«كشف حساب» الغارة على اللاذقية مع «الفوائد»
انشغل العالم بمتابعة ذيول حدث الغارة الإسرائيلية على منطقة اللاذقية ليل 17 أيلول 2018، وبتفسير حقيقة أهدافها وتوقيتها، خصوصاً أن الغارة الإسرائيلية جاءت بعد ساعات قليلة من انتهاء قمة جمعت بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب أردوغان في سوتشي، والإعلان عن اتفاق روسي- تركي «مبدئي» أفضى إلى تأجيل القيام بالعملية العسكرية السورية لتحرير مدينة إدلب من الفصائل الإرهابية لقاء تعهد تركي ملزم ـ وممهور بتوقيع وزيري الدفاع سيرغي شويغو وأكار خلوصي ـ يفضي إلى التزام الجانب التركي بإيجاد حلول ناجعة تؤدي إلى تجنيب إدلب الدمار والخراب وإراقة المزيد من الدماء، وإلى سحب الفصائل الإرهابية من مدينة إدلب وإعادتها إلى كنف الدولة السورية، تماماً على غرار ما حصل في الجنوب السوري.
بغض النظر عن إيجابيات وسلبيات الاتفاق إلا أنه لا بد من ذكر النقاط التالية:
١) إن اتفاق سوتشي لم يكن بالإمكان توقيعه إلا بعد حصول موافقة مبدئية من الدولة السورية على مضمونه.
٢) الاتفاق يعطي دفعاً في تثبيت نظرية الدولة السورية بأن الهدف الأساس للدولة هو بسط سلطتها على كامل التراب السوري، إما عبر المصالحات وإما عبر العمل العسكري.
٣) نجحت سورية في تفويت فرصة القيام بهجوم أميركي ـ فرنسي ـ بريطاني وإسرائيلي، كان معداً سلفاً، تحت حجج الكيميائي الواهية والممجوجة، بهدف منع الجيش العربي السوري من استعادة السيطرة على إدلب.
٤) إعطاء فرصة لنجاح الاتفاق الروسي ـ التركي، هو خطوة سورية بغاية الذكاء والدقة تهدف إلى بسط سلطة الدولة السورية على إدلب بأقل الخسائر البشرية، وهذا هو المبتغى.
إن توقيت الغارة الإسرائيلية على اللاذقية بالتزامن مع إعلان الاتفاق الروسي التركي بموافقة سورية، ليس من قبيل المصادفة بتاتاً:
١) في التوقيت فإن الغارة الإسرائيلية هي رسالة رفض إسرائيلية غربية للاتفاق الروسي- التركي، خصوصاً أن مضمون الاتفاق يحرم إسرائيل والغرب من التحكم بآخر أدواتهم الإرهابية في الشمال السوري.
٢) مما لا شك فيه أن اختيار اللاذقية، هدفاً للغارة الإسرائيلية، يعتبر تجاوزاً فاضحاً لكل الخطوط الحمراء المرسومة بين روسيا وإسرائيل، والتسبب بإحراج روسيا، خصوصاً أن مواقع الغارة لا تبعد سوى كيلومترات معدودة عن أماكن قواعد عسكرية روسية من المفترض أن تكون محمية بالدفاعات الجوية الروسية.
٣) إن مدة الغارة الإسرائيلية ليس كسابقاتها، فالغارة استغرقت أكثر من 55 دقيقة متواصلة، ما يشي بأن الغارة لم يكن الهدف منها مجرد تدمير موقع عسكري، خصوصاً إذا ما أخذنا بالحسبان نوع القنابل الملقاة من الطائرات الإسرائيلية ذات القوة التدميرية الكبيرة التي لم يسبق لإسرائيل استعمالها في سورية من قبل.
٤) إن مشاركة البوارج الفرنسية بعملية قصف المناطق السورية، ومشاركة الطيران الحربي البريطاني في التحليق فوق الأجواء التركية والسورية انطلاقاً من القاعدة البريطانية العاملة في قبرص، إضافة إلى عملية التشويش الأميركي على الرادارات السورية والروسية، يشي بأن الغرض من هذه العملية العسكرية الطويلة هو أكبر من مجرد تدمير أهداف عسكرية.
إن حدث سقوط الطائرة الروسية ليس حدثاً عرضياً، وإن وصفه الرئيس الروسي بالحادث المأساوي، وأنه حدث ضمن سلسلة من حوادث عرضية فاجعة، فالحصيلة كانت كارثية أودت بحياة 15 بين ضابط وجندي روسي.
إن المسؤولية في إسقاط الطائرة الروسية تقع على عاتق العدو الإسرائيلي بشكل مباشر، لأن طاقم العدو الإسرائيلي المغير تعمد تشكيل دائرة من «الكوما الرادارية» حول الطائرة الروسية، حيث يمكن للطائرات الإسرائيلية الاحتماء والتلطي بالطائرة الروسية المنكوبة، ما يصعب المهمة على الدفاعات الجوية السورية وهذا ما يفسر تصريح وزارة الدفاع الروسية متهمة الطاقم الإسرائيلي بأنه تصرف بشكل غير مهني بمعنى «غير أخلاقي» لأن الإسرائيليين تقصدوا إلحاق الأذى بالطائرة الروسية.
بعد تجميع المعطيات، وفي قراءة أولية، يتضح أن الغرض الحقيقي من الغارة الإسرائيلية على اللاذقية بالاشتراك مع البارجة الفرنسية والطائرات البريطانية والتشويش الأميركي لمدة 55 دقيقة متواصلة، ليس تدمير أهداف عسكرية وحسب وإنما هو عمل عسكري متدحرج يأخذ بالاتساع، وصولاً إلى نتائج من شأنها منع الجيش العربي السوري من تحرير إدلب ومحيطها، والتفرغ لمسألة الوجود الأميركي في التنف وفي شرق الفرات، وأيضاً بهدف قلب الطاولة وإعادة الأمور في سورية إلى المربع الأول، إضافة إلى إضعاف وإحراج الدور الروسي في سورية والحد من نفوذه الآخذ في التصاعد، ومنع تركيا من تنفيذ الاتفاق المبرم في سوتشي.
وهنا يبرز السؤال: هل كان أردوغان على علم مسبق بالعملية العسكرية الإسرائيلية ـ الفرنسية ـ البريطانية؟ وهل كانت موافقته على الاتفاق مع بوتين للتغطية وكسب الوقت بانتظار نتائج العمل العسكري الواسع ضد سورية وانقلاب الطاولة؟
في المعلومات أن بعض السفراء والشخصيات الحكومية في دول خليجية، إضافة إلى أوساط حكومية فرنسية على صلة وثيقة بالعدو الإسرائيلي، أوعزت إلى بعض التيارات السياسية في كل من لبنان والعراق وتركيا بانتظار حدث كبير في سورية من شأنه إعادة خلط الأوراق من جديد، وانتعاش الآمال في استكمال المخطط الإسرائيلي الغربي الخليجي ضد سورية وإيران وبما يطيح بكل الانجازات الميدانية في سورية، وبذلك تمنع سورية وروسيا من إعلان الانتصار على الإرهاب، ويعاد الأمر إلى المربع الأول.
الكلام الذي ألقى باللائمة على روسيا بسبب عدم ردعها إسرائيل من الاستمرار باستباحة الأجواء السورية هو كلام غير منصف، وصحيح أن روسيا كشفت عن علمها المسبق بالغارات الإسرائيلية السابقة على سورية، إلا أن هذا الأمر يدخل ضمن نطاق تنظيم الخطوط الحمراء للاشتباك، خصوصاً أن روسيا لم تكن يوماً طرفاً في النزاع العربي ـ الإسرائيلي. كما أن روسيا ليست ضمن محور المقاومة، كما يحلو للبعض وصفها، وهي تريد الاستفادة من استمرار علاقاتها الجيدة مع كل الأطراف في المنطقة ما يمكنها من لعب دور الوسيط النزيه. لذلك فإن إلقاء اللوم على روسيا ليس في محله، لأن طبيعة القرار في روسيا خاضع إلى مؤسسات عسكرية واقتصادية. ويجب ألا ننسى أن اللوبي الصهيوني الاقتصادي له تأثيره البالغ في روسيا. إذن روسيا تراعي مصالح الحلفاء بشرط عدم الإضرار بمصالحها. ثم إن روسيا لعبت دوراً مهماً في وقف الجموح الإسرائيلي والتركي تحديداً، ومنعهما عن إعاقة استعادة مناطق واسعة من الجغرافيا السورية إلى حضن الدولة والجيش السوري، ومن دون روسيا كانت فاتورة الدماء السورية أكثر بكثير مما دفعته سورية حتى اليوم.
مهما تكن نتائج التحقيق في إسقاط الطائرة الروسية، نستطيع القول إن كل الرهانات على إعادة عقارب الساعة للخلف في سورية باءت بالفشل، وإن رهان بعض التيارات والشخصيات اللبنانية والحكومات العربية والغربية على حدوث متغيرات في سورية قد سقط، وان زمن «الرقص الأردوغاني» على حبال أميركية قد انتهى إلى غير رجعة، ولم يعد أمام أردوغان من خيار إلا تنفيذ ما وعد بتنفيذه من الاتفاق الروسي ـ التركي بكامل بنوده وبحذافيره ضمن المهلة المعطاة، وإلا فإن عاصفة الطائرة «ايل 20» الروسية هذه المرة لن تستثني أحداً.
أما حساب إسرائيل في السجل الروسي، فقد صار مديناً، متجاوزاً الخط الأحمر وغدا غير مسموح باستمرار ممارسة غض الطرف عن تجاوزه، وأضحى لزاماً على إسرائيل إعادة جدولة حساباتها وتسديد كامل الفاتورة لروسيا، وإلا فإن روسيا، بما تمتلك من وسائل في سورية، كفيلة بتحصيل كامل حقوقها مع «الفوائد المستحقة».
الوطن -رفعت البدوي
إضافة تعليق جديد