانة المسيحية انتقل إلى الحجاز (يثرب ومكة والطائف) وبهذا الشأن لدينا رواية مفادها ان أحد أبناء الجزيرة العربية وهو (بشر بن عبد الملك) كان قد تعلم الخط في الانبار وتزوج (الصهباء بنت حرب اخت أبو سفيان) فعلم أبوها (حرب والد ابو سفيان وجد معاوية) الكتابة وعلمها لجماعة من قريش، وبذلك فتح عصر الكتابة في الحجاز
إضافة تعليق جديد