«سوريون بعنوان».. وأصوات محمود درويش
«السائق العصبي، الجندي، الجامعي، السيّدة، الشاعر، والمسافر».. شخصيات المسرحية التي اقتبسها عرض «سوريون بعنوان» (مسرح سعد الله ونوس) من أشعار محمود درويش، مطوعاً تعدد الأصوات (البوليفونية ـPolyphonie) في نصوص: «لا تعتذر عمّا فعلت، الجدارية، مديح الظل العالي»، لتأتي كحوارات درامية قام بأدائها طلاب «المعهد العالي للفنون المسرحية»، مرتكزين في هذه التجربة التي أشرف عليها كل من سامر عمران، ووسيم قزق، وشادي كيوان، ونورس عثمان على إيحائية النص الشعري كخطاب أدبي ينطوي على حوارية الأنا والآخر.
الطاقة السردية لنصوص الشاعر الفلسطيني الراحل جعلت من الخشبة فضاءً مفتوحاً على أنواع عديدة من الفرجة. فأجواء السجن والباص والمشفى والمطار والمقابلات التلفزيونية أتت جنباً إلى جنب مع أجواء قوارب الموت المطاطية التي يستقلها المهاجرون السوريون في تغريبتهم الأكثر قسوة وعنفاً وعبثية، فلم يحتكم «سوريون بعنوان» إلى أحادية السرد المسرحي للقصيدة الدرويشية، بل دمجوا بين مستويات عدة من الأداء الجماعي الراقص، منحازين في ذلك لمقولة رددها الفنان زهير عبد الكريم بين كل لوحة وأخرى مستعيداً كلمة الراحل سعد الله ونوس: «إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم ليس نهاية التاريخ».
مغامرة الشكل الفني هذه جاءت أيضاً لتترواح بين النبرة التراجيدية والكوميديا الساخرة، ما شتت الانتباه عن الأطروحة المسرحية الأساسية التي استعارت قصائد درويش دون أن تعمل على خلق حلول إخراجية قادرة على تدجين الشــعر على الخشبة. فانتحــال القصائد عبر نبرات متعددة، لا تعني شيئاً إزاء توضيح الشــخصيات التي تقولها. من هنا، نعرف المسافة التي تركها هذا المقترح بينه وبين القصيدة بوصفها خطاباً ظلت متشابهة ولا متمايزة بين كل ممثل وآخر.
في المقابل، نجح العرض الذي أنتجته وزارة الثقافة في تمرير إشارات قوية عن اللحظة السورية الراهنة، متناولاً جدلية الموت والحياة فوق قارب مطاطي، أو وراء قضبان سجن، أو في صالة انتظار إحدى المطارات، حيث تصير الشخصيات أكثر واقعية وقرباً من المتفرج، مبتعدةً عن تقمص دور الشاعر، ومستعيرةً لسان حال شعبٍ بأكمله.
فالتورية التي ساقها «سوريون بعنوان» وَظَّفَت مأساة البلاد في عامها السادس كمادة درامية تتجاور عبرها مونودرامات عدة في صراع ملحمي بين غرقى ومهاجرين وقتلة مأجورين.
صدامية أعلت من تواتر الحدث السوري، متخذةً من العباراة الشعرية سياقاتٍ متنوعة لمآلات الحب والحرب والهجرة، مستندةً في ذلك على قوة الأداء البدني والصوتي، ووفق متتالية عدمية يصير فيها «الجميع في حربٍ مع الجميع».
هكذا، فرواد المحطة والمقهى وركاب الباص ومسافرو المطارات ومهاجرو المراكب ومحللو ندوات الثقافة والدفاع عن المرأة، جميعهم يصبحون في سفينة أقرب إلى سفينة نوح سورية، حيث طوفان الدم والخراب يتمادى في جعل كل الشخصيات رهينة البعد الفجائعي للقصيدة ـ المسرحية، ومادةً لنوعية جديدة من الصراع بين عنف البقاء وعنف الهجرة في سديم بحـري يـتوازعه القتلة وعصابات التهريب البحري.
هذا التناغم بين مضمون العرض وشكله الفني ترك للضوء مساحات متنافرة، شكّلته كتل الراقصين ببراعة، فانعكست على أداء حار أخرج العرض من المونولوجية، وترك مساحة إضافية من اللعب الحر والبريء بين مجاميع الممثلين الشباب.
ولولا أن الشطط في بعض الحوارات والإصرار على الإضحاك في بعض المواقع، أبعد العرض عن ذلك العمق المرتجى منه، لتبقى هذه المجازفة رهينة شكلانية أدت في آخر المطاف إلى اصطناع خاتمة، بدلاً من النبش أكثر في مصائر الشخصيات المقترحة وهواجسها عن وطنٍ محمول على ظهر قوارب مطاطية وحقائب سفر.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد