بطرس المعري: هناك حدان.. التجريب والنسخ الأعمى

12-12-2015

بطرس المعري: هناك حدان.. التجريب والنسخ الأعمى

اللوحة عند «المعري» تكاد تكون جسداً مترامي الأطراف؛ لوحة تبحث عن جذورها في التراثي والشعبي والأسطوري والشعري؛ حيث تحضر القصيدة في لوحاته؛ مثلما تتراءى لنا الحياة الدمشقية بثرثرات مقاهيها وجلبة أسواقها ودوخة متصوفيها، وذلك عبر تقنية عالية في الغرافيك والكولاج والكاريكاتور وما يقارب ريبورتاجات لونية لشخوص نعرفهم على طريقة المعري، حيث يحضر اسم هذا الفنان من جديد في مصادفة زمنية مع اسم صاحب «رسالة الغفران».
بطرس المعري الحاصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من باريس؛ والمتفرغ اليوم للعمل الفني في ألمانيا؛ التقته «السفير الثقافي» وكان معه الحوار الآتي:
 ^ كيف تفسر لنا حضور البيت الدمشقي وحاراته ومقاهيه وأسواقه في أعمالك بكثافة؟
} لقد اهتم الكثير من السوريين بتصوير البيوت الدمشقية وأجواء الحارات الشعبية بطابع فولكلوري، أو تقليداً ركيكاً للأعمال الاستشراقية حتى استهلكوا وابتذلوا هذا الموضوع الشيّق الغني، كونه سلعة رائجة في سوق الفن فأصبحنا أمام تجارة لا أمام فن. الحي الدمشقي والمقهى الشعبي بالنسبة إليّ ليس فقط ذلك المكان الذي يجلس فيه السائح ويأخذ صوراً مع نرجيلته، بل هو مكان له دوره في حياة العامة ولا سيما في بداية ومنتصف القرن العشرين. تلك الفترة شغلتني كثيراً، كما شغلني رمز هذه الحقبة التاريخية / الفنية بالنسبة إلي، الرسام الشعبي أبو صبحي التيناوي وأعماله التي تنهل من سِير المقهى، التاريخية والدينية. وقد كان للقائي مع الرسّام الراحل برهان كركوتلي مرات عدة في ألمانيا أثر كبير في بناء طريقة تفكير سليمة، إزاء هذا الموضوع. فالحكاية ليست بطربوش ومقهى وطاولة، أو سيرة بطل عادية، المسألة أعمق من ذلك. أجل قد يعتقد المشاهد أن هناك احتفالاً من قِبَلي بتلك الأجواء؛ ولكن إن دققنا قليلاً نجد أن رواد مقاهي لوحاتي هم من الناس الذين فقدوا رشدهم أو بوصلتهم بعد حكم دام أربعمئة عام من الانقطاع عن الحضارة، أو من أشباه مثقفين يصنعون أهميتهم من حملهم جريدة أو كتاباً، هناك الكثير من السخرية والعبث... لكن الحنين إلى هذه المدينة موجود والحب أيضاً، كما هي وبكل ما فيها. ولهذا ترى أن لوحتي تبدلت وتشعبت مواضيعها، لكن تبقى دمشق حاضرة، وتبقى اللوحة في النهاية بالنسبة إلي فضاء للتعبير ولإفراغ شحنة، إنها مساحة للتنفس أكثر مما هي عمل فني لذاته أو عمل خطابي نمتاز به في هذا الشرق.
 ^ تلجأ في الكثير من لوحاتكَ إلى الأبيض والأسود كلونين أصليين في أعمالك.. لماذا؟
} لجأتُ في لوحاتي إلى الأبيض والأسود كحنين لفن الحفر الذي درستُه في كلية الفنون الجميلة في دمشق؛ وكان من الصعب عليّ حينها العمل به لأسباب تتعلق بالمكان الذي كنتُ أرسم فيه. فكان قلم الرصاص والحبر الصيني حلاً ملائماً. ثم دخلت الألوان لوحتي على خفر، وبدأت بتنفيذ أعمالٍ بالكولاج وبالأكريليك على القماش... هذا بالنسبة للجانب التقني.
السيَر الشعبية
^ تحضر في لوحاتك شخوص كثيرة من السيَر الشعبية مثل «عنترة، وعبلة» وفي صياغة أقرب ما تكون إلى رسوم الفنان الشعبي أبو صبحي التيناوي، هل هي رغبة اللجوء إلى البساطة لا التعقيد الذي يحضر بكثافة في أعمال فناني جيلك؟
} سبق وقلت إنني تأثرت بأعمال الرسّامين الشعبيين وبطريقة عملهم، كذلك بأعمال الكركوتلي. عمل هؤلاء على الرسم بالخط وإغناء اللوحة بالزخارف والكتابات. أجد هنا لغة تشكيلية بسيطة تناسب مواضيعي، اعتمدتها في كثير من اللوحات. أجد فيها شيئاً كثيراً من جو البيئة الشامية، موضوعي الأثير. هو خيار وليس ابتكار. التعقيد يشبه أحياناً اللغو في الكلام. ربما المباشرة والبساطة في الطرح تكون أسلم. هذا ما أعتقده حالياً وربما تتبدل الأمور لاحقاً. أما مسألة أبناء جيلي فلا أجدها في التعقيد الذي تتكلم عنه بقدر ما هو في تقليد الفنانين الغربيين على صعيد الشكل أو المضمون. أكرر سؤالي الذي أطرحه دائماً كيف لابن دمشق أو حلب أو الحسكة أو الريف أن يرسم مثل ابن نيويورك أو باريس، هذا استخفاف بالعقول، فـ (باسكيا) على سبيل المثال ابن مدينة نيويورك بامتياز، ابن شوارعها ومترو الأنفاق فيها، رسم على الجدران مع أترابه وتسكّع في الحانات؛ وحين بدأ بالتصوير على الحوامل التقليدية من قماش وخشب، خرج عمله أصيلاً لأنه عبّر عن نفسه. صحيح أننا نعيش الآن في عالم لا حدود تفصل أفكاره وتجاربه، لكن ما زالت هناك مدن لها طابعها الخاص وثقافات لها خصوصيتها. أؤكد أن لا شيء يمنع الفنان من التجريب ولكن عليه أن يعرف الحد الفاصل بين التجريب والنسخ الأعمى عن الآخرين، لكل مدرسة في الغرب مهما كان شأنها فلسفة علينا معرفتها وهضمها قبل الخوض فيها. انظر إلى أعمال فاتح المدرّس أو (الزيات) فتعرف سر عبقريتها. هم أبناء هذه المنطقة، أبناء حضاراتها المتراكمة، عاشا فيها وخبراها، تعلما على يد من مرّوا بها قبل أن يتعلموا على يد الغربيين؛ فكان عملهما أصيلاً ذو هوية واضحة.
 ^ لكنك بالمقابل قلت إن باريس التي حررتكَ من «الوصايا العشر» لأساتذة الفن في المشرق التي لا تدعكَ تعمل بحرية؟ هل ما زالت باريس تعيقكَ أم تحررك إلى هذا الحد؟ أم أنكَ صرت مؤخراً تفتقد براءتكَ التشكيلية الأولى التي عرفتها في دمشق؟
} عندما تسكن مدينة كباريس مفتوحة على كل الثقافات، كذلك عندما تكون حراً في اختيار مواضيع أعمالك وتقنيتك وألوانك وملبسك ومشربك؛ فلا شك أن ذلك يربكك قليلاً في البداية. لا تستطيع، كشرقي، أن تترك بسهولة مشاهداتك ومعتقداتك وعُقد النقص التي تكبّلكَ؛ فتلقي بنفسك في حرية في العمل إلى حد ما مطلقة. لا شك أن باريس حررتني من رقيب ما، هو اجتماعي وأكاديمي قبل أن يكون سياسيا،ً لكن أيضاً تصبح هذه المدينة بعد سنوات من الإقامة مربكة بمعنى أنك تصبح ابنها بشكل من الأشكال. عليك في النهاية أن تكون أنت، المشرقي الشامي والباريسي بحكم الإقامة والعمل والتجربة. كثيرون تماهوا في بلدان المهجر وأصبحوا باريسيين بامتياز أو برلينيين بجدارة؛ في حين بقي البعض مخلصاً لقوقعته التي حملها من بلده الأم. أجدها مسألة خيار أيضاً. أنا اخترت أن أكون خليطاً من هذا وذاك. لا أستطيع أن أنسلخ عن دمشقي؛ كما لا أستطيع أن أرمي ما تعلمته في الغرب جانباً. ربما هذا المزيج ما يصنع خصوصية لعملي، هو إذاً إثراء لتجربتي وليس فقداناً لبراءة تشكيلية تكونت في دمشق.
الفن اليوم
^ كيف ترى اليوم إلى واقع الفن التشكيلي السوري في ظل إغلاق معظم صالات الفن السورية وهجرة فنانيها إلى خارج البلاد؟
} لم يتوقف الفنان السوري عن العمل وإن كان إيقاعه قد تباطأ بعض الشيء نظراً لظروف البلد، وهذا أمر طبيعي على ما أعتقد، فقد حدّت الأحداث من حرية حركة الكثير، كذلك خسر آخرون مراسمهم... أما الذي هاجر فقد تكبل أيضاً بأمور حياتية ليست بسيطة، لم يفكر بها سابقاً. كل هذا قد أخذ وقته ولكن أعتقد أن الأمور قد استقرت بالنسبة للجميع، لكن كلامي هذا لا يعني أن أمور الفنان هي على ما يرام. أعني بالاستقرار هو عملية التأقلم مع الوضع الجديد. ما تغير حتى الآن هو دخول موضوع الحرب والدمار بشكل كبير في أعمال الأغلبية. لكن دعني أقول هنا إن هناك واجباً أخلاقياً على الفنان الالتزام به. اللوحة كما الكلمة قد تقتل. كل فعل قتل هو مرفوض. اللوحة، كما الكلمة أيضاً، تحيي والفن الذي يجيّش هو فن ساقط.
 ^ ما هو رأيكَ بما يقدَّم اليوم من معارض عن الحرب خارج سوريا؟
} ما أراه الآن من أعمال، عن طريق شبكة النت في الغالب، هو في كثير منه عبارة عن أفكار وآراء سياسية أكثر مما هي أعمال فنية ناضجة وهذا أمر طبيعي لمن يستعجل التعبير عن نفسه أو من يريد استغلال الأحداث ليعطي لعمله أهمية، لا يستطيع أن يأخذها من دون «جمهور» رأيه أو تياره السياسي. لا نستطيع للأسف أن نوقف هذا الكم من الأعمال التشكيلية والغرافيكية والفوتوغرافية الركيكية التي تتاجر بالأحداث. لا أحد يمنع الفنان من تسخير فنه لنصرة قضيته لكن يجب ألا يجعلها فرصة لتسويق أعماله. طبعاً هذا لا يعني عدم وجود أعمال متينة على صعيد الفكرة أو التقنية أو الأسلوب بشكل عام. لا أستطيع بحكم وجودي في ألمانيا أن أتابع النشاطات التشكيلية إلا عن طريق شبكة النت أو ما يرسله البعض من دعوات ليست كافية للحكم على هذا الإنتاج. اختار الكثير من الفنانين العرض في الخارج لأن سوق الداخل قد توقف، هذا أمر جلي وواضح. الكثيرون يحتاجون إلى المال كي يعيلوا أنفسهم. لكن أرى من المجدي أن يتبرع البعض بقليل من الجهد كي ينشّطوا الحركة الثقافية في بلادهم، حيث يكون الأمر آمناً إلى حد ما. فالناس الذين بقوا في ظل هذه الظروف الصعبة «يستأهلون» أن يروا جديد أعمال هؤلاء الفنانين ولو كانت بضع لوحات. الحياة يجب أن تستمر وهؤلاء يستحقون الحياة.
 ^ ماذا عن «أبو عذاب أند فريندز» بطل صفحتكَ السياسية الساخرة على الفايسبوك؟
} أجل لقد أسستها منذ سنتين تقريباً؛ وكنت أنشر فيها بمعدل رسمتين أو ثلاث أسبوعياً، مساهمة مني في هذه التوعية لجيل الشباب، من طلابي وأصدقائهم، الذي أجده يتابع ما أنشره في هذا الموقع. هذه الأعمال تندرج تحت ما يسمى الرسومات الصحافية أو الكاريكاتير، طبعاً مواضيع الصفحة متعددة من اجتماعي، إلى رياضي أحياناً، إلى سياسي، تبعاً للأحداث المستجدة. حتى جاءنا ما سمي بـ «تنظيم الدولة الإسلامية - داعش» والذي زاد المشهد سرياليةً إن لم نقل ظلاماً وسوداوية؛ وكان له نصيب لا بأس به من هذه الرسومات؛ لكنني توقفت منذ شهرين عن النشر لضيق الوقت كما خفت من مطب التكرار واللغو! كذلك فضلت أن أركز جهدي على لوحتي، لكن الصفحة ما زالت مفتوحة للمهتمين. الحقيقة لا أعرف ماذا يمكن أن يقدم الفن التشكيلي، أو حتى الغرافيكي، لمجابهة ظاهرة التطرف، فالسؤال هو: من يتابع ما يجري في صالات ودور العرض والمتاحف؟ من يميز بين أعمال بيكاسو وأعمال فاتح المدرِّس مثلا؟ وماذا يعني لكثيرين ما أنتجه هؤلاء؟ لكن أقول ربما كان الفن الغرافيكي يصل بسرعة أكبر ولشريحة أكبر من الناس عن طرق وسائل الإعلام المختلفة وأغلبه قابل «للفهم» لذلك اخترت الفايسبوك لنشر رسوماتي الساخرة. هناك شريحة من الناس لا يستهان بها تتابع على هذا الموقع ما يُنشر وتتفاعل معه ولا نستطيع تجاهل دور هذه المواقع في زمننا هذا. وهنا تستطيع أن تستجلي ما يدور في ذهن الشبيبة، بماذا يفكرون أو يعتقدون. أجد أنه وسيلة خطيرة للتوعية كما هي أيضاً وسيلة من وسائل التجييش الأعمى، وقد استعملها كثيرون ونجحوا ببث سموم الطائفية في مجتمع نسبة الجهل فيه كبيرة؛ عدا عن أنه قابل لأن يكون دُمى في هذا المسرح العبثي. بالمقابل أجد أن الفن السينمائي أو التلفزيوني هو الأقرب إلى جميع شرائح المجتمع تقريباً ويمكن التعويل عليه أيضاً لمجابهة فكر هؤلاء. لكن برأيي الحلول الحقيقية لهذه المسألة تبدأ من خلال عملية إعداد رجال الدين أولاً وفي الاجتهاد في النصوص الدينية بما يتلائم مع روح العصر الذي نعيش فيه وفي الانفتاح على الآخر الذي خلقه الله أيضاً. نستطيع أن نحاسب مؤسسات الدول وأنظمتها عن فشل الخطط السياسية أو الاقتصادية أو التعليمية أو عن ما شئت لكن لا نستطيع أن نحملها كامل المسؤولية عن هذا التطرف. لدور العبادة الدور الأكبر في هذه العملية الحساسة؛ وهنا تكمن صعوبة المهمة. ولا ننسى ما حصل لمفكرين وأدباء عرب تجرأوا يوماً على فتح باب «طرح الأسئلة»! هنا أيضاً تكمن ديكتاتورية عمياء.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...