أوليفييـه رولان المـوت فـي باكـو

19-02-2010

أوليفييـه رولان المـوت فـي باكـو

في العام 2004، أصدر الكاتب والروائي الفرنسي أوليفييــه رولان كتــابا بعنوان «جناح في فندق كريســتال» كانت فكرته غريبة بعض الشيء، إذ عــدا عن اللحمة البوليسية الخفيفة التي تشد بين أركانــه، كانت بداية كل فصل تبدأ بوصف لغرفة في فندق مختلف يقع في مدينة مختلفة في العــالم. كان الأمر بمثابة توصيف للغرف التي أقام فيــها الكاتــب خلال تجوالاته الدائمة في غير بقعة من بقــع العالم. ومن هذا التوصيف تولد كتاب وجــد صداه، لدرجة أن الكاتب عاد وأصــدر جزءا ثانيا، بعنوان غرف، لكنه لم يكتبه وحده هذه المرة، إذ طلب من زملاء ـ كتاب، أن يكــتب كل واحد منهم قصة، تبــدأ بتوصـيف لغــرفة في فندق يختاره. أوليفييـه رولان
بيد أن اللافت في ذلك كله، لم يكن الأسلوب فقط، إذ خطر لرولان أن يكتب على غلاف الكتاب العبارة التالية، وهي عبارة تعريفية بالمؤلف. كتب التالي: «أوليفييه رولان، بواوني – بيلانكور 1947 ـ باكو 2009» أي أنه حدد تاريخ ميلاده، كما حدد تاريخ موته (المتخيل). لكن لماذا باكو في أذربيجان؟ فلأن جزءا من رواية «جناح...» دارت في تلك المدينة. اليوم وبعد خمس سنوات، خطرت للروائي فكرة ثانــية، أن يهب إلى باكو لقضاء عدة أشــهر بانتــظار أن يمــوت المؤلف، أي بانتظار أن يموت مثلما كتــب على غــلاف الكتاب الماضي. من هذه اللعبة، يولد كتاب رولان الجديد «باكو، الأيام الأخيرة» الصادر حديثا عن منشورات «لوسوي» وفيه يروي بأسلوب يجمع بين أدب الرحلة والسيرة الشخصية والتخييل الذاتي هذه الأيام التي قضاها في باكو والتي انتظر فيها المــوت الذي جاء (عبر الكتابة فقط) بأن أطلق النار على نفسه من مسدس ماكاروف عيار 9 ملم.
رواية تنحو قليلا إلى الفانتازيا، لكنها فانتازيا سوداء إلى حد كبير، فيها كل هذا الأسلوب الذي ميّز الكاتب منذ كتبه الأولى. حول هذه الرواية أجرت «المجلة الأدبية» («الماغازين ليتيرير») الفرنسية حوارا مع الكاتب، هنا ترجمة له.
مع العلم بأن الصورة (الكاتب في باكو) التي ترافق هذه المقالة خاصة بـ«السفير»، وحقوق نشرها تعود إلى الكاتب وحده، وهو الذي أرسلها للنشر مع هذه الترجمة.
÷ هل يمكننا أن نقرأ كتابك الأخير «باكو، الأيام الأخيرة» على أنه رحلة ثلاثية (الأبعاد): في باكو وضواحيها أولا، ومن ثم في الأدب المرتبط بها، كما في أدبك أنت أخيرا؟
} بالطبع، إنه كل ذلك في الوقت عينه. لكن ليس فقط في «الأدب المرتبط به»، بل أيضا هناك الأدب المرتبط بالموت (كتاب «الموت» لشنتزلر، و«الموت الثاني» لرامون ميركاديه، وفصل من «المحاولات» لمونتاني، الخ...) أما في ما يخص كتبي أنا، فقد ترددت كثيرا قبل أن أذكرها، احتراما للباقة (إن كان باستطاعتنا قول ذلك)، ولكن أيضا عدم ذكرها، لما جعل الأمر حقيقيا. حتى وإن كان كتاب «باكو، الأيام الأخيرة» ليس وصية (بالتأكيد)، إلا أن اللعبة تطلبت مني أن أضع نفسي – قدر الإمكان – في مواقف روحية لشخص يمكن له أن يموت في أيّ لحظة، وضمن هذه الوضعية كان من المحتم عليّ أن أعود إلى ماضيّ – أي أن الكتب تحتل جزءا حقيقيا من ماضي الكاتب... من هنا، ما قلته في الفصل المعنون بـ «عجلة حديدية» هو أمر صحيح: أن نموت حقا، معناه أن نلحظ أن كل ما قمنا به، ليس سوى «صناعة زجاجية». إنها تساؤلات تواكبنا الوقت بأسره تقريبا، لكن بشكل أقوى في كل مرة نقترب من النهاية، حتى وإن كانت هذه النهايات مجرد لعبة.
÷ يكتسي كتابك شكل الوصية على الرغم من أنه لا يهمل فكرة السخرية من نفسه. ما هي «حصة» المزاح في عملك، بشكل عام، وبخاصة أن عملك غالبا ما يقرأ بمثابة نوع من الأدب «الرومنسي»؟
} قصة هذه «الرومنسية» تزعجني قليلا... إذ ماذا تعني هذه الكلمة اليوم؟ بالتأكيد، ليست سوى تلك العلاقة البعيدة مع الحركة الكبيرة للتحرير الأدبي والصوري والموسيقي الخ.. الذي حمل هذا الاسم. بشكل عام، إن كلمة «الرومنسية»، في الاستعمال المعاصر، تعني العواطف، ما يثير الجنون. لكن أيضا، أتحمل نتيجة خطئي أيضا. ربما كانت كتبي الأولى رومنسية بشكل ما، وبخاصة أشهرها «بور سودان».. لكن بصراحة، منذ كتاب «نمر من ورق» الذي روى قصة شبان يمكن أن يقال عنهم إنهم «رومنسيون» (والرومنسية هنا هي رومنسية سياسية) إلا أنني رويت ذلك بطريقة استهزائية، بل بطريقة ساخرة بعض الأحيان (حتى أن بعض محنطي الماضي أخذوا عليّ هذا المأخذ). كتاب «صياد الأسود» يروي عن مستكشف بهلوان، عن بهلول يتاجر بالأسلحة. أما في «جناح في فندق كريستال» فهو لعبة من البداية وحتى النهاية. وحتى قبل رواية «بور سودان» يمكن أن نقول إن «اختراع العالم» بأنه كتاب فاحش، تافه، باروكي، يمكن أن يقال عنه أي شيء لكن ليس «رومنسيا» أبدا. إذاً، لنعتبر أن المزاج والسخرية يجدان موقعا مطردا لهما في عملي وذلك لأنني أشيخ.. وهنا أيضا ألاحظ أن جوابك قد قادني، مرة أخرى، إلى العودة للحديث عن كتبي.. أضف إلى ذلك، أنه من البديهي أن نجد أن موقفا واهنا، أو تناقضا ما، هو من الصعوبة بمكان أن ندافع عن كوننا نملك روح الدعابة..
÷ أي دور تلعب الصور التي نجدها في نصك؟ هل هي طريقة ما لتضع، في لعبة مرايا، الواقع مثلما نراه والواقع مثلما نكتبه؟
} في الحقيقة إن فكرة وضع صور داخل النص ليست فكرتي، بل فكرة الناشر. وكما قلت في الكتاب، لم أملك يوما آلة تصوير (إلا في طفولتي)، فالصورة أمر غير مألوف عندي. في أي حال، أهديت مرة آلة تصوير رقمية، وكنت ألتقط الصور كي أكمل الملاحظات التي سجلتها على دفاتري، لكن بحذر شديد، إذ كنت أخشى أن تأتي هذه العملية السهلة جدا (التقاط الصور) لتبعدني عن جهدي في البحث عن الكلمات التي أقول بها الأشياء. لكن حين اقترح عليّ برنار كومان (الذي يدير السلسلة عن منشورات «لوسوي») أن أدخل بعض الصور، لم أنفر من الفكرة – بدون شك لأني ما زلت أذكر كتابي سيبالد، «أوسترليتز»، «حلقات زحل»، كما كتاب أورهان باموق «اسطنبول». أما أي دور تلعبه هذه الصور فبصراحة لا أعرف. في أي حال، إن صوري سيئة جدا... ما أريد قوله، انها ليست سوى تتمة للملاحظات التي دونتها (بالإضافة إلى أنها طريقة لتسلية الأصدقاء التي كنت أرسل إليهم إيميلات). أحيانا، تتراءى لي أنها تضيء النص قليلا. فحين أتحدث عن «الجمل الصغير»، على سبيل المثال، أعتقد أن القراء يفهمون رأسا ما أريد قوله حين ينظرون إلى الصورة. أحب كثيرا لعبة المرايا (على العكس من بورخيس)، أحب لعبة الخداع، كل الألعاب الباروكية – لكن في حالات معينة – إذ انها تسمح للعبة التركيب بأن لا تكون سيئة إلى هذا الحد.
÷ بالطريقة عينها نجد أن كتاب «باكو، الأيام الأخيرة» يشكل امتدادا لكتابي «غرف» و«جناح في فندق كريستال». من التخييل، نمر إلى سرد الرحلات وإلى حقائق الوقائع.. نشعر أحيانا بأنك تلعب لعبة الثنائيات لتموضع توترا ما، تيارا يعطي دينامية لمشروعك. هل توافق على هذه الفكرة؟
} أجل، كما قلت لك، أحب لعبة الانعكاسات، ألعاب الواقع وتمثلاتها، حتى الوهم. من أكثر كتبي المفضلة هناك «غرفة الهاوي» لجورج بيريك، وبخاصة الجملة النهائية (التي تتحدث عن اللوحات المزورة، كما عن التزييف في تفاصيل قصته). لكن ما يهمني في هذه الحالة، ما يسبب لي متعة، هو هذه المغامرة غير المتوقعة التي أفضت إلى كتابين، أي من «جناح في فندق كريستال» ولد كتاب «غرف»، الذي كنت أرغب في تسميته «جناح في فندق كريستال، تتمة» إلا أن الناشر رجاني أن أتخلى عنه، كما أفضى إلى كتابي عن باكو. هو شكل من أشكال التخييل أفضى إلى متخيلين آخرين، واحد قريب (غرف) والثاني مختلف بشكل كبير وليس فيه أي شيء من التخييل. لقد تأثر التخييل بالواقع. عادة، نجد العكس، أي من الواقع إلى التخييل.
÷ من أين يتأتى ميلك إلى هذه الهندسة ذات المقاطع التي تخيم على غالبية كتبك؟
} أعتقد انه من المبالغ فيه القول «غالبية نصوصي». في كتب أخرى، في رواياتي، وبطريقة كلاسيكية، نجد الفصول. في أي حال، ما أحبه في هذه الهندسة ذات المقاطع، هو هذه الحرية في التأليف التي تســمح لي بــها هذه الطــريقة. إذ تتيح لنا أن لا نضيع الوقــت في بنــاء تكملة ما، وتسلسل مصطــنع، ثقــيل في بعض الأحيان.
÷ «نجد أن «باكو، الأيام الأخيرة» هو، كما العديد من كتبك، منسوج من حكايات في الحكاية، من قصص تتابع كالمياه.. قليلا على طريقة شهرزدا؟
} أجل. شهرزاد وألف ليلة وليلة شكلا لي المثال حين كتبت «اختراع العالم». الأمر في هذا الكتاب، أقل ادعاء، والمياه أقل ارتفاعا، أقل قوة. بيد أني أحب هذه الفانتــازيا، هذه الحرية في السرد التي تستدعي سرديات أخرى. إنه جانبي الباروكي...
÷ إلى أي حد يشكل السفر وتغيير الأجواء والدخول إلى عالم جديد محركا للكتابة عندك؟
} لم أقل يوما عن نفسي إني «كاتب رحالة» (وأظن ان لا أحد يضــع نفــسه في هذه الخانة)، إلا أن السفر، والحشرية التي تثيــرها في العــوالم المختــلفة، اللغــات المختلــفة، شحذ العين والأذن، الصوت الذي ينبــثق من ذلك، كل ذلك يشكل دورا في الواقــع. إنها محرك، لكنها ليست الوحيدة.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...