البوتوكس يستعمر أجساد اللبنانيات
جراحة التجميل وحقن «البوتوكس» وأدوية الأعشاب وأنواع أخرى من الخيارات انتشرت بقوة في لبنان في الآونة الأخيرة. ويرفع كثير من أصحاب تلك الممارسات شعار «الطب البديل»، الذي تمدّد على الفضائيات اللبنانية والعربية، على هيئة برامج تلفزيونية أو اعلانات تجارية، ربما بالتوازي مع انتشاره فعلياً أيضاًً. وكذلك تنتشر إعلانات التجميل على الطرقات اللبنانية من خلال اللوحات المزينة التي تُعلن عن مراكز تتخصّص بشد الوجه وحقن «البوتوكس» وتكبير الصدر وغيرها من المسائل التجميلية. كما تظهر تلك الأشياء عينها في الصحف. ولا يتردد بعض مسوقي تلك المستحضرات والممارسات، في إدعاء القدرة على شفاء أمراض مستعصية وقاتلة (مع غياب الأدلة العلمية على نجاعتها)، بل يصل الأمر الى التباهي بالقدرة على شفاء الأمراض كلها! ولا يتردّد أطباء في وصف هؤلاء المتباهين بأنهم «منتحلو صفة» ولا دليل علمياً على ما لا يكلون من إدعائه بـ«طلاقة» على الشاشات الفضية.
وفي أغلب الحالات تباع تلك المنتجات من دون استشارة طبية، وهذا يعود الى أن معظم الذين يمارسون هذا الطب البديل لا يحوزون شهادات علمية تؤهلهم لممارسة الطب والمداواة.
والمفارقة أن القانون اللبناني، خصوصاً المادة 16 من قانون الآداب في الإعلام الدعائي، ينص على عدم جواز استغلال مهنة الطب لغرض تجاري. ولم يمنع ذلك بعض الفضائيات اللبنانية من تقديم برامج تتضمن عروضاً مباشرة لأنواع معينة من الجراحات التجميلية، ما يعتبر تجاوزاً للقوانين الطبية، وللسلوكيات الراسخة للمهن الطبية عموماً، خصوصاً انها تروّج لنوع من العلاجات على حساب أخرى.
- وصل انتشار طب التجميل لبنانياً الى حدّ تخلى البعض عن نصف دخله السنوي لإجراء عمليات من نوع حقن البوتوكس (لشد الوجه) والكولاجين (لتكبير الشفاه وشد الخدود) واستعمال ما تيسر من الكريمات وأشعة الليزر لإزالة الشعر. وتلفت الأوساط الطبية الى أن بعض اعلانات التجميل تجاوز القوانين، خصوصاً أن المعلنين ليسوا جميعاً أطباء تجميل. ويبدو أن هناك منافسة تجارية بين هذه المراكز. فمثلاً، تصل تكلفة حقن البوتوكس في مركز الى نحو 400 دولار وفي آخر الى 250 دولاراً.
وفي المقابل، ترى بعض الأوساط الطبية، ان طريقة التسويق لعمليات التجميل وحقن «البوتوكس» ومنتجات الأعشاب، فيها التفاف على القانون. ودعت الى تصحيح الوضع بأن يتشارك جميع المعنيين بالمسؤولية، من خلال وقف المهاترات والخزعبلات الطبية في الإعلام، وإلغاء المرسوم 11710 الخاص باعتبار الأدوية العشبية مُتمّمات غذائية، وحصر التسجيل والتصنيف باللجنة الفنية في وزارة الصحة، مع إلزام الاعلانات المُرخصّة ان تُبرز بوضوح أنها مادة اعلانية.
يلفت الطبيب اسماعيل سكرية عضو لجنة الصحة النيابية اللبنانية الى ان تسمية «الطب البديل» تحتاج الى توضيح. ويُشدّد على خطورة أن يعمد البعض الى استعمال هذه التسمية بطريقة تستبدل الطب العصري والعلمي بمجموعة من الممارسات غير الحديثة واللاعلمية. ويقول سُكّرية إنه قد تكون هناك مساحة في أشكال الطب خارج الطب العلمي لبعض أنواع المرض التي يغلب عليها الطابع الوظيفي وليس العضوي. فقد يقع علاج بعض آلام الظهر والعضلات في الإطار الوظيفي، أنما لا ينطبق الأمر على مرض مثل التصلب اللويحي مثلاً. ويرى سكرية أن تسمية الطب البديل حُمّلت أكثر من حقيقتها، وتحول الى تجارة رائجة.
وإجمالاً، يمكن تعريف الطب البديل بأنه مجموعة مهن صحية مبنية على علم طبي قائم بذاته لكل منها، وتعتمد على التشخيص الدقيق من خلال الفحص الشامل (مع مراعاة الحال النفسية والعقلية إضافة الى الوضع الجسدي) كمقدمة أساسية للعلاج.
وأوضح سكرية أن مروجي عقاقير الأعشاب وما يشبهها في لبنان، يستندون الى المرسوم الرقم 11710 الذي أصدره وزير الصحة اللبناني السابق سليمان فرنجية عام 1998، الذي اعتبر مستحضرات الأعشاب مُتمّمات غذائية، ما حرّرها من سلطة قانون مزاولة مهن الصيدلة الذي ينظم سوق الدواء. ووضع المرسوم تلك الخلطات في عهدة وزارة الاقتصاد، إذ بات بإمكان أي مواطن استيراد مستحضرات الأعشاب والمُتمّمات الغذائية، ما ساهم في انتشارها بقوة.
وفي سياق مماثل، جاء حديث وزير الصحة اللبناني المستقيل الدكتور محمد خليفة في «بيت الطبيب» أخيراً. إذ بيّن خليفة أن المُتمّمات الغذائية (مثل الفيتامينات) موجودة في نصوص وزارة الصحة من خلال مرسوم منذ عشرات السنوات، علماً أن المرسوم عادة لا يمكن للوزير أن يلغي مفاعيله لأنه تفسير للقانون، إنما باستطاعته إلغاء قرار. ولفت الى أنه عندما تسلم وزارة الصحة ارتأى وضع تعديل أو إلغاء للمرسوم 11710، ضمن الصلاحيات المعطاة له، عبر وضع قرارات توقف المفاعيل السلبية لذلك المرسوم. وأوضح أن موضوع طب الأعشاب مشكلة عالمية يجب السعي إلى تنظيمها لأنها موجودة منذ القدم. وأشار إلى أن سعر بعض هذه المنتجات مرتفع جداً، إذ بلغت كلفة علاج عُشبي مزعوم للسرطان 35 ألف دولار وفق شكوى وردت إلى الوزارة.
لكن ما لم يقله الوزير خليفة، هو وجود ملفات في نقابة الأطباء منذ التسعينات تشير الى أكثر من حال وفاة لمواطنين استخدموا مستحضرات رائجة، تبين بعد حالة الوفاة الثانية التي حصلت في شكل فجائي بعد تعطل الكلي، أن الدواء العشبي الذي تجرعه يحتوي على محلول يستعمل في السيارات لمقاومة تجمد المياه فيها! وكذلك تبين أن الوفاة الأولى التي لم تعرف أسبابها ناتجة من المستحضر نفسه.
- تبدو مسألة الطب البديل مسألة أكثر تعقيداً بالنسبة الى رئيس اللجنة الإعلامية في مجلس نقابة أطباء لبنان الدكتور نبيل خراط، الذي يتولى متابعة ملف «طب الأعشاب» في النقابة.
وأوضح خراط أن هناك أعشاباً مدروسة علمياً واستعمالها مبرر، ومُعدّة بجرعات دقيقة، مثل دواء سعال ألماني معروف، وبعضها حائز ترخيصاً من «المكتب الاميركي للغذاء والدواء» FDA. أما في لبنان فإن أدوية الأعشاب تفتقد في معظمها الى العلم، وتستند الى الترويج الدعائي والإعلاني، وتُسَوّق من دون معايير.
ويلفت خراط الى أن الدواء يجب أن يكون بمقاييس محددة. فإذا لم تكن الجرعة مدروسة، فإنها قد تضر وقد تؤثر في أمراض موروثة. ونبّه الى ضرورة التأكّد من أضرار مستحضرات الاعشاب، قبل السماح بتداولها. وتساءل عن الدراسات والإختبارات للدواء العشبي، إذ أن أي دواء يجب أن يمر بمراحل من التجارب، من بينها الاختبارات على الحيوان.
وكذلك رأى أن الخطورة الأكبر تكمن في التسويق والترويج السائدين للعلاج بالأعشاب، كمدخل الى ترويج لأشخاص من خارج المهن الطبية. ولا يتورع بعضهم عن وصف أدوية على شاشات التلفزة مباشرة، من دون كشف ولا تشخيص!
وفي سياق مماثل، يبيّن سكرية أن هناك قدرة دعائية وتسويقية كبيرة، وخدعة كبيرة. فهناك بعض الأعشاب الطبيعية كالبابونج والزهورات تعتبر مواد مسالمة تفيد على المستوى النفسي لجلسات اجتماعية، لكنها تُسَوّق اليوم للبيع بمستحضرات شديدة التركيز. ويؤدي الأمر الى آثار سلبية على بعض أعضاء الجسم، وخصوصاً الكبد والكلى. كما أنها قد تسبّب تفاعلات سلبية مع أدوية الضغط والسكري والشرايين.
ولفت سكرية أيضاً إلى تقاعس نقابتي الأطباء والصيادلة عن القيام بواجبهما كاملاً، لأن تحركهما يأتي موسمياً في الغالب.
ويشير خراط إلى أن جميع الذين يصفون دواء الأعشاب على الشاشات وغيرها هم «منتحلو صفة»، لأن ممارسة الطبابة بهذه الطريقة فيها نوع من الشعوذة، الأمر الذي لا يجرؤ عليه الطبيب المتخصص. ويوضح أن الطبيب الذي يعالج مريضاً يقف أمام ضوابط علمية ويتبع منهجاً علمياً، فيفحص المريض ويشخص المرض بمهنية متخصصة. وكذلك فإن الطبيب الذي يخطئ بحق المريض قد يواجه بدعوى في النقابة قد تصل الى القضاء.
هذه المحاسبة أو المساءلة لا يخضع لها «منتحلو الصفة» الذين يوزعون وصفاتهم على الشاشات، فلا أحد يحاسبهم. ويشير الى أن مرضى السكري الذين يتناولون «خلطات» مُضلّلة قد يؤذون صحتهم، خصوصاً إذا تداخلت مع الأدوية الطبية المستخدمة في علاجهم. ويلفت خراط أيضاً الى خطة عمل أعدتها نقابة الأطباء لمواجهة أخطار «طب الأعشاب» بالطريقة التي تمارس بها لبنانياً.
ويؤكد أن المسألة صعبة وشائكة، لأنها تتصل بمصالح مالية ونفوذ وتأثير ينأى عن أي محاسبة، ما يستدعي كشف الأغطية السلطوية التي تقف وراء هذه الإرتكابات وتحميها، والضغط على وزارة الصحة لمتابعة هذا الموضوع. وأوضح أن النقابة تتعاون مع نقابة الصيادلة ونقابات المهن الحرة، لإطلاق خطوات تبدأ بالمحور القانوني لتعديل بعض القوانين، ثم المحور المالي الأصعب، الذي يبدأ بدراسة حجم الإنفاق الذي يتسبب به الإعلام للناس والاقتصاد، إضافة الى المحور العلمي لكشف الأضرار الصحية التي تلحق بالإنسان جراء استعمال الوصفات الإعلامية. وأخيراً المحور التثقيفي الإعلامي.
لكن انتشار طب الأعشاب بالطريقة السائدة، يعود في جزء منه بحسب سكرية الى وجود موروث شعبي يرتاح أكثر للعلاج الأقرب الى الطبيعة. ولاحظ أيضاً وجود رد فعل على اداء الطب الحديث الذي تحول الى نمط استهلاكي (طب، استشفاء، دواء، أجهزة طبية، وفاتورة). وأوضح ايضاً أن الفساد السائد في ملف الدواء في لبنان يعمل لمصلحة النوع غير العلمي من التداوي. ومن أمثلة هذا الفساد اكتشاف ابرة مياه تعطى للمرضى في بعض المستشفيات غير صالحة، وتسويق أدوية مركبة من مياه أو خلطة لا تتضمن أي مركب دوائي أو ممددة الصلاحية، وتعد أكثر من 52 صنفاً بين مضاد حيوي وأدوية للسرطان، ويبلغ سعر الإبرة نحو 200 دولار، بينما السعر للمنتج الاصلي 3 آلاف دولار. وبيّن أن هناك 10 مستشفيات متورطة تجمع الابر وتعبئها على مدى عشر سنوات.
أما خراط فيعتبر أن انتشار طب الأعشاب ليس بسبب فقدان الثقة بين الطبيب والمريض. فقد تطور الطب الحديث العلمي في شكل هائل، ولكن نقطة ضعفه أن كلفة الإفادة منه مرتفعة جداً. ولذا، لا تتمكن أربع أخماس البشرية من الوصول اليه. وأشار إلى أن هذا الطب يحتاج الى مقومات وشروط لكي تستفيد المجتمعات المحلية منه. وأدت هذه الأمور الى عجز الطب العلمي عن الوصول الى أوسع الأوساط، ما جعل الناس يذهبون الى المضللين وأنواع الطب المختلفة، لكنهم يكتشفون أن الكلفة مرتفعة أيضاً. وقد حقّق الطب الحديث انجازات كبيرة، ولكن الاستفادة منه تتعلق بمحصلة قدرات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً.
إبراهيم حيدر
المصدر: الحياة
إقرأ أيضاً:
إضافة تعليق جديد