العدوان الأميركي ومستقبل المشرق العربي
منذ أسابيع عدة والعالم بأسره منهمك بأخبار العدوان الأميركي المتوقع في أية لحظة على سوريا. وقد خصص البابا فرنسيس الأول يوم السابع من أيلول 2013 يوم صلاة لنصرة الشعب السوري وإحلال السلام في سوريا من دون النظر إلى الخلافات الداخلية المستحكمة بين النظام والمعارضة. ثم كرر معارضته للحرب على سوريا، وندد بالأكاذيب المعلنة لتبرير القيام بها. وحذر من استمرار لغة العنف بين الشعوب وأدان بشدة انتشار الأسلحة والإتجار غير المشروع بها.
ليس من شك في أن موقف البابا له دلالاته وتأثيره المعنوي على شرائح واسعة من الذين يرفضون مبدأ الحرب بالمطلق، بعد أن اكتووا مراراً بنارها، ودفعوا الثمن غالياً. وتزامن موقف البابا مع تظاهرات عدة عمت الكثير من شوارع العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية ضد العدوان المرتقب. ومنع مجلس النواب البريطاني حكومته من المشاركة في هذا العدوان إلا في إطار قرار صادر عن مجلس الأمن، ما أضطر الرئيس أوباما أن يستجمع حلفاءه الإسرائيليين، لاستصدار قرار عن الكونغرس الأميركي لتبرير عدوانه غير المبرر على سوريا، وهي دولة مستقلة، وذات سيادة، وعضو في الأمم المتحدة.
أكدت تقارير إحصائية أن الرأي العام في دول أميركية وأوروبية يعارض بنسبة عالية ذريعة السلاح الكيميائي للقيام بعدوان مبرمج منذ سنوات طويلة لتدمير ركائز القوة العسكرية للنظام السوري. واستعادت قوى المعارضة في تلك الدول الذرائع التي قدمتها الإدارة الأميركية، خاصة أسلحة الدمار الشامل لاحتلال العراق العام 2003. واعترف الأميركيون لاحقاً بأنها كانت ذرائع كاذبة استخدمت لتدمير ركائز الوحدة الوطنية في العراق. ونجم عنها دمار شامل، ونزاعات دموية مستمرة، واقتسام مناطق النفوذ بن سنة وشيعة وأكراد، ومقتل مئات الآلاف من العراقيين وتهجير الملايين منهم.
تبدو الأرقام التي قدمتها مراكز استطلاع الرأي العام الدولي تجاه العدوان الأميركي المرتقب على سوريا مذهلة للغاية. فهناك ارتفاع متزايد في عدد المعارضين له وفق النسب التالية: ارتفعت نسبتهم في ألمانيا من 63 في المئة إلى 75 في المئة، وفي بريطانيا من 50 في المئة الى 70 في المئة، وفي فرنسا من 55 في المئة الى 65 في المئة وفي الولايات المتحدة من 55 في المئة الى 63 في المئة. ورغم حماس رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان لإسقاط الرئيس السوري، فإن نسبة المعارضين للعدوان العسكري على سوريا وصلت إلى أكثر من 72 في المئة في أوساط الشعب التركي.
يأتي هذا التحول الكبير في الرأي العام العالمي ضد العدوان العسكري الأميركي لإسقاط النظام السوري بالقوة المسلحة، بعد الكشف عن ذرائع متعددة لتبريره. فهناك اتهام مسبق للنظام السوري باستخدام السلاح الكيميائي قبل صدور تقرير اللجنة الدولية المكلفة بهذه المهمة. واعتمد مبدأ الخداع التكيكي باسم الضربة الخاطفة أو المحدودة لدعم قوى المعارضة في المعادلة السورية تمهيداً لحل سلمي في مؤتمر جنيف الثاني الذي لن يعقد بعد العدوان. وتم استغلال المأساة البربرية التي ارتكبت بحق المواطنين السوريين الأبرياء للتهويل بمخاطر السلاح الكيميائي السوري ضد شعوب الدول المجاورة، والتحذير من إمكانية استخدامه ضد الشعب الإسرائيلي، من جانب القوات النظامية أو بعض قوات المعارضة.
ما يحدث الآن من ارتباك كبير في أوساط الإدارة الأميركية وحلفائها في الدول الغربية، المناصرين دوما لإسرائيل، ناجم عن صمود النظام السوري بقواه الذاتية أولا إلى جانب الدعم الكبير الذي حصل عليه من حلفائه الأقربين. في حين طالبت دول عربية عدة بعدوان أميركي قوي يسقط النظام السوري على الطريقة الليبية. علماً أن نتيجة ذلك العدوان ستكون كارثية في حال ضربت ركائز الدولة المركزية في سوريا، وخضعت مناطقها مجدداً إلى عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية وعرقية سابقة على ولادة الدولة المعاصرة. مردّ ذلك إلى أن قوى المعارضة السورية مفككة، وانقساماتها متلاحقة مع بروز حاد لقوى تكفيرية تستخدم أساليب عنفية غير مسبوقة في تاريخ الانتفاضات الشعبية الحريصة على بناء نظام ديموقراطي جديد أكثر عدالة وإنسانية من النظام السياسي القديم.
لقد أحجم أوباما عن استخدام صلاحياته المطلقة في إعلان الحرب على سوريا بعد أن لمس حجم المعارضة الدولية لسياسته، فقرر تحميل الكونغرس مسؤولية العدوان. وبعد الحماس المنقطع النظير للرئيس الفرنسي بإعلان الحرب على سوريا، حتى من خارج مجلس الأمن، بات ينتظر تقرير اللجنة الدولية. وبدت مؤخراً بارقة أمل عبر مبادرة روسية ـ بريطانية بوضع السلاح الكيميائي تحت رقابة دولية. فوافق عليها النظام السوري لثقته بحليفه الروسي. وارتبكت الإدارة الأميركية وحلفاؤها فقررت التريث في إعلان الحرب بانتظار ما ستؤول إليه المشاورات الجانبية والمفاوضات السرية.
فالعالم كله يتهيب الحرب على سوريا باستثناء رؤوس حامية في إسرائيل وحماتها، وفي تركيا وبعض الدول العربية. واللافت للنظر أن المد الجماهيري الدولي الشاجب بقوة للعدوان لم يجد نظيراً له على المستوى العربي إلا بشكل محدود، ولا يرقى للمقارنة مع الحشود الجماهيرية التي كانت تملأ الساحات العربية ضد أي عدوان خارجي على دولة عربية. على العكس من ذلك، فالدول العربية وجامعتها المشلولة ما زالت تعيش مرحلة ما قبل الانتفاضات العربية لعام 2011. وطالب مجلس التعاون الخليجي في بيان صدر في السابع من أيلول الجاري، المجتمع الدولي بالـتدخل الفوري ضد سوريا لإنقاذ الشعب السوري. وحمل النظام السوري كامل المسؤولية عن المآسي التي حلت بالسوريين لرفضه جميع المبادرات العربية وغير العربية لتسوية الأزمة، واستمراره في ممارسة كل أساليب القتل والتدمير، بما فيها استخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً والتي راح ضحيتها مئات من المدنيين الأبرياء. وأكد على أن دول مجلس التعاون تؤيد الإجراءات الدولية التي تتخذ لردع النظام السوري عن ارتكاب هذه الممارسات اللاانسانية.
أخيراً، لقد فشل الأميركيون في توحيد قوى المعارضة السورية المسلحة ذات الارتباطات الخارجية المتنقلة ما بين دول عربية نفطية، وتركيا، ودول أوروبية، والولايات المتحدة الأميركية. وفشلوا أيضاً في إصدار قرار دولي عن مجلس الأمن يجيز لهم إعلان الحرب على سوريا بإجماع دولي نظراً لصلابة الموقفيْن الروسي والصيني واستخدام الفيتو المتكرر لتعطيل أي قرار يصدر عن مجلس الأمن. فقرروا الاستفادة من جريمة استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين السوريين كذريعة لضرب النظام السوري، وذلك قبل أن تبدأ اللجنة الدولية عملها ومن دون انتظار تحديد المسؤول عن تلك الجريمة الموصوفة ضد الإنسانية، سواء كانت من جماعة النظام أم المعارضة.
لكن قوى دولية وعربية فاعلة أدركت أن العدوان يتجاوز مسألة إسقاط النظام السوري ليطال وحدة سوريا أرضاً وشعباً ومؤسسات، وموقعها الاستراتيجي، ودورها التاريخي الفاعل في منطقة الشرق الأوسط. وتنبهت روسيا ودول كبرى إلى أهمية الحفاظ على سوريا الموحدة في المعادلة الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط لأسباب تتجاوز رفض إسقاط النظام السوري بالقوة إلى رفض تسليم هذه المنطقة بأكملها للأميركيين والإسرائيليين.
ختاماً، في زمن الانتفاضات العربية لم تعد جامعة الدول العربية تمثل ضمير الشعوب العربية. ويدرك صقور دولها النفطية الداعمة للعدوان العسكري المرتقب على سوريا أن من اتخذ القرار هو اللوبي الصهيوني الأميركي، وهو قرار إسرائيلي بامتياز، وبكلفة بالغة تدفعها الشعوب العربية من دماء الشهداء، وآلاف الجرحى والمقعدين، وملايين المشردين. فباتت المسألة السورية على جدول أعمال الأجندة اليومية لغالبية دول العالم ومراكز الأبحاث والصحافة ووسائل الإعلام العالمية، وتحركت الجماهير العربية في أكثر من اتجاه، خاصة في القاهرة التي تشكل اليوم الصوت القومي العربي الأكثر فاعلية للجم العدوان المرتقب. وذلك يطرح تساؤلات كثيرة حول مستقبل النظام العربي في ظل التهديد الأميركي ليس لضرب سوريا فحسب بل لتدمير جميع القوى العربية المناهضة للمشروع الأميركي الذي يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى.
مسعود ضاهر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد