القيصر والدجاجة وحبة القمح
ـ 1 ـ يفاخر أحد «حكماء المحافظين الجدد الذين مازالوا يتشبثون بدهاليزهم في البيت الأبيض بأنه قد نجح في تزويد «قيصر العالم بوش» بحكمتين ثمينتين ستفتحان له أبواب الشرق الأوسط على مصاريعها: الأولى الزعم بأن العرب يعبدون الأوثان حتى الآن، إذ يفضلون الحجارة على النضارة. انهم يستملحون أن ينؤوا تحت ثقل التاريخ، ويخافون من استشراف المستقبل، والمطلوب هو تفتت حجارتهم، ورجمهم بأنوار المستقبل. والثانية الزعم بأن العرب يتعلقون بالأحلام، ولا يكترثون بالواقع كثيراً، والمطلوب هو بعثرة أحلامهم، وامطارهم بالحقائق الجارحة، وحينئذ يصابون بالجزع، ويقبلون ما يعرض عليهم باستكانة مدهشة.
ـ 2 ـ
وكان مستشارو «قيصر العالم» قد تسلحوا بالحكمتين الداعرتين، ونجحوا، فيما يزعمون، في تطبيقهما، ولو جزئياً، فمهدوا الطريق لظهور ما يسمى «الاعتدال العقلاني»، بعد أن فتتوا أربعة أحجار وثنية، كان لها بعض القداسة: لقد حل «الشرق الأوسط مكان الوطن العربي»، في الأذهان والأدبيات العربية، أولاً، وهذا معناه تفتيت الوطن العربي، وترسيخ الدول ـ الدكاكين، جغرافياً وحقوقياً، ثم تعميق شعور العداء والبغضاء داخل الأسرة العربية والإسلامية ثانياً، حيث أصبح بعض غلاة المذهبين يحرضون على الحروب الأهلية، ولا يتورعون عن «القتل على الهوية» ثانياً، ثم حدث التطور الثالث الأخطر، حين انقلب المال العربي الى «لعنة» تطارد الأجيال العربية الجديدة، وأضحى «حراماً» على أصحابه، حلالاً للطامعين فيه، خارج الحدود، وكلما توافر منه ما يكفي لتمويل مشاريع التنمية الضرورية طرأت أزمة، أو أعلن عن «طبخة» فإذا به يدفع، لتمويل الاحتلال، ولشراء الأسلحة «الخلبية» التي لا تستخدم في حرب، ولا في دفاع، وإنما لاغناء السماسرة، وكان لابد من تفتيت «الحصانة الروحية» رابعاً، فإذا بالإسلام، بكل ألقه وتوهجه يصبح ارهاباً متحدراً من القرون الوسطى، وعدواناً على منتجات الحضارة الحديثة، كما حدث في 11 أيلول في نيويورك.
ثم قصفت «الأحلام العربية» التي ظلت تطفو على سطح حياتنا عدة أجيال، وبقينا نتمسك بها، بطفولة ورعونة، على الرغم من أنه لم يترسب منها إلا شظايا مبعثرة في بعض الزوايا: حلم القوة العربية الموحدة أولاً، إذ استعيض عنها بالقوة الاسرائيلية المهيمنة، والمدعمة بالسلاح النووي والصواريخ الحاملة له، بالإضافة الى تعبئة قوى المنطقة لحرمان دولة اقليمية من الاستحواذ على السلاح النووي. وحلم التنمية العربية الشاملة ثانياً، إذ حل مكانها التصحر الزاحف على المدن والواحات، ولم تعد المؤامرة على مصادر المياه سراً. وأخيراً حلم السلام العربي العادل، إذ بدأ السلام الأميركي ـ الإسرائيلي يتكرس، وقد يكون هو «الحل التاريخي للصراع» فيما يزعم.
إن التحرر من الاستلاب لم يعد مأزقاً أخلاقياً، ولا ورطة اجتماعية، إنه ضرورة سياسية بالدرجة الأولى، ضرورة تفرضها وحدة التحديات التي يتعرض لها الإنسان العربي، وضخامة المهمات الملقاة على عاتق كل مواطن شريف ومسؤول.
ـ 3 ـ
ولعل الفكرة «المتسخة جداً» التي طرحها (ألان كونا)، أحد أباطرة المحافظين الجدد، لا لتكون تحت تصرف زعماء الدول التي تسعى الولايات المتحدة الى «اقتناصهم» فحسب، وإنما لتكون مهمازاً لنجاح أية سلطة، تسعى الى البقاء في الحكم، هي القول إن «الفساد لا يمكن فصله عن الازدهار الاقتصادي والإعلامي، وإن التنمية الواعية توجب افساح المجال أمام شرعية الفساد»، ويستشهد (كونا) بفقرات من كتاب «فن الافساد» للمنظر الألماني (هرست ايرهارد) يقول فيها: «من يرد أن يحكم، فعليه أن يجيد فن الافساد، هناك ترابط بين اتفاق فن الافساد، والتفاف ذوي النفوذ المالي والاجتماعي، بل الثقافي، حول السلطة، وهذا الترابط هو الذي يوفر بقاء النظام، ولا مكان للقيم، ولا للأخلاق، في حماية الحكم، وإلا سقط ضحية غبائه..».
إن عملية غسل الدماغ التي تؤمن للحكم التعاون والطاعة تتطلب اتقان السيطرة على وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمكتوبة، ولا يجوز التقتير عليها، سراً ولا علناً. وكما قال (ايرهارد): «ان قناعات المثقفين والكتاب مطروحة في سوق النخاسة، وقلائل هم الذين يقاومون اغراء الرخاء المادي. المهم معرفة كيفية استمالتهم بدهاء، وتحيزهم لخدمة الأغراض المنشودة، دون خدش لاستقلاليتهم المزعومة، ودون استرخاص لضمائرهم..».
ـ 4 ـ
دعي المثقفون والكتّاب من العالم الثالث، في بداية الشهر الماضي، الى الاستماع الى محاضرة يلقيها الروائي «سلاخو سيزيك» النجم المتلألئ في الأدبيات والقنوات الاذاعية والتلفزيونية والمصاب، هذه الأيام، بـ«الاسهال اللفظي». روى «سيزيك» قصة رجل كان يعتقد انه حبة قمح، وكان يرتعد رعباً من احتمال أن تلتقطه دجاجة، وأن تبلعه، وقد فشلت كل المحاولات في اقناعه بأنه انسان سوي ومن المستحيل أن يكون حبة قمح، الى أن عرض على عالم نفسي مشهور جداً، نجح في اقناعه، بعد جهود مضنية، بأنه ليس حبة قمح، ولكن الرجل عاد لرؤية العالم النفسي، بعد يومين، وهو يرتعد من جديد، وطرح عليه سؤالاً محرجاً: «وهل تعرف الدجاجة أنني لم أعد حبة قمح؟» وبقي الرجل، ككل المصابين بانشطار الشخصية، صريع أوهامه، ويتوقع وقوع الكارثة، في أية لحظة. وتوجه المحاضر الى جمهوره، وقال لهم: «انكم جميعاً مصابون بعقدة حبة القمح، وتعتقدون أن الدجاجة الأميركية سوف تلتهم استقلاليتكم وحضارتكم، ولم تجد حتى الآن كل محاولات شفائكم..!» فهل كان «سيزك» يسخر أم يبلغ رسالة كلف بها؟. على أية حال، هناك زعامات تصر على أن الشعب العربي «حبة قمح» وأنه من المصلحة العامة أن تبتلعها الدجاجة الأميركية، إذ لا سبيل آخر للتمفصل مع العولمة، ولاقتحام الحداثة، ولكن هناك واحات من المقاومة، هنا وهناك، ترفض تحويلها الى «حبة قمح»، وتناضل من أجل أن تحافظ على هويتها، وكرامتها.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد