الفساد يستمر.. ومحاربوه في محرقة الفاسدين!
أصبح الناس على يقين كامل بأن الحديث عن محاربة الفساد في سورية، بات يدخل في إطار الشعارات الجوفاء المستهلكة بعد أن فرّغها الفاسدون الكبار أصحاب النفوذ والسطوة من كل مضامينها وأهدافها، وأفقدوها الإرادة والقوة والاتجاه السليم..
ويدرك الناس اليوم، أن من يُرمون بتهمة الفساد من الموظفين الصغار، ويعاقَبون على أساس ذلك، ويُشَهَّر بهم، ما هم على الغالب إلا أناس شرفاء حاولوا محاربة الفاسدين الكبار وفضحهم، فارتد ذلك عليهم وبالاً، فطُردوا من عملهم، وخسروا مصدر رزقهم، ولُوثّت سمعتهم، كل ذلك بسبب غياب الحماية القانونية وضعف النصير..
وها نحن، في كل يوم، نجد أنفسنا أمام حكاية فساد جديدة، تختلف في تفاصيلها، لكنها تتطابق في خطوطها العريضة: فاسدون أقوياء تربط فيما بينهم شبكة متشعبة من العلاقات والمناصب والمصالح، وموظفون شرفاء صدّقوا الشعارات وأخلصوا الجهد لتطبيقها، فوجدوا أنفسهم في أتون محرقة لا سند لهم فيها ولا نصير..
في مدينة حمص، اكتشف أحد الموظفين الشرفاء بحكم عمله كمفتش في جهاز الرقابة المالية الكثير من قضايا الاختلاس للمال العام المستمرة منذ عشرين عاماً، وظل طوال سنوات يقدم تقاريره وثبوتياته لرؤسائه عن هذه القضايا بكل نزاهة دون جدوى، وحين بدأت «حملة مكافحة الفساد» المزعومة، كثّف هذه التقارير وهو يحسب أن نهاية الفاسدين قد حانت، فماذا كان جزاؤه؟ كوفئ بأن اتخذت بحقه الكثير من الإجراءات التعسفية، وتم تشريده!!.
ولعل أهم المواضيع التي أثارها هذا المفتش:
1) في الشركة العامة للأسمدة:
أشار المفتش إلى موضوع فروقات أسعار الأكياس المستخدمة لتعبئة الأسمدة، مؤكداً أن الشركة تستهلك يومياً بحدود /40/ ألف كيس، وسعر الكيس هو بحدود /405/ ل.س في حين يباع للشركة بـ /14-17-19-22/ ل.س (هذا عن الفترة ما قبل عام 2003) أي أن الشركة تدفع يومياً فرق بحدود /500000/ ل.س خمسمائة ألف ليرة سورية، على مدار العام، وهذه العملية عمرها حوالي /20/ عاماً، وقد استفاد من هذا التلاعب أحد التجار المنتجين لأكياس النايلون عن طريق التلاعب والتزوير..... الخ، هذه الحالة لا تقتصر على شركة الأسمدة فقط، بل تنسحب على جهات عامة أخرى مثل شركات /سكر، مؤسسة الأعلاف، مؤسسة تصنيع الحبوب، مناجم الملح/.. وغيرها. وبالتالي فإن ما تكبدته جهات القطاع العام جراء ذلك عدة مليارات من الليرات السورية، وقد كُلّف هذا المفتش بالتحقيق بهذا الموضوع في عام /2004/ بموجب موافقة رسمية من رئاسة الجهاز وإدارة فرع حمص، وبعد أن انكشفت ملابسات الموضوع مورست ضغوطات ومضايقات بحقه من عدة جهات، وفي مقدمتها رئاسة الجهاز بقصد السكوت والتستر عن الفضائح التي ينطوي عليها هذا الموضوع.
ونظراً لأهمية الموضوع فقد طرحه النائب السابق الأستاذ زهير غنوم في أحدى جلسات مجلس الشعب لعام /2005/ مع الثبوتيات، وشكلت لجنة للتحقيق، ولكن يبدو أنه لم يسمح للجنة بالمباشرة في عملها؟!
2) في المؤسّسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي:
أكد المفتش أن نسبة الهدر في المياه أكثر من 54 %، وتقدر قيمتها بأكثر من مائتين وخمسين مليون ليرة سورية سنوياً، وهذا ينسحب على أكثر من عشر سنوات ومعظمها مياه مسروقة وبالرغم من أهمية الموضوع وضرورة معالجته فقد تم السكوت عنه والتستر عليه.
أما في الجباية، فقد أكد المفتش أن أحد الجباة اختلس مبلغ ثلاثة ملايين ليرة سورية وتوارى عن الأنظار منذ بداية عام /2005/، كما أنه قبض رواتب وتعويضات عن فترة خمس سنوات دون دوام حيث مارس خلال هذه الفترة مهمتين:
الأولى: تزوير فواتير مياه واختلاسها مع بعض المسؤولين في المؤسسة بلغت قيمتها /12/ مليون ل.س.
الثانية: عمل متعهداً مع إدارة المؤسسة، وأبرم عقوداً وتعهدات بملايين الليرات ومعظمها وهمية، وكل ذلك ثبت بتقارير الرقابة وأُيّد بالوثائق والثبوتيات مع العلم أن مكان عمله في تدمر، وهو يسكن في حمص، وحتى تاريخه لم يتخذ بحقه إي إجراء قانوني، ولم يُحلْ للقضاء، وتتستر عليه إدارة فرع الجهاز بحمص وإدارة المؤسسة.
بعد كل هذه المعلومات والتقارير ماذا كانت مكافأة هذا المفتش؟؟
1 - صدر بحقه قرار من رئاسة الجهاز بناءً على اقتراح مدير فرع حمص رقم /1154/ تاريخ 26/12/2005 يقضي بإبعاده عن عمله كمفتش في القطاع الاقتصادي إلى عمل إداري!.
1 - عدم تكليفه بأي عمل على الإطلاق لأكثر من عام.
2 - قيام مدير فرع الجهاز ومدير عام شركة الأسمدة ومدير عام مؤسسة المياه بتقديم شكاوى بحقه إلى رئاسة الجهاز بتاريخ 7/2/2007، وتمت إحالته إلى لجنة التحقيق المسلكية بدمشق.
وبعد التحقيق معه لم تثبت إدانته بأية تهمة، بل على العكس من ذلك، لقد ثبتت إدانة فرع الجهاز بحمص بتهمة تقاضي الرشاوي وذلك بإثباتات خطية مؤكدة، ورغم ذلك تم التستر على الموضوع؟!
3 - حرمته إدارة فرع الجهاز من ترفيعة عام 2008.
4 - وتتويجاً لكل ذلك صدر قرار السيد مجلس الوزراء رقم /56/ تاريخ 6/1/2008 القاضي بنقله إلى الشركة العامة للفوسفات والمناجم (مناجم خنيفيس) التي تبعد حوالي /80/ كم عن مدينة حمص، وتبلغ مضمون القرار بتاريخ 9/1/2008، وباليوم نفسه صدر قرار انفكاكه من عمله.. وذلك قبل أن تقوم إدارة الجهاز باستلام مابعهدته من وثائق وأضابير وأثاث.. حيث أن محضر الاستلام نظم في 20/1/2008، أي إن قرار انفكاكه تم قبل إجراء محضر الاستلام بحوالي عشرة أيام، وهذه الفترة اعتبرت بدون راتب.
قرار النقل إلى مناجم خنيفيس جاء بمثابة التسريح التعسفي، فالوضع الصحي للمفتش المعاقب غير جيد، ولديه مشاكل قلبية، والقانون يؤكد على حماية حياة العامل في مثل هذه الحالة وإبعاده عن الأماكن التي تهدد صحته وحياته، ولا ينص على إعدامه حياً!!
القضيّة برسم من تبقى من شرفاء في جهاز الدولة..
جهاد أسعد محمد
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد