ماراثون الشعر العربي ..في مسيرة نزار قباني

20-06-2024

ماراثون الشعر العربي ..في مسيرة نزار قباني

د. نزار خليل العاني

مقدمة :
ليس دقيقاً القول أن الرواية أصبحت ديوان العرب . فأنا من القائلين أن ديوان العرب ما يزال هو الشعر ، إن لم يكن بالكيف ، ولكن بالكم ، ولا أبالغ إن قلت ، في كل ساعة نسمع باسم شاعر جديد! امرؤ القيس والمتنبي مايزالان حاضران في الذاكرة الجمعية ، وتتعاقب الأجيال وشعلة الشعر تنتقل من يدٍ إلى يد ، ولا تخبو ، وما يزال جمر الشعر العربي تحت الرماد ، وبين الآونة والأخرى هناك من يأتي  لينفخ على رماد قصائد الشاعر المتفرد "نزار قباني "(1923 – 1998 ) " ـ وأعني بالمتفرد غياب التشابه بينه وبين الآخرين ـ  ، وإذا  بلهيب إبداعه يرتفع ليخطف الأبصار. 
وأقول "المتفرد" بكثير من الثقة واليقين ، والشاعر نفسه يؤكد ذلك في الحوار الذي أجرته معه الشاعرة سعاد الصباح ، ونشرته مجلة العربي الكويتية في باب "وجهاً لوجه" في عدد أبريل/ نيسان عام 1992 ،حيث قال بالحرف : أنا هذه البصمات الواضحة على الورق، والتي لا يمكن لأحد أن يقلدها أو يزورها. أنا هذه اللغة التي اشتغلت في نحتها كالصائغ على مدى خمسين عاما، ولم يتمكن أي صائغ آخر من صياغة لغة تشبهها في بساطتها، وديناميكيتها، وديمقراطيتها.(1)
مثل المئات من النقّاد ومؤرخي ودارسي الشعر العربي ومتذوقيه ، أعترف بوجود "طبقات" من الشعراء ، لكن المتفردين منهم قلائل ، مثل فرادة العسكري "فيديبيدس" الذي ركض من قريته "ماراثون" إلى أثينا ليعلن عن انتصار شعبه ، ولا أبالغ إذا ذكرت أن فتى الشعر ، وفارسه "المتفرد" الذي امتطى فرسه من منازل عبقرية المتنبي ووصفه لـ (شعب بوان) ، ووصولاً إلى مسقط رأسه  (دمشق/ شام) التي يتكرر ذكرهما في قصائده أكثر من مئة مرة (2) ، هو نزار قباني . 
سمعت شخصياً من الناقد والأديب السوري الكبير "أحمد الجندي" شهادة في جلسة عابرة وثرثرة أدبية جمعتنا في مقهى "فوكيه" الباريسي مفادها  ، إذ قال لي : انعطافتان كبيرتان في مسيرة وتاريخ الشعر العربي كله ، حققها شاعران هما أبو نواس ونزار قباني . وهو يذكر خبر اللقاء في مذكراته (3)
الذرى الشعرية عديدة والشعراء الفحول كثيرون ، ولكن فرادة نزار قباني أنه مثل الملك الأسطوري الإغريقي "ميداس" ، كلما لامست أصابعه الكلمات تحولت حروفها إلى ذهب خالص .


 دار سعاد الصباح ومكانة نزار قباني 


 من أخصب سنوات عمري الثقافية تلك السنوات التي عملت فيها نائباً لمدير عام "الدار" في الكويت الصحافي الكبير والأديب والشاعر الراحل محمد خالد القطمة (4)، ومنه علمت أن الصداقة التي ربطت بين بيت الشيخ عبد الله مبارك وزوجته سعاد الصباح وبين الشاعر نزار قباني ، تعزى إلى اهتمام الشيخ بموهبة زوجته ، ورعايته لأدبها ، وقد اعترفت سعاد الصباح بهذا الاهتمام والفضل في مقابلاتها الصحفية ودونته في كتبها : وأشهد ، أن أبا مبارك ، أعطاني وأولادي ، من الحب والأبوة والحنان ، ما لا يعطيه سوى البحر الكبير... وكان إذا سمعني أقرأ شعري يمتلئ بالزهو والكبرياء ... إنه لم يقف أبدا ضد طموحاتي العلمية ، ولا ضد كتابتي ، ولا ضد ظهوري في المناسبات الثقافية ، بل كان يحترم عقلي ويحترم خياراتي ، ويرافقني إلى أية مدينة في العالم حتى أواصل تعليمي ... كان يعتز بأي نشاط ثقافي أقوم به وبأي كتاب يصدر لي وبأي مؤتمر أشارك في أعماله ... ولن أنسى فضله ما حييت . فهو الذي شجعني على مواصلة سبيل العلم والفكر والأدب ، وأحاطني بالاحترام في مجلسه . (5)
وفي تربة هذا التشجيع والاحترام العميق للفكر والمعرفة والثقافة الجادة ، ولدت "دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع" غير الربحية ، في القاهرة بقيادة نخبة رفيعة من المثقفين المصريين الكبار ، قبل أن ينتقل المقر من القاهرة إلى الكويت . 
وكانت "الدار" منارة ساطعة في ما طبعت ونشرت ، وأخذت على عاتقها مهمات كبيرة يعجز النشر التجاري على احتمال أثقالها ومنها على سبيل المثال لا الحصر ،  إعادة طبع كامل أعداد مجلة أحمد حسن الزيات "الرسالة" في أجزاء ومجلدات عديدة ، وإعادة طبع نفائس الكتب من أعمال د. حامد عمار ، وروائع أعلامٍ من طبقة "لورنس داريل " و" أسامة بن منقذ" ، وسلطت الأضواء على كنوز نزار قباني في أكثر من وقفة ، سنتناولها تباعاً .


كتاب"مدخل إلى الموسوعة الشاملة للشاعر نزار قباني"   


 الوسط الثقافي السوري كان يسمع ويعرف الجهود المبتكرة التي عكف الباحث برهان بخاري على إنجازها ، وتتلخص في مشروعه الطموح لدراسة تاريخية ولغوية وبنيوية للأحاديث النبوية الشريفة ، تساهم في تطوير دراسة جوانب من علم الحديث كان من الصعب الوصول إليها قبل وساطة الحاسوب (الكمبيوتر).
وفي إحدى زيارات مدير عام الدار "خالد القطمة" إلى دمشق تعرف شخصياَ على الكاتب والباحث "برهان بخاري" وعلى ملامح من مشروعه المستقبلي حول الأحاديث النبوية الذي أثار إعجابه، ويزور مقر عمله وشغله هو وطاقم من الشباب المتخصصين بالمعلوماتية وعملهم الإجرائي على إدخال نصوص تلك الأحاديث من "أمهات الصحاح" لتشكيل قاعدة بيانات متكاملة عبر برنامج أكسس( Access database ). 
وتلمع في ذهن "خالد" فكرة استعارة هذه الإجراءات النوعية المبتكرة ، وتطبيقها على مجمل أعمال نزار قباني الغزيرة ، ويكتب في الكلمة الأولى لكتاب "مدخل .." : لقد امتلأت روحي غبطة حين باركت الشاعرة العربية النبيلة الدكتورة سعاد الصباح فكرة إعداد هذا  "المدخل" الموسوعي لشعر نزار قباني ، لأن قرارها في إصداره يسجل لها ، مرة أخرى ، سبق الريادة في فتح الطريق أمام جانب من المسيرة الثقافية العربية المتعثرة .... لقد وقفت وراء هذا المشروع مؤمنة بأنه لابد من خطوة أولى ، بعيداً عن كل حساب غير حساب المسؤولية المباشرة والفاعلة في خلق آفاق معرفية جديدة .(6) 
إن التمهيد والمقدمة الوافية التي كتبها "برهان بخاري" للمدخل تتلمس ملامح مناهج بحث مستقبلية لدراسة الشعر غير مطروقة بتاتاً قبل هذا الكتاب الموسوعي ، منها نظرة لقواعد فقه اللغة وفقا لمكنونات علم الألسنية الحاسوبية Computational Linguistics ، مع اقتراحات لتعديل آلية الاشتقاق المعهودة لغوياً ، والتي انتهجها الكاتب في كتابه هذا ، والذي أزعم أيضاً وأيضاً أنه فريد في هذا المجال . (7)
واقتضى منهج "المدخل" التعامل مع 834 قصيدة ،و 8 مجلدات ، و35 كتاباً من كتب "نزار قباني" شعراً ونثراً ، واستقصاء 5402 صفحة ، و 17310 بيتاً من الشعر. 
وصار بإمكان الباحث أن يعرف عدد بحور الشعر التي اتكأ عليها الشاعر "القباني" وهي 11 بحراً من أصل 16 بحراً ، وأنه استثنى من البحور خمسة هي : المديد ، الهزج ، المنسرح ، المضارع ، المقتضب ، وفي غربلة هذا المدخل الموسوعي تمّ الكشف عن الموزون من غير الموزون في شعره .
 وبتصفح "المدخل" يكتشف القارئ بسهولة عناوين دواوينه ، عناوين قصائده والمتكرر منها وأماكن ورودها، مطالع قصائده حسب الترتيب الأبجدي ، عروضها ، قوافيها ، والمسرد التفصيلي للمفردات المفهرس هجائياً، وعددها  10430 مفردة موزعة على مجلدات أعماله الكاملة ، ويضاف إلى ذلك مسرداً للأفعال ( 1660 فعلاً )  ،فضلاً عن معاجم لغته الخمسة ، وهي على التوالي : معجم النبات وعدد مفرداته (119) ، الحيوان (130) ، الجغرافيا ( 131) ، أسماء الأعلام ( 148) ومعجم أعضاء الجسم (98) ، ويتبين في "المدخل" أكثر الكلمات تكراراً ، ودراسة العلاقة بين طول القصيدة والبحر العروضي ، وغير ذلك مما لا يتيح المقام لذكره .
من المحتمل أن لا يرى المتعجل قيمة ما احتوى كتاب "المدخل" ، والقيمة الحقيقية لمئتي وسبعين صفحة ، من القطع الكبير ، مكتظة بالجداول والأرقام والأعداد والنسب المئوية ، لكن أمام المتمهل تنكشف عشرات الدلالات .
 منها مثلا أن الشاعر "قباني" يفضل كتابة القصائد القصيرة ، وهي الفئة الأولى من أربع فئات ، ويبلغ عدد أبياتها ( من بيت واحد إلى 9 أبيات ) بنسبة 36.62 % مما كتب ، والفئة الثانية ( من 10 أبيات إلى 30) والثالثة ( من31 إلى 99) والرابعة (المطولات 100 فما أكثر) ، وأفضل البحور لدى الشاعر هي : الرجز والرمل والمتقارب ، والتي اتكأ عليها في (حوالي 67% من شعره) ، وأن أطول قصيدة كتبها "نزار قباني" هي قصيدة "يوميات امرأة لا مبالية" وبلغ طول أبياتها (397 بيتاً) . .
وبقي أن  أنقل ملاحظة هامة عن الكتاب يذكرها المؤلف حول شكل كتابة القصيدة وتوزيع جملها على الأسطر ، وأن الكثير من شعر نزار يمكن كتابته على النمط التقليدي الكلاسيكي للقصيدة العربية ، أي البيت المؤلف من صدر وعجز ، مع أمثلة ونماذج ومختارات من قصائد نزار وفقاً لبحور الشعر المألوفة عند الشاعر .   


حكاية مشروع الكتاب التذكاري


غالباً – وليس دائماً - ما تنطوي سيرة الأدباء العرب الكبار بعد رحيلهم وتنغلق صفحات وجودهم ، دون أن يحظوا في حياتهم بما يستحقون من إجلال وتكريم يليق بعطاءاتهم وإبداعهم .
من قلب هذه المفارقة المُخجلة والمُحزنة ولدت فكرة الكتاب التذكاري التي تبنتها ورَعَتها وأشرفت عليها الدكتورة سعاد الصباح على مدى عقود . 
والفكرة النبيلة هذه تسعى إلى تكريم الأعلام العرب الكبار عَبْرَ إصدار كتاب تذكاري شامل عن مسيرتهم الأدبية وهم على قيد الحياة ، لينالوا جزاء ما فعلوا من خير لمجتمعاتهم وأوطانهم التي لا تنكر عليهم مقاماتهم الرفيعة ، وليلمسوا هِبَة الوفاء من الآخرين الذين يقدرون سمو هذه الأريحية الشافية من تعب وعناء ومكابدة الأدباء الكبار ،وخصوصاً حين يكون ذلك  الآخر أديباً مثل الشاعرة سعاد الصباح . 
وتحققت هذه البادرة غير المسبوقة بإصدار كتب تذكارية "جامعة مانعة" كما يُقال ، عن أعلام وأدباء ومثقفين معروفين ينتمون لأكثر من بلد عربي . 
وكانت البداية بالأستاذ عبد العزيز حسين من الكويت ، والشاعر المسرحي ابراهيم العرَيّض من البحرين ، والشاعر عبد الله الفيصل من السعودية ، وثروت عكاشة من مصر ، وغسان تويني من لبنان ونزار قباني من سورية ....إلخ .
وأتاح لي موقعي في " دار سعاد" محايثة هذه الإصدارات في سياقاتها ومتابعة الظروف الشاقة لإخراج هذه الكتب التي توخت الدقة والشمولية والكمال . وقد عمل على إعدادها طواقم من الخبراء الثقافيين اللامعين ، وستبقى هذه الكتب شاهداً على إنجاز أدبي ومعرفي لا ينكره سوى الجاحدين .


جوائز دار سعاد وكتاب عن نزار قباني


أشرفت لسنوات عديدة على شطري مسابقة جوائز سعاد الصباح الأدبية والعلمية (أربعة عناوين مختلفة لكل  شطر ) لمن هم دون الثلاثين من العمر . وفي عام 1999 خصصنا أحد عناوين الجائزة في الشطر الأدبي لدراسة نقدية حول شعر نزار قباني . وفاز بالجائزة الباحث المصري " محمد اسماعيل محمد اللباني " ، والذي فاز بأربع جوائز أخرى بعد فوزه بجائزة "الدار" ، الأمر الذي يؤكد جدارته بالفوز ، ويؤكد عدالة وصواب قرار لجنة الحكم . وسأذكر هنا نبذة قصيرة عن ورطة  حدثت لنا عند طباعة ونشر ذلك الكتاب الفائز بالمرتبة الأولى .
ولحرص الدار على أهمية الكتاب ، فقد توليت بنفسي مراجعته وتحريره وتصحيحه وضبط  دقة القصائد المذكورة فيه بالعودة إلى المراجع ، وكلفنا من يصمم الغلاف ، وأعطينا المشرف على الطباعة الإذن بالإقلاع .
وحين أرسلت المطبعة لنا النسخة الأولى من الكتاب ووقع نظري على العنوان انعقد لساني من الصدمة والدهشة ، إذ كان العنوان : ( الحِسْ "النثري" في شعر نزار قباني ) . 
عنوان خاطئ  ومستفز وسطحي ومتناقض وغير موضوعي ارتكبه مصمم الغلاف ، فقد كان العنوان الأصلي للبحث هو : ( الحس "الثوري" في شعر نزار قباني ) وليس " النثري"  ، وهو معنى يصب في معنى التجديد والرفض . ولعل النسخة الوحيدة الباقية الحاملة للعنوان الخاطئ هي الظاهرة في الصورة المرفقة . وأعاد مصمم الغلاف العنوان الصحيح لنخرج من مفارقة وورطة طارئة .

مجلة (البيان ) الكويتية عدد حزيران / 647
  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- http://www.3rbi.info/Article.asp?ID=451
2- برهان بخاري ، مدخل إلى الموسوعة الشاملة للشاعر نزار قباني ، دار سعاد الصباح للطباعة والنشر ، ط أولى أبريل/ نيسان 1999 ، ص 258 .
3- أحمد الجندي ، لهو الأيام ، رياض الريّس للكتب والنشر ط أولى مارس/ أذار1991 ، ص 296 .
4- من أعماله وكتبه : نهر الأحزان 1992 ، الأسبوع 6 أيام 1992 ، بين الوردة والسكين 1996 ، ويبقى الأسبوع 6 أيام 2003 ، كلام يشبه الشعر2004 ، قصة الدولة الدرزية 2004، هارب من الأعراب 2005 .
5- سعاد محمّد الصباح ، صقر الخليج ، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع ، ط أولى 1995 ، ص 273 – 274 .
6- المرجع رقم 2 ، ص 3 .
7- المرجع السابق ، ص 39 .
8- المرجع السابق ، ص 264 .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...