الماغوط في غيابه السابع.. شاعر تحدى الموت بقصائد متمردة ومسرح لا يتكرر
يشكل محمد الماغوط علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي المعاصر عبر معجم هائل أغنى به قصيدة النثر التي بدأ كتابتها منتصف خمسينيات القرن الفائت حيث حمل إلى بيروت أولى أشعاره عبر قصيدة القتل كاتبا إياها على أوراق سجائر لف محدثا خلخلة في المشهد الشعري بين صفوف شعراء التفعيلة وداخل صفوف جماعة الحداثة من خلال مجلة شعر البيروتية التي ساهمت أشعاره في تحديد مشروعها الحداثي في القصيدة وتجاهل الماغوط كل القوانين القديمة التي تحكمت بأصول الكتابة الشعرية لاسيما في مجموعته الشعرية الأولى حزن في ضوء القمر عام 1959 التي جاءت بمثابة بيان شعري يملؤه الاحتجاج والصراخ والحزن مقتحما بذلك الأبجديات التقليدية لشعراء تلك الفترة وتأتي فرادة قصيدة الماغوط بصوره الشعرية المبتكرة ولغته النافرة كأب شرعي لقصيدة النثر العربية حيث استطاع ابن مدينة السلمية السورية أن يقلب الطاولة على كل أبناء جيله ناقلا ذائقة القارئ إلى مفردات تمرده وعصيانه ما أربك النقاد في التعامل مع أشعاره ليضطروا للاعتراف بها واستثنائها كمادة أدبية عالية المستوى.
من جهة أخرى تشبث الماغوط بعفويته وفطرته مؤكدا تلقائيته التي استقاها من بيئته الريفية البدوية ليعلن عبر مجموعته الثانية الفرح ليس مهنتي 1970 تحوله لكتابة المسرح والزوايا الصحفية بعد صمته الشعري وليكتب عشرات المقالات في مجلة المستقبل الباريسية تحت عنوان أليس في بلاد العجائب ومن ثم مسرحية كاسك يا وطن في جريدة الكفاح العربي وصولا إلى تحت القسم في مجلة الوسط إذ كانت هذه المقالات البذرة الأولى لمسرح سيكتبه هذا الرجل ردا على أطروحات ما عرف وقتها بالمسرح الجاد أو مسرح النخبة.
كما اختلف هذا الشاعر جذريا بما كتبه من نصوص مسرحية للخشبة العربية فكانت مسرحيات المهرج.. العصفور الأحدب.. خارج السرب.. غربة.. ضيعة تشرين.. كاسك يا وطن من الأعمال المسرحية التي زاوج الماغوط من خلالها بين المسرح الشعبي والمسرح السياسي حيث تمتعت كل من العصفور الأحدب والمهرج بمزاج حاد خلط فيها اللغة الشعرية بالمشهدية والفعل على المسرح.
ويصف النقاد تجربة الماغوط مع فرقة أسرة تشرين التي أخرج الفنان دريد لحام أعمالها للمسرح بأنها كانت من المسرحيات المحيرة نقديا لما يتمتع به هذا المسرح من روح السخرية والمرارة والنكتة الشعبية وبين الغنائية والاستعراضية التي قرأ لحام أعمال الماغوط من خلالها مسرحيا ويبرز الماغوط كأحد أهم الشعراء العرب الذين مزجوا مفردات الحياة اليومية بمعجم مبتكر من الجماليات واللغوية ذات الحساسية العالية في التقاط المفارقة والضجر من السائد والظلم الاجتماعي بصورة عامة وترجع اليوم الذكرى السابعة لرحيل صاحب غرفة بملايين الجدران ليؤكد هذا الشاعر فرادة قصيدته وجدتها عبر عويل عابق بالضجر والحزن والتمرد على كل القوالب الجاهزة لقصيدة النثر العربية إذ تعتبر مجموعته غرفة بملايين الجدران والتي كتبها خلال إقامته في إحدى حارات باب توما بدمشق من الجمل الشعرية التي لا تنسى في ذاكرة المتلقي إذ كانت بمثابة دفتر لأساطير الشاعر اليومية وعيشه المتقشف والبوهيمي في حارات دمشق القديمة وتردده كل يوم على مقاهيها ولا سيما مقهى أبو شفيق في الربوة الذي كتب على إحدى طاولاته المحاذية لمجرى نهر بردى معظم مسرحياته يقول الماغوط في قصيدة بعنوان أغنية لباب توما.. ليتني حصاة ملونة على الرصيف.. أو أغنية طويلة في الزقاق.. هناك في تجويف من الوحل الأملس.. ليتني وردة جورية في حديقة ما.. يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار.. أو حانة من الخشب الأحمر.. يرتادها المطر والغرب.. يبدو هذا النفس الشعري كتابة عصية على التعريف لخروجها من قاموس لغوي شديد الخصوصية مختلف عن كل السياقات البلاغية للقصيدة الكلاسيكية العمودية حيث يختلط الصوت بحشود البشر فوق الأرصفة فيقول.. تشبث بموتك أيها المغفل.. دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب.. فما الذي تريد أن تراه.. كتبك تباع على الأرصفة.. وعكازك أصبح بيد الوطن.
ويعتبر مسرح الماغوط من المسارح التي تستدرج المتفرج إلى لعبتها عبر الكلمة القوية والخارجة للتو من الحناجر الهادرة بحقوقها في الحياة والحرية وسط غنائيات تتشبث بالأرض والكيان الشخصي والخوف من المجهول.
وكتب الماغوط للسينما أيضا أفلاما لا تنسى مثل الحدود.. التقرير.. ومسلسلات من مثل حكايا الليل.. ووادي المسك ليعبر من خلالها عن غربته وتمسكه حتى النهاية بالسهل الممتنع كأسلوب فني عالي النبرة لمخاطبة الجمهور كما كتب نصوصه الأخيرة بنفس شعري مختلف استطاع من خلاله أن يلامس وجدان قارئه فكان سياف الزهور 2001 وشرق عدن.. غرب الله 2005 وأخيرا البدوي الأحمر 2006.
وتقول عنه زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح: محمد الماغوط من أبرز الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل لقد دخل ساحة العراك حاملا في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر جديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث.
سامر اسماعيل
المصدر: سانا
إضافة تعليق جديد