تسريبات جديدة حول المحكمة الدولية
«لماذا كلّ هذا التوتر؟ إن القرار الاتهامي ليس حكماً مبرماً والمحكمة الدولية ستؤمّن حقّ المتهمين بالدفاع عن أنفسهم بما يتناسب مع المعايير الحقوقية الأساسية» يبدأ الرجل حديثه بهذه الكلمات مشترطاً عدم ذكر اسمه أو وظيفته في المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فمثلما رفض المدعي العام الدولي دانيال بلمار تأكيد أو نفي صحة معلومات نشرتها «دير شبيغل» و«لو موند» و«لو فيغارو» عن مضمون القرارات الاتهامية المرتقبة، وهي صحف تتمتّع بصدقية دولية واسعة، كذلك دعا الرجل «الأخبار» الى عدم تأكيد أو نفي أنه من كبار الموظفين في مكتب التحقيق في لاهاي ومعنيّ بصياغة ملفات الاتهام الدولية.
عُقد اللقاء في وسط لاهاي وكان الرجل شديد الحذر إذ «اتخذ مكتب المدعي العام إجراءات بخصوص التسريبات» كما أفاد المحامي العام في مكتب بلمار، ايكهارت فيتهوبف، أول من أمس أمام وفد إعلامي لبناني. أصرّ على موقفه عندما سألته «الأخبار» عن احتمال التسييس خلال مرحلة الاتهام لا أثناء المحاكمة، فقال: «أنا لا أعمل في السياسة ولا تعنيني السياسة، وما تتحدث عنه هو شأن سياسي بحت وليس شأناً قضائياً». لكن خلال عرضه للاحتمالات وتعليقه على بعض المعلومات، يبدو أن بورصة القرارات الاتهامية في لاهاي تخضع، الى حدّ ما، لديناميكية العرض والطلب.
قبل عرض الخيارات المطروحة أمام بلمار سألناه عن منطلقات مكتب المدعي العام الدولي والأسس التي وضعتها دائرة الادعاء التي يترأسها المحامي العام الأميركي داريل منديس وزميله الألماني ايكهارت فيتهوبف لصياغة القرارات الاتهامية وتحديد موعد إصدار كلّ منها بحسب تسلسل زمني ممنهج. فشرح المسؤول الدولي أن دانيال بلمار يدير مكتبه آخذاً في الحسبان ضرورة التحكّم بأبسط التفاصيل البيروقراطية وهو يفرض، في هذا الإطار، على رئيس دائرة التحقيق، ضابط الاستخبارات البريطاني مايكل تايلور، التزام المنهجية الإجرائية التي يحدّدها منديس وفيتهوبف على أساس أن مسؤولية صياغة النسخة النهائية للقرارات الاتهامية قبل تقديمها الى قاضي الإجراءات التمهيدية تقع عليهما.
إن اطار عمل تايلور حدّد إذاً مسبقاً، وما عليه سوى تبرير خلاصة الاتهام عبر شرح مقنع منطقياً لترابط الأدلة التي تمكّن من جمعها.
وأصرّ المسؤول على الإشارة إلى علمه بأن بلمار يتمسّك خلال كلّ اجتماع داخلي لرؤساء الدوائر التابعة لمكتبه بضرورة إبعاد شبح التسييس عن أي قرار اتهامي. «علينا القيام بما يلزم مهما تطلّب ذلك من جهود وطاقة» لإبعاد الادعاء عن أية شبهات سياسية. وبهذا المعنى صدر شبه تعميم على الموظفين بتكرار شعار «وحدها الأدلة هي التي توجّه التحقيق» وهو بمثابة تذكير واضح لتايلور بأن مهمته أساسية وتتطلّب دقّة في التحقيقات التي تعدّ نتائجها قابلة للإخراج أكثر مما هو رد على المشكّكين بصدقيته. يضاف الى ذلك تعميم آخر بأن نصّ «القرار الاتهامي سيكون مفصّلاً وموسّعاً وسيستند الى أدلّة». لكن عندما سألت «الأخبار» فيتهوبف يوم أوّل من أمس عما إذا كان ذلك يعني أن القرارات الاتهامية التي ستصدر عن المحكمة الخاصة بلبنان ستختلف بالشكل والمنهجية عن القرارات الاتهامية التي صدرت عن محاكم دولية أخرى مثل المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة، أجاب مؤكداً أنها ستكون مماثلة. وبالتالي أكّد فيتهوبف صحّة ما نشرته «الأخبار» (راجع عدد 20 آب 2010 صفحة 2/3) من أن القرارات الاتهامية الدولية لا يتضمّن نصّها إثباتات وأدلّة، وبالتالي على من يريد التدقيق في مصادر التحقيق الذي قد يؤدي إلى اتهام حزب الله قضائياً أن ينتظر عرضها على جلسات المحكمة. تلك الجلسات تستغرق سنين، يبقى خلالها سيف المحكمة الدولية مصلتاً على رقبة حزب الله.
التكتّم سيّد الخيارات الخمسة
المسؤول القضائي الدولي تحدّث في لاهاي عن خمسة خيارات أمام مكتب بلمار نعرض أبرز ما يميّز كلّاً منها:
أولاً، اعتماد القاعدة 74 من قواعد الإجراءات والإثبات التي تتيح عدم الإعلان عن قرار اتهامي للعموم وترك الإعلان «لحين توافر الظروف المناسبة». ويقول محدّثنا بأن مضمون القرار قد يُسرب «لكن ذلك لن يزيد من مشكلة التسريبات السابقة».
الخيار الثاني يعتمد التكتم الجزئي، بمعنى إعلان بعض القرارات التي لا تتهم أشخاصاً مقرّبين من حزب الله والتكتم على القرارات التي تتهمه. وبذلك تكون المحكمة قد وضعت الحزب ومن معه في موقف حرج إذ يتبين إعلامياً أن معلوماته عن القرارات لم تكن صحيحة وأنه أحدث بلبلة في البلد لم تكن مبرّرة.
ثالثاً، وفي سياق الخيار الثاني لكن مع فارق الوقت، قد يلتزم بلمار تسلساً زمنياً ممنهجاً لإطلاق القرارات الاتهامية بحيث يعلن جميع القرارات الاتهامية لكن بحسب برنامج زمني محدّد مسبقاً. إذ تقدّم القرارات التي تتهم أشخاصاً لا علاقة لهم بحزب الله قبل القرارات التي تتهم أشخاصاً على علاقة به.
رابعاً، تقديم قرارات اتهامية تستهدف اشخاصاً على علاقة بحزب الله وتبرير ذلك عبر التشدد في التأكيد على الأدلة وتعميم مبدأ قرينة البراءة والتذكير بأن قواعد المحكمة لا تلزم توقيف المتهمين وحضورهم الى لاهاي. وهو ما أكده مسؤولون في المحكمة خلال اللقاء الذي جمعهم بإعلاميين لبنانيين يوم أول من أمس، اذ قالوا: «هذه المحكمة لديها ميزة خاصّة إذ يمكن أن لا يوقف المتهمون إلا بعد ادانتهم، ويمكن كذلك ان يحاكموا غيابياً». أما الخيار الأخير فيرتكز على إصدار قرارات اتهامية بحق اشخاص لا علاقة لهم بحزب الله ثمّ استدعاء شهود من حزب الله استمع اليهم بلمار وتايلور في السابق، وتحويلهم بعد استجوابهم استنطاقياً أمام المحكمة عبر الشاشة الالكترونية، اذا تعذّر حضورهم الى لاهاي، الى مشتبه فيهم وذلك استناداً الى تناقض محتمل بين افاداتهم وبعض الأدلة التي تُقدم لاحقاً والتي صدّق عليها قاضي الإجراءات التمهيدية.
منهجية استخدام الأدلة
لم يشأ المسؤول القضائي الدخول في التفاصيل، غير أنه ومن خلال نقاش قضايا جنائية أخرى وطريقة العمل المهنية، يمكن استخلاص أن منهجية استخدام الأدلّة التي يُرجّح أن يعتمدها تايلور ترتكز على الآتي:
إن أسلوب استدراج الشهود ليصبحوا فيما بعد مشبتهاً فيهم هو أسلوب معتمد في العديد من التحقيقات الجنائية. الأساس الذي يرتكز عليه هذا الاسلوب هو عملية مقارنة الاقوال بالأدلّة وبالتالي يفترض أن تتمتّع الأدلة بالصدقية.
بعض الأدلة التي تمكن فريق التحقيق الدولي من جمعها خلال المرحلة التي سبقت انطلاق عمل المحكمة رسمياً خضعت أخيراً لعملية اعادة تقييم دفعت المحققين الى التنازل عن جزء منها لحين توافر معلومات اضافية. فعلى سبيل المثال، تقوم فرق تحليل المعلومات بوضع دراسة معمّقة عن الدلائل المستخلصة من الاتصالات الهاتفية ومدى قدرة فريق الدفاع على التشكيك في صحّتها عبر اثبات احتمال التلاعب بها وفبركتها.
ويرجّح عدم تركيز القرارات الاتهامية على دليل الاتصالات بل على «أدلة أكثر صلابة» بحسب المسؤول القضائي ويمكن أن تتضمّن:
1 – مصادر المتفجرات من خلال تحليلات مخبرية معقّدة يشرحها خبراء دوليون للقضاة اثناء المحاكمة.
2– افادات شهود لا يكشف عن هويتهم في المحكمة، وقواعد الاجراءات تسمح بذلك.
3– تقارير رسمية صادرة عن جهات دولية، منها «الانتربول» وجهات أخرى تسمح القواعد بعدم الإفصاح عن هويتها.
4– تقارير رسمية صادرة عن جهات حكومية وقضائية لبنانية، وهو ما يتطلّب استدعاء مسؤولين لبنانيين الى لاهاي للإدلاء بشهاداتهم. ولا يمكن إغفال احتمال تحويلهم الى مشتبه فيهم لاحقاً.
العدالة للبنان بيد ضابط استخبارات بريطاني
رئيس فريق المحققين في المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ضابط الاستخبارات البريطاني مايكل تايلور رجل هادئ وقليل الكلام كما يصفه زملاؤه. وكان يعمل تحت امرة سلفه المحقق الاوسترالي نيك كالداس الذي قرّر مغادرة لاهاي لأسباب ما زالت غامضة على رغم تأكيد المسؤول القضائي أن الأسباب كانت عائلية. فالمحكمة كانت قد أفادت بأن رئيس قلم المحكمة روبن فنسنت استقال لأسباب عائلية بينما فنسنت نفسه قال لـ«الأخبار» إن الأسباب مهنية تعود إلى عدم تحمّله العمل مع بلمار.
وكان بلمار قد وعد خلال مقابلة أجرتها معه «الأخبار» في شباط 2009 (حديث مسجّل) بأن كالداس سيثبت للبنانيين أنه يستحقّ ثقتهم. ويرفض المدعي العام الدولي الحديث عن كالداس اليوم ربما بسبب الاحراج الذي سببه له أو لأسباب أخرى انتهت الى استبداله بتايلور. وتخضع لسلطة تايلور المباشرة اليوم أربعة مكاتب هي:
ــ مكتب التحقيقات التكتيكية وتعمل ضمنه خمس فرق تحقيق ميداني.
ــ مكتب بيروت. ورغم وجود نائب المدعي العام القاضية اللبنانية جوسلين تابت فيه، فإن التوجيهات بما يخصّ عمليات التحقيق والرصد والمتابعة وجمع المعلومات تصدر عن تايلور وحده.
ــ مكتب العمليات الخاصّة ويضمّ أربع مجموعات تعمل كلّ منها على مهمات خاصة يوكلها إليها تايلور.
ــ مكتب تحليل المعلومات الاستراتيجية ويضمّ أربع مجموعات لإدارة المعلومات والبحث عن الروابط وتحديد صدقية المصادر التي يعتمد عليها.
عمر نشابة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد