أسامة غنم: رائحة عفونة تفوح من هذا البيت!
يتجوّل أسامة غنم (1975) منذ سنوات في الشوارع الخلفيّة للمسرح العالمي، بحثاً عمّا يشبهنا ويخاطب حواسنا ويسمو بذائقتنا التي خرّبتها الفرجة السطحية والعروض العابرة، إلى أن يقع على ضالته بعد عناء ومشقّة: نصّ إشكالي بدمغة لا تُمحى. لكنه، في المقابل، سيُخضع هذا النص في مختبره المسرحي، إلى معالجات مضنية في ورشة عمل تستمر أشهراً من النقاشات والحذف والإضافة والمقاربات البيئية التي تمنح العمل نكهة محليّة خالصة.
لا يجد هذا المسرحي السوري الرصين عبئاً في الاتكاء على نصوص الآخرين وإعادة توليفها على نحوٍ آخر. ذلك أنه يصل بها إلى ما يشبه الكتابة الطازجة، حين يقنعنا بأن ما حدث في لوس انجلوس الثمانينيات يمكن أن يحدث في دمشق الألفية الثالثة بمخيّلة متقدة، وخرائط محليّة تستحضر تضاريس المكان ورائحته الأولى. في عرضه الجديد «دراما» الذي تستضيفه «صالة القباني» في دمشق هذه الأيام، يقتبس سام شيبرد في أحد أكثر نصوصه عنفاً. نقصد «غرب حقيقي» الذي كتبه مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وقام مخرجنا بترجمته إلى لغة الضاد. وإذا بنا حيال عائلة مشابهة لتلك التي قام الكاتب الأميركي بنشر غسيلها المتسخ على الملأ.
لكن أسامة غنم لم يختر هذا النص عبثاً، وفي هذا التوقيت تحديداً. بدا أنه استكمال لعرضيه السابقين «العودة إلى البيت» (2013) عن نصّ هارولد بنتر، و«زجاج» (2015) المقتبس عن «مجموعة الحيوانات الزجاجية» لتينيسي وليامز. وبذلك، يغلق القوس على هذه الثلاثية التي سعى خلالها إلى معالجة فكرة العائلة وتمزقاتها واحتضارها تحت وطأة تحولّات القيم الطارئة. نكتشف بأن «الطريق إلى البيت أجمل من البيت»، فما أن نتجاوز العتبة إلى الداخل حتى تفوح الرائحة العفنة للعلاقات العائلية، وطبقات القسوة المستترة بعباءة الحب. كان سام شيبرد قد لفت إلى انحسار صورة المثقف عن الواجهة لمصلحة ثقافة رعاعية أفرزها شارع استهلاكي والقيم السائلة لما بعد الحداثة التي تعمل على زحزحة الأنساق الراسخة واستبدالها بهوامش رخوة.
في النسخة السورية، نتعرّف إلى كاتب سيناريو تلفزيوني (آدم/ جان دحدوح) مقيم في بيروت، أتى إلى دمشق ليعيش عزلة الكتابة في بيت العائلة المهجور، بعدما سافرت الأم إلى مصر، وغادر الأب الذي كان يدير مكتبة إلى قريته مفلساً ومخموراً على الدوام (هل هو إفلاس اليسار؟). يقتحم وحدته شقيقه (مهيار/ إيهاب شعبان) الذي كان يقيم في البادية في إحدى مغامراته المجنونة، محاولاً تعويض فشله في الدراسة بارتكاب حماقات لا تحصى. وقد عاد إلى المدينة بوصفه لصّاً متخصصاً في سرقة شاشات البلازما التلفزيونية. لن نجد تقاطعات روحية بين الشقيقين. على العكس تماماً، هناك ما يشبه الاحتقار المتبادل بينهما لاختلاف نظرتهما إلى الحياة، في ظل أوضاع مضطربة. فكاتب السيناريو المنهمك بتفصيل قصة حب تلفزيونية بمشيئة جهة إنتاج خليجية، ينظر إلى شقيقه كحالة إعاقة يصعب علاجها، نظراً لانخراطه بممارسات تنتمي إلى القاع، ولا ترتقي إلى القيم الطبقية التي سعت الأم إلى تأصيلها في العائلة، فيما ينظر الآخر إليه كشخص نيء، يقوم باختراع قصص وهمية لا تعبّر عن حقيقة الشارع الذي خبره عن كثب، إلى أن تحضر مندوبة شركة الإنتاج (ديانا/ مي السليم) لتسلّم ملخص العمل بقصد تسويقه. إلا أن مهيار الذي يأتي فجأة، بعد حصوله على غنيمة من أحد البيوت، يقوم بإفساد الصفقة، حين يقنع المندوبة بقصة بدوية معاصرة تثير إعجابها وتفتتن بمحتواها، فتتخلى عن فكرة كاتب السيناريو الذي لا يصدّق ما سمعه من ترهّات. وحين يصبح الأمر جديّاً ينهار تدريجاً، وهو يرى حلمه في بيع السيناريو يتبخّر أمام عينيه. هذه اللامعقولية هي أحد إفرازات اللحظة الراهنة التي عمل العرض على تفكيكها وتشريحها وإدانتها في حركات متوترة تتصاعد إلى الذروة بتبادل الأدوار بين الشقيقين بوصفهما ضحيتين نموذجيتين لعائلة مفككة كانت تغطي بثور الجسد المريض بقيم مزيّفة. وتالياً، فإن هذه الدراما المبتذلة هي البضاعة الوحيدة المتبقية للبيع، فيما سيجد المتفرّج نفسه حيال دراما أخرى تنطوي على جرعة عالية من القسوة والخشونة اللفظية والعراك الايديولوجي والجسدي. يتحوّل البيت في نهاية المطاف إلى حطام، فيما تقف الأم التي تعود من رحلتها فجأة على الحياد، وهي تتفرّج على وحشين يتعاركان إلى حدود الموت، في إعادة تدوير معاصرة لصراع قابيل وهابيل.
تغادر الأم البيت لتقيم في فندق، فيما يسعى آدم لإقناع شقيقه بالعودة معه إلى الصحراء، لاكتشاف ذاته في مرآة أخرى، بعيداً عن هذا الجحيم، فلم يعد هناك ما هو قابل للإصلاح. ثلاث ساعات فوق خشبة متوترة، وثلاث شخصيات قلقة في مطبخ، في رهان - يتأرجح بين سرديات مشبعة مشهدياً، وأخرى أقل ألقاً- على رفع الغطاء عن وعاء القسوة المستترة. مهلاً، ها نحن نشمّ رائحة عفونة في البيت لطالما حاولت الأم، وكذلك الأب الغائب، تغطيتها بتوابل مزيّفة، من دون جدوى. لكننا في المقابل سنتذكّر طويلاً الحضور المبهر لإيهاب شعبان على نحوٍ خاص.
الأخبار
إضافة تعليق جديد