«رسالة» العقاد ما زالت مقروءة
في صيف 1976 كنت في لندن, مع مطلع جيوش المصطافين العرب إلى أوروبا. بالطبع كانت تجري قبل السبعينات الميلادية حملات عربية صغيرة للاصطياف، لكن الطفرة النفطية بعد حرب 1973 هي التي مكنت من تجهيز الجيوش العربية المصطافة في لندن وباريس وجنيف، خصوصا بعد أن أغلقت بيروت في وجه مصطافيها المألوفين.. بسبب ارتباطها بحفلات الحرب الأهلية!
وهكذا جئنا إلى لندن ونحن مكلومون بحروب أهلية في مكان أو بحروب ما زالت غير مصنفة بالهزيمة أو الانتصار في أمكنة أخرى. جئنا إلى لندن لا نحمل سوى الانتصار «المالي» من طفرة أسعار النفط، انتصار ملأ جيوبنا.. لكنه لم يملأ قلوبنا.
حينذاك.. نزلت إعلانات في شوارع وجدران لندن عن نزول فيلم جديد في صالات السينما اسمه «الرسالة» يحكي سيرة الرسول ومسيرة الإسلام، من إنتاج وإخراج وتمثيل عربي، وتمثيل أجنبي للنسخة الإنكليزية. كنا نعلم التشويه الذي تقوم به صناعة السينما الغربية لصورة العربي الشهواني (لم تكن قد ظهرت آنذاك صورة العربي الإرهابي!). ولم نكن واثقين من أن المخرج العربي لفيلم «الرسالة» سيكون متحيزا لبني قومه أو على الأقل محايدا أمام ضغوط الإعلام الغربي. ثم لو كان المخرج العربي وطنياً منتمياً لأمته فقد لا يكون مهنيا قادرا على مجاراة بلدوزر هوليوود.
حملنا هواجس القلق هذه معنا وذهبنا لمشاهدة فيلم «الرسالة».
بعد قرابة ساعتين ونصف من مشاهدة الفيلم في قاعة سينما مكتظة بالجمهور، كان التصفيق بعد النهاية من قبل مئات المشاهدين هو التعبير النقدي الأول لمستوى الفيلم. لم نكتف أنا واقراني بمشاهدة واحدة للفيلم، بل حضرناه في الغد وبعد الغد. وفي كل يوم كنا نخرج من صالة السينما ونحن أكثر شوقا لمشاهدته، وليس مللا وفتورا كما قد يحدث مع أي فيلم آخر.
منذ ذلك الحين، عرفنا مصطفى العقاد وعبدالله غيث ومنى واصف وانتوني كوين. عرفنا الموسيقى التصويرية المميزة في ثنايا الفيلم التي ما زالت الأكثر تداولا واستخداما في البرامج الإسلامية.
بلغ مصطفى العقاد العالمية بفيلمه «الرسالة»، ثم كرس تميزه وشهرته تلك بفيلمه التالي في عام 1981 عن «أسد الصحراء.. عمر المختار».
أصبحنا بعد ذلك نتساءل دوما: أين مصطفى العقاد لينقذنا من طعنات السينما الغربية وغثاء السينما العربية؟
لكن العقاد لم يظهر في صورة الأحداث مثلما ظهر في فيلميه الشهيرين، إلا في الفيلم الدموي الذي لقي فيه حتفه، رحمه الله، أثناء التفجير الإرهابي الذي وقع في عمان بالأردن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005.
مصطفى العقاد الذي خدم الإسلام كما لم يفعل كثيرون مثله، لقي حتفه في تفجير إرهابي باسم الإسلام.. يا للمفارقة المحزنة، والجزاء المخجل!
كان المخرج العبقري يحضّر لفيلم سينمائي عن صلاح الدين الأيوبي على غرار جودة وتميز «الرسالة» و «عمر المختار».
قال عن تسويقه للفيلم المقبل: «صلاح الدين يمثل الإسلام تماماً. الآن الإسلام صوّر كدين إرهابي. حصل الدين كله على هذه الصورة بسبب وجود مسلمين إرهابيين عدة. إذا كان هناك دين ممتلئ بالإرهاب فيمكن قول ذلك عن المسيحية أيام الحملات الصليبية، لكننا في الواقع لا يمكننا لوم المسيحية كدين بسبب مغامرات بعض أتباعها آنذاك.. هذه هي رسالتي». عاش الراحل مصطفى العقاد أكثر من ثلثي حياته في الغرب، ورغم ذلك فهو لم ينهزم داخليا، كما حدث لبعض الذين عاشوا هناك أياما معدودات!
تذكرت فيلم «الرسالة» ومصطفى العقاد، من حيث لم أنسهما أبدا، حين تكرمت فضائية MBC ببث الفيلم مساء قبل أول أمس، ليلة عيد الأضحى المبارك.
شاهدته مع أبنائي، بعد أن شاهدته مع أبي في لندن قبل 32 عاما، وكأني أشاهده للمرة الأولى. فيلم «الرسالة» لم يكتسب نجاحه من خلال مضامينه المعرفية فحسب، بل لأنه أيضا تحفة فنية مشغولة بمهارة وإبداع تلمسهما أكثر عندما تقارنه، وقد أنتج قبل أكثر من ثلاثين عاما، مع الإنتاج الذي تفرزه السينما العربية الآن، بالذات في الموضوعات التاريخية والوثائقية.
فيلم «الرسالة» له مفعول منعش.. وسط الإحباط الذي نعايشه من تشويه الإسلام بيد الإرهابيين، أو تهميشه بيد المرهبين!
ما زال اسم مصطفى العقاد يرن في ذاكرة الذواق العربي لأجل فيلمين فقط يعرفهما المشاهد العربي عنه: «الرسالة» و «عمر المختار». لقد ألهمني هذا أن أتشبث بإيماني القديم بالمدرسة الكيفية (النوعية) في الإنجاز.. فأن تنجز عملا واحدا فائق التميز والنجاح خير من أن تنجز مئة عمل بنجاح كمي فاتر.
شكرا أيها العقاد الملهم.. رحمك الله رحمة واسعة، فالرسالة التي كتبتها عن الإلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ما زالت تقرأ حتى الآن.. رغم الظلام!
زياد بن عبد الله الدريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد