التراث تحت رقابة الأحفاد
يشهد المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، معرضاً فنياً لحفيدة الفنان الشعبي السوري أبو صبحي التيناوي (1888ـ 1973) تستعيد فيه نجاح حرب التيناوي، لوحات جدها كنوع من إحياء ذكراه واستعادة لهذا النوع من الرسم الذي كان التحفة النادرة التي يحملها السياح والزوار، ولا سيما اللبنانيين منهم، من دمشق إلى بلدانهم.
وتعزز نجاح حرب التيناوي، التي تستعيد إلى جانب كنية التيناوي، كنية جدها التي أخذها عن زوج أمه، الكنية الحقيقية حرب، فرضية أن كثيراً من اللوحات التي كانت توقع باسمه لم تكن في جوهرها إلا رسوماً لأولاده وأحفاده الذين علّمهم »مصلحة« الرسم كما ينبغي لأي صاحب مصلحة تقليدية أن يفعل حين يورثها لأبنائه. هذا ما يشير إليه ناقد تشكيلي سوري عاصر التيناوي والتقاه، ويرى في لوحات الحفيدة نجاح، تطابقاً كبيراً مع لوحات الجدّ. فنجاح التيناوي لا تستعيد هنا أجواء ومناخات وطريقة جدها فحسب، إنما تستعيد نسخ اللوحات نفسها تقريباَ ولكن بتوقيع جديد، ولا يغيب عنها الهدف التجاري حين تجري الإشارة إلى حاجة السوق وكثرة الطلب على أعمال أبو صبحي التيناوي.
معرض نجاح التيناوي الذي قضت في إعداده حوالى ستة أشهر، شكّل في هذه الأيام الرمضانية ما يشبه معادلاً بصرياً لحكواتي النوفرة إذ يستعيد ويروي سيراَ لونية لأبطال الأساطير والحكايات الشعبية، حيث يحفل المعرض بأكثر من لوحة لعنترة وعبلة، وأبو زيد الهلالي والزير سالم وجساس والظاهر بيبرس وسفينة نوح وسواها من لوحات رسمها التيناوي الجدّ.
لا شك أن ما يلفت المرء هنا السؤال عن حاجتنا إلى هذا النوع، عدا عن إحياء الذكرى، طالما أننا أمام لوحات مستنسخة لا تأتي بجديد، ولكن ماذا لو كانت نجاح، أو غيرها من الأبناء والأحفاد، هي من رسم آخر لوحات التيناوي الجدّ حين كان الرجل على فراش المرض في آخر أيامه لا يقوى سوى على التوقيع، والتي كان يتناهبها الزبائن حتى لو كان التيناوي أعاد رسمها عشرات المرات؟!
وإذا كان الناقد التشكيلي محمود شاهين يستعيد ذكرى زيارة إلى منزل التيناوي بالقول: «في العام ,1972 وقبل وفاة أبو صبحي التيناوي بسنة واحدة، قمت بزيارته إلى بيته بباب الجابية، وحاولت جاهداً كي يطلعني على محترفه الذي يحضّر فيه الألوان والرسوم وينفذها، لكنه أبى ذلك، قائلاً إن هذا سر المهنة الذي لا يمكن لأحد الاطلاع عليه. وعندما سألته في ما إذا كان قد سمع برسّام يُدعى بيكاسو أجابني بالنفي، مؤكداً أنه لا يتعاطى مع هذا الشخص. ثم قال: أنا لم أغادر دمشق طوال حياتي، لذلك لا أعرف هؤلاء الذين تتحدث عنهم»، فإن الحفيدة نجاح، وهي الوحيدة من بين أحفاده التي تربت في منزله وعلى يده، تعترض على ذلك، ففي اتصال مع «السفير» قالت إن الناقد زار التيناوي في آخر أيام حياته، وما كان ينبغي لنا أن نسمح له بتلك الزيارة. وهي تحاول بذلك أن تلمح إلى أن الحديث الذي جرى مما لا يقيّد عليه، وقد أزعجها في ما يبدو إظهار جهل الرجل ببيكاسو، في الوقت الذي أراد الناقد شاهين أن يظهر عفوية فنان دمشق الشعبي، وعدم معرفته بمدارس الفن التشكيلي.
وعن هدفها من المعرض تقول الفنانة، وهي أيضاً لم تتعلم الرسم أكاديمياً فهي خريجة كلية الحقوق وسيدة منزل، إنها تعتبر لوحات التيناوي مثل العَلَم، ولشدّ ما تفاجأتْ حين رأت لوحتي جدها عنترة وعبلة تمرّان عابراً في مسلسل أجنبي، في الوقت الذي لا تعرف الأجيال هنا شيئاً عنه، فمن بين أهدافها أن تعرّف الأجيال بهذا الفن.
وحين نسألها عمّا أجرته من تغيير تعترف التيناوي، أنها أجرت تعديلات كثيرة في اللوحات الستة والعشرين المنسوخة عن لوحات جدها التي قدمتها في المعرض، فبسبب دموية المشهد في لوحة الزيناتي خليفة والأمير دياب بن غانم، حيث تصور سهماً يصيب عيناً فيدميها، جعلت الرجل يصدّ السهم بالترس. ثم حذفت الرؤوس التي كانت ملقاة بين أرجل الحصان للسبب نفسه. كما أنها حذفت أسماء الأنبياء والصحابة التي اعتاد التيناوي أن يكتبها إلى جانب شخصياته، وتعطي مثلاً لذلك لوحة »فردوس سلطان الجان« حين تحذف اسم علي بن أبي طالب لتكتب جانب شخصيته «فارس من فرسان المسلمين». عندما نسأل الفنانة: «ألم يكن التيناوي الجد أجرأ منك بذلك؟» تقول: «نحن لدينا ثقافة دينية. أيام زمان كانـوا يصلّون، ولكن الثــقافة التي حصلنا عليها غير ما حصل عليه أجدادنا. نحن نعــرف أن هذه الأشياء لا ينبغي رسمها. إنه نوع من الاحترام للصحابة والأنبياء».
يعتبر النقاد التشكيليون أن «تجربة الفنان الشعبي أبو صبحي التيناوي امتداداً لفن النمنمة الإسلامي الذي رافق الكتب الشعبية، والتي اطلع عليها التيناوي وقلدها ونسخ الكثير منها نسخاً حرفياً، لا سيما ما يتعلق ببعض رسوم الواسطي التي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي»، وبأن «لوحاته لا تتقيد بقواعد المنظور حيث تخلو من العمق والأبعاد وعدم التقيد بقواعد التشريح. والتلوين بمساحات لونية لا وجود فيها للظلال أو التدرج اللوني». أما لفراغات اللوحة فقد ابتكر الفنان النجوم والنباتات والأزهار. كما ابتكر ما أدهش الكثيرين حين تحايل على إطار اللوحة الذي لم يتسع لذيل حصان، فرسم الذيل في فراغ آخر، وكتب تحته هذا: «الذيل لهذا الحصان».
بدأ رحلته مع الرسم في سن العاشرة، حين كان يلوّن ما يرسمه والده، احترف الرسم تحت الزجاج، ثم على القماش، استلهم تجربته كثير من الفنانين التشكيليين مثل نزار صابور وبرهان كركوتلي وسواهما، وقدم المخرج وديع يوسف فيلماً وثائقياً عنه العام .1975 تذكّره محمد الماغوط في قصيدته إلى يوسف الخال حين قال: «نعم أنت المسمار المقتلع من إحدى راحتي سبارتاكوس/لتعلق لوحة لرفيق شرف الحافي القدمين بين أعمدة بعلبك وخرائبها/ وأي شيء للعطار الأمي أبو صبحي التيناوي في بزورية دمشق».
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد