إجناثيو دي ليانيو: الديانات السياسية تهديد رئيسي للحضارة والديمقراطية
أحمد عبد اللطيف: يعتبر إجناثيو جوميث دي ليانيو أحد أكبر فلاسفة إسبانيا في الوقت الراهن، وبالإضافة هو كاتب وفنان وأستاذ جامعي في إسبانيا والصين واليابان. لاقت بعض كتبه في الفلسفة والتاريخ والرواية واليوميات والمسرح والشعر نجاحًا ملفتًا، وطبعت عدة مرات وترجمت إلى العديد من اللغات. هو الآن أحد الرموز الثقافية الإسبانية، وأحد مرجعياتها، وأسمائها المؤثرة.
صدر لدي ليانيو ما يربو على 30 كتابًا أغلبها في الفكر والفن، من أبرزها “في شبكة الزمن”، “عربة الليل”، “تغيرات العالم”، “استعادة الديمقراطية”، “كتيب الفلسفة العملية”، “طريق دالي”، “دائرة الحكمة”. وصدر له مؤخرًا ما يُعد أهم كتبه “الديمقراطية، الإسلام، القومية”.
يحلل دي ليانيو، بوضوح ودقة معًا، الديانات السياسية التي تكونت في القرن العشرين ووصلت إلى القرن الحالي: الشيوعية، الفاشية، والقومية الاشتراكية، ومنذ سنوات قريبة الشعبوية، والإسلاموية. وينحاز دي ليانيو إلى أن هذه الحركات تعتبر تهديدًا رئيسيًا للحضارة والديمقراطية، وهي التحدي الرئيسي الذي نواجهه في زمننا، سواء في الغرب أو بشكل أكثر دراماتيكية في العالم الإسلامي. ويرى دي ليانيو أن فهم هذه الحركات هو أفضل طريقة للصواب من أجل ساعة النضال ضدها.
بطريقة أساسية، يعتبر “ديمقراطية، إسلام، قومية” بحثًا تاريخيًا فلسفيًا سياسيًا يتناول بشكل كامل ودقيق ومبدع وواعٍ العلاقات بين كل الديانات السياسية.
لكن، ما الذي جذب دي ليانيو إلى العالم العربي، والاقتراب إليه من منطقة الفلسفة وليس من حقل الاستعراب؟
يقول الفيلسوف الإسباني: “في البداية كان اهتمامي بثقافة وأدب وشعر العالم العربي، ومن خلال إميليو جارثيا جوميث ومستعربين آخرين تعرفت على هذا العالم، وقد أحسنوا إلينا بفعلهم هذا”. ويضيف: “وتعرفت على إميليو شخصيًا في سنواته الأخيرة، وكان له أثر بالغ عليّ، ومن خلاله عرفت أن الكوميديا الإلهية كانت متأثرة بالثقافة العربية وخاصة رسالة الغفران ورحلة الإسراء والمعراج”. أطروحة إميليو جارثيا جوميث كانت فتحًا في دراسات الاستعراب، وكانت رد اعتبار للثقافة العربية في وقت كانت فيه إسبانيا تحاول التجرد من أصولها العربية بتجاهل إعلامي واضح، وجذبت باحثين من حقول معرفية أخرى مثلما فعلت مع دي ليانيو، وهم باحثون وأكاديميون تناولوا الإسلام من وجهات نظر فلسفية أخرى أضافت إلى الاستعراب، وساهمت في فتح العلوم المعرفية على بعضها. هكذا في كتابه “ديمقراطية، إسلام، قومية”، لا يتناول الإسلام كدين، ولا حتى كثقافة، بل من وجهة نظر تاريخية وسياسية، وداخل إطار عالمي، بالمقارنة مع حركات أساسية أخرى.
يقول دي ليانيو: “أنا أطرح سؤال كيف يمكن إعادة تأسيس الديمقراطية، وما هي الوسائل الواجب اتباعها لتكون ديمقراطية حقيقية، على المستوى الأخلاقي والسياسي، مع وجود حرية التعبير داخل إطار القانون ودون إيذاء أحد. وهي أشياء أساسية”. وتأسيس الديمقراطية في رأيه ليس ملازمًا للتطور التكنولوجي، وليس شرطًا له، ويضرب على ذلك عدة أمثلة: “ألمانيا كانت متقدمة على المستوى العلمي والتكنولوجي لكنها وقعت في النازية، والاتحاد السوفييتي عانى ما عاناه”.
اختار دي ليانيو أن تكون أطروحة بحثه ومنطلق كتابه “الديانات السياسية”، فماذا يعني بذلك؟
يقول: “سميت بالديانات السياسية تلك الأيديولوجيات التي تفترض أنها تقدم خلاصًا للعالم، ومنها النازية والفاشية والقومية، من هنا جاء تناول الإسلام سياسيًا، ليس من جهة كونه دينًا سماويًا، إنما لكونه يقدم مقترحًا دنيويًا سياسيًا. إنها أيديولوجيات يتمتع قادتها بأنهم رؤيويون، كما في الماركسية، وهي مجموعات تسعى لسعادة العالم وبالتالي لها أعداؤها الأيديولوجيون”.
بهذا المعنى، يعتبر دي ليانيو الإسلام (وليس الإسلاموية) أيديولوجيا تتشابه مع الماركسية في محاولة تقديم نص متماسك لإسعاد العالم، بغض النظر عن حقيقية هذا التصور من عدمه، من هنا فهو يطرح الإسلاموية كأيديولوجيا قابلة للمناقشة. يقول دي ليانيو: “وبالتالي كان يجب أن أرجع إلى تاريخ النبيّ محمد وتأسيس الدعوة في مكة والمدينة، وهنا لاحظت أنه في المرحلة المكية كان الإسلام دينًا صافيًا يقترب من المسيحية، كان دينًا بلا حروب ولا أهداف سياسية، دينًا روحيًا بالمعنى الكلي للكلمة. لكن في المدينة حدثت التغيرات الكبرى، وغدا محمد قائدًا ومحاربًا ودعويًا، ودخل البعد السياسي في الدعوة. هنا اقترب محمد بالإسلام من أفكار الديانات السياسية”. يوضّح دي ليانيو: “رسالة محمد في المرحلة الثانية كانت مشروطة بالسياق التاريخي، سياق فرض تأسيس دولة والتوسع فيها والدخول في حروب للدفاع عنها”. وهذا التغير الذي لحق بالإسلام خلال فترة النبي محمد يقرأه دي ليانيو باعتبار أن “الإسلام متغير ويكيّف نفسه مع السياق”.
من سيرة النبي محمد، وليس من تيارات الإسلام السياسي الحديثة، يستقي الفيلسوف الإسباني أفكاره المتمركزة حول مفهوم الديانات السياسية، ولا يدخل فيها من الأديان السماوية إلا الإسلام، إذ يرى أن المسيحية واليهودية لا تطمح بالأساس إلى تقديم منظوم سياسي للدولة. يقول دي ليانيو: “أعتقد أن محمد اضطر في المدينة إلى تأسيس دولة دينية سياسية، لكنه في البداية كان يهدف إلى حماية نفسه وأتباعه، ما حدث أن الظرف تغير، وبالتالي حدثت صياغة جديدة للإسلام على ضوء هذه المتغيرات”.
الفصل بين الدين والدولة ضروري
يقترب الفيلسوف والمؤرخ من هذه الحقبة ويتأمل في كتاب العرب الأول: “في المرحلة الثانية ظهر القرآن باعتباره نصًا تشريعيًا، أكثر منه القرآن الروحي المكي، ومن هنا كان خطورة تحويل الدين إلى دولة”. ويضيف: “يجب احترام كل الأديان بالتأكيد، لكن الخطورة أن يتحول الدين إلى أساس للدولة. الفصل بين الدين والدولة ضروري، وهذا ما حدث في المسيحية، وإن كان في بعض نسخها ثمة مزج”.
الكتاب لا يتوقف عند تناول الإسلام كدين سياسي، إنما يبتعد ليشمل الشيوعية الماركسية وفاشية موسوليني وقومية هتلر، ورغم أن الجزء الأكبر مخصص لسيرة النبي محمد بما فيها من وحي ومعراج وصورته كقائد ثم العودة إلى مكة ثم موته وأصل الخلافة، إلا أنه تناول أيضًا الإسلام والحداثة، وانتقل إلى الطهرانية والبروتستانتية، وتطرق إلى موضوعات مسيحية مثل طبيعة يسوع المزدوجة. وانتقل إلى دراسة العالم الحديث، عالم القرن العشرين، حيث الأيديولوجيات الاستبدادية والقومية والشمولية ثم القوميات الانفصالية، ليصل في النهاية إلى ملخص تصوره بشأن “كيفية إعادة تشييد الديمقراطية”.
من بين كل هذه الأيديولوجيات، يرى دي ليانيو أن الإسلاموية الحديثة تتقاطع مع الأناركية، أناركية نهايات القرن التاسع عشر بالتحديد. ما وجه الشبه؟ يقول الفيلسوف: “فرض الأيديولوجيا بالقوة وباستخدام السلاح”، هو هنا يشير بالتحديد إلى الجماعات الإرهابية، حيث الرغبة في إثارة الفوضى أكثر من تأسيس منهج يروم التغيير.
يتطرق دي ليانيو إلى مسألة الهجرة، وهي مسألة تشغل أوروبا في الوقت الراهن، وإسبانيا بالتحديد منذ أزمة 2008، ويُقصد بها عادة هجرات أفريقيا وخاصة شمالها. يتفق الفيلسوف الإسباني مع ما طرحته من قبل الفيلسوفة الإسبانية أديلا كورتينا حين صكت مصطلح “أبوروفوبيا”، والمقصود به الفوبيا من الفقر. يقول: “أتفق جزئيًا في أن ثمة مشكلة تكمن في المهاجرين الفقراء، لكني أرى أبعادًا أخرى لهذه الفوبيا”.
“ديمقراطية، إسلام، قومية” ربما هو الكتاب الذي تحتاج إليه أوروبا الآن، بقدر ما نحتاج إليه نحن لنفهم ليس تاريخنا فحسب، بل التاريخ السياسي في القرن العشرين.
إضافة تعليق جديد